آفة البشرية التاريخية.. من اخترع التدخين والسجائر؟
يشكل التدخين أحد أكبر التحديات الصحية التي تواجه البشرية في عصرنا الحالي، فبالرغم من الحملات التوعوية المكثفة وحظر التدخين في الأماكن العامة، لا يزال ملايين الأشخاص حول العالم يستهلكون منتجات التبغ المختلفة، معرضين أنفسهم ومحيطهم لمخاطر صحية جسيمة.
والتدخين هو استنشاق الدخان الناتج عن احتراق التبغ، والذي يحتوي على آلاف المواد الكيميائية الضارة، بما في ذلك النيكوتين الذي يسبب الإدمان، والقطران الذي يسبب السرطان، وأول أكسيد الكربون الذي يقلل من قدرة الدم على حمل الأكسجين.
ويعد جيمس ألبرت بونساك مخترع السيجارة الحديثة بفضل تطويره لآلة لف السجائر عام 1880، وقد عملت هذه الآلة على إتمام عملية لف السجائر ما زاد إنتاجها بشكل كبير، وجعلها أكثر تكلفة وفي متناول عدد أكبر من السكان.
ومع ذلك، كان الناس يدخنون التبغ منذ آلاف السنين، وقد تضمن تطوير السجائر كما نعرفها اليوم، مساهمات العديد من الأشخاص الآخرين بصرف النظر عن جيمس ألبرت بونساك والابتكارات في معالجة التبغ وتصنيع الورق وتكنولوجيا آلة اللف على مر القرون وصولًا إلى السجائر الإلكترونية في يومنا الحالي.
مخترع السيجارة الحديثة
يُنسب إلى جيمس ألبرت بونساك اختراع السيجارة الحديثة، ففي عام 1880، حصل بونساك على براءة اختراع لآلة تُعرف باسم "آلة لف السجائر بونساك".
كانت هذه الآلة ابتكارًا مهمًا في صناعة التبغ، فقد قامت بجعل عملية لف السجائر أوتوماتيكية، مما جعلها أسرع وأكثر كفاءة وأقل جهدًا في العمل من اللف اليدوي.
وقبل اختراع آلة بونساك، كانت السجائر تُلف يدويًا، مما حد من قدرتها الإنتاجية وجعلها باهظة الثمن نسبيًا، قبل أن تغير آلة بونساك هذا الأمر من خلال تمكين الإنتاج الضخم للسجائر مما دفع باتجاه انخفاض كبير في تكلفة تصنيع السجائر، وبالتالي جعلها أكثر انتشارًا بين السكان بشكل عام بسبب سعرها الذي أصبح بمتناول الجميع.
ونتيجة لذلك، أصبحت السجائر متاحة أكثر من أي وقت مضى واكتسبت شعبية بين مجموعة أوسع من المستهلكين.
وقد ساهم هذا في نمو وتوسع صناعة التبغ أيضًا، مما أدى إلى إنشاء شركات تصنيع السجائر الكبرى.
خصائص مقدسة للتبغ
قبل ذلك، وضع استخدام التبغ الأساس لتطوير السجائر بدءًا من السكان الأصليين في الأميركيتين، ويعود تاريخ التدخين إلى آلاف السنين واستخدمته العديد من الحضارات، حتى إن العلماء اكتشفوا أدلة على استخدام التبغ في أميركا الجنوبية يعود تاريخها إلى 12300 عام.
ولم يكن هؤلاء السكان الأصليون يدخنون السجائر لمجرد المتعة؛ فبالنسبة لهم كان التبغ يحمل خصائص مقدسة تعد جزءًا لا يتجزأ من الاحتفالات الدينية والطقوس والأغراض الطبية.
وكان كريستوفر كولومبوس وطاقمه هم أول من صادف التبغ أثناء رحلاتهم إلى العالم الجديد وبادروا بنشره ونقله إلى أوروبا.
ومع تقديمه إلى أراضٍ جديدة، بدأ التبغ في الانتشار عبر ثقافات وممارسات مختلفة، وأصبح أبعد من حدوده المقدسة الأصلية.
الانتقال من الغليون إلى السجائر
مع انتقال التبغ إلى ما خلف المحيطات، تبدل شكله واستخدامه ليتماشى مع المعايير المجتمعية المتنوعة والتقدم التكنولوجي.
فعلى سبيل المثال كان الإنكليز يستمتعون بتدخين الغليون، إنما بحلول القرن التاسع عشر، وسط الإسراف المبتكر في الثورة الصناعية، بدأ مفهوم استهلاك التبغ يتحول ليأخذ شكلًا أكثر قابلية وأكثر سهولة في الحمل والاستهلاك، مما مهد الطريق لظهور السجائر التي نعرفها.
وبصرف النظر عن جيمس بونساك، كان جان نيكوت السفير الفرنسي في البرتغال في القرن السادس عشر، من الشخصيات الرئيسية في اختراع السجائر.
لم يشتهر نيكوت باختراع السجائر، ولكن بإدخال التبغ إلى البلاط الفرنسي، وأصبح "مبشرًا" غير متعمد بعصر التبغ في أوروبا.
كما كان هناك أشخاص آخرون شاركوا بطريقة ما في تطوير السجائر الحديثة، في حين لعبت شخصيات مثل روبرت غلوغ الذي يُنسب إليه غالبًا إنتاج واحدة من أولى السجائر الملفوفة بالورق في القرن التاسع عشر أدوارًا محورية، إلا أن المدخلات الجماعية للمبتكرين والمزارعين والمُسوقين هي التي صاغت السجائر وحولتها إلى ظاهرة عالمية.
"ترياق" أوروبا
على الرغم من أنه تم اختراع السجائر الحديثة عام 1880 مع اختراع آلة لف السجائر بواسطة جيمس ألبرت بونساك، إلا أن البشر كانوا يدخنون التبغ منذ آلاف السنين وتاريخ التدخين والجدول الزمني التاريخي للتبغ غني ومعقد للغاية.
فجذور التبغ راسخة في الممارسات القديمة، لكن لم ينتشر عالميًا إلا خلال القرن السادس عشر، بعد أن نقل المستكشفون الأوروبيون التبغ من العالم الجديد إلى أوطانهم، فأصبح هذا النوع من النبات شائعًا في أوروبا.
وتباينت التفسيرات المجتمعية والثقافية للتبغ بشكل كبير، ففي بعض الدوائر، كان يُنظر إليه على أنه علاج أو ترياق لكل داء، بينما في دوائر أخرى، كان يُستمتع به للترفيه والتواصل الاجتماعي، وفق موقع "هيستوري كوؤبرتيف".
أما أول مظهر للسجائر كما نعرفه اليوم فكان أثناء حرب القرم (1853-1856)، عندما بدأ جنود الإمبراطورية العثمانية تحت الحصار في لف التبغ في قطع من الورق كطريقة مؤقتة للتدخين.
وفي الوقت نفسه، في المناطق المعزولة في فرنسا وإسبانيا، بدأ السكان الفقراء في تبني ممارسة مماثلة، من خلال لف قصاصات السيجار المتبقية يدويًا في الورق لخلق تجربة تبغ بأسعار معقولة.
ولم ينتشر تدخين السجائر على نطاق واسع إلا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بعدما حفزت المكننة ولا سيما من خلال اختراعات مثل آلات صنع السجائر التي ابتكرها بونساك، الإنتاج الضخم، وخفض التكاليف، وجعل السجائر في متناول الجماهير.
وبفضل التسويق الذكي الذي تغلغل في نفسية المجتمع، شقت السجائر طريقها إلى جوانب مختلفة من الحياة اليومية، فشكلت الأعراف الاجتماعية وأصبحت سلعة عالمية.
كما تضمنت حصص الإعاشة العسكرية خلال الحربين العالميتين السجائر، فأصبحت عن غير قصد وسيلة للتوزيع والترويج العالمي.
إستراتيجيات تسويق السجائر
بحسب موقع "هيستوري" استغلت صناعة التبغ ثمار البصيرة التجارية، فوجهت جهودها الترويجية إلى مجموعة متنوعة من الفئات السكانية.
فمن استحضار روح المرأة المحررة في عشرينيات القرن العشرين إلى ربط التدخين بالرجولة، مارس عمالقة الصناعة مثل فيليب موريس وغيره نفوذهم لتطبيع التدخين بين الجنسين والطبقات الاجتماعية والأعمار.
بعدها، دفع ازدهار صناعة التبغ في القرن العشرين هذه الصناعة إلى أن تصبح قوة اقتصادية هائلة، حيث ساهمت بشكل كبير في الاقتصادات الوطنية، وفي الوقت نفسه نسجت نسيجًا اجتماعيًا معقدًا حيث كان يُنظر إلى التدخين من خلال عدسة التألق والرقي والترابط الاجتماعي.
وقد تكشف تأثيرها من خلال تحفيز النشاط الاقتصادي، وتأمين الوظائف الجديدة في المعامل، فضلًا عن إيرادات الضرائب، وفي المقابل بدأت تظهر علامات الاستفهام بشأن المخاطر الصحية، والمعضلات الأخلاقية، والأعباء المجتمعية لهذه الصناعة.
ومع تزايد الوعي بأضرار التدخين بدأت الحملات التوعوية لمكافحته، وفرضت العديد من الدول قيودًا على الإعلان عن منتجات التبغ والتدخين في الأماكن العامة.
ولا يزال التدخين موضوعًا مثيرًا للجدل، حيث يتصارع المدافعون عن الصحة العامة مع مصالح شركات التبغ.