الثلاثاء 25 آذار / مارس 2025
Close

أحد أبطال هروب سجن جلبوع.. زكريا الزبيدي "التنين الذي يطارد الصيّاد"

أحد أبطال هروب سجن جلبوع.. زكريا الزبيدي "التنين الذي يطارد الصيّاد" محدث 27 كانون الثاني 2025

شارك القصة

زكريا الزبيدي،، التنين يطارد الصيّاد-غيتي
زكريا الزبيدي،، التنين يطارد الصيّاد-غيتي
الخط
تدرّجت رحلة زكريا الزبيدي من مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى خشبة المسرح، ومنه إلى السلاح والهروب وتنفيذ هجمات انتقامية موجعة، فالسجون والهروب الأسطوري منها.

يكاد يكون زكريا زبيدي، قائد كتائب شهداء الأقصى في مخيم جنين، يكون أسطورة لا تتكرر في تاريخ النضال الفلسطيني، كيف لا وهو أحد أبطال الهروب الكبير من سجن جلبوع، والذي يوصف بالتنين الذي لا يتوقف عن مطاردة الصيّاد.

ففي السادس من سبتمبر/ أيلول عام 2021 استفاقت إسرائيل على واحدة من أكبر صدماتها الأمنية على الإطلاق. يومها، تمكّن ستة أسرى فلسطينيين من الفرار من أكثر سجونها تحصينًا: سجن جلبوع أو "الخزنة الحديدية" كما يوصف، الذي تسجن فيه من تعتبرهم الأخطر أمنيًا من الأسرى الفلسطينيين.  

كان الأسرى الستة كلهم من مدينة جنين ومخيمها، خمسة منهم من حركة الجهاد الإسلامي وهم: مناضل يعقوب انفيعات، ومحمد قاسم عارضة، ويعقوب محمود قدري، وأيهم فؤاد كممجي، ومحمود عبد الله عارضة، إضافة إلى زبيدي.

من مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) إلى خشبة المسرح، ومنه إلى السلاح والهروب وتنفيذ هجمات انتقامية موجعة، فالسجون والهروب الأسطوري منها، كانت رحلة زكريا الزبيدي، بينما كان أحبابه يُقتلون، الأب بالسرطان، والأم برصاص قنّاص إسرائيلي خلال حصار مخيم جنين عام 2002، والأشقاء والنجل الأكبر والرفاق، كلهم، كلهم كانت إسرائيل تصطادهم على خشبة مسرح يمتد على مساحة الجغرافيا الفلسطينية بأسرها.

الحياة ليست فنًا أو عرضًا مسرحيًا بشحنة درامية عالية وحسب، بل أقسى. هذا ما عرفه الزبيدي فيما بعد.

والصيّاد ليس طيبًا أو قديسًا دائمًا، كما في الصورة الأيقونية للقديس مار جرجس (الخضر في الثقافة الإسلامية) وهو يوجّه رمحه إلى فم التنين ليحمي العروس الجميلة، بل قاتل يترصد ضحاياه ولا يجد ضيرًا في إبادتهم، ما يقلب الصورة الأيقونية رأسًا على عقب.

من هو زكريا الزبيدي؟

الزبيدي، قائد ما توصف بملحمة الصمود في مخيم جنين مطلع الألفية الثانية، والذي رأى أن على التنين أن يتمرد وأن ينتصر لدمه، ولد في مخيم جنين (شمالي الضفة الغربية) عام 1976 لعائلة تتكوّن من سبعة أبناء (خمسة ذكور وابنتان). الأب كان مدرسًا للغة الإنكليزية، وعضوًا في حركة فتح، وتوفي مبكرًا تاركًا للأم (سميرة الزبيدي) مسؤولية العائلة الكبيرة. 

يقول الزبيدي إنه نشأ في بيت "لا حديث فيه سوى عن الثورة والغضب من الاحتلال"، فوالده كان عضوًا في حركة فتح، وجده من طرف والدته محمد جهجاه، كان قد فر برفقة 77 أسيرًا من "سجن شطة" الإسرائيلي عام 1958، في حادثة وصفت في حينه بـ"الهروب الكبير".

تمكن الزبيدي وخمسة من رفاقه من الهرب من سجن جلبوع عام 2021-غيتي
تمكن الزبيدي وخمسة من رفاقه من الهرب من سجن جلبوع عام 2021-غيتي

وخاض خلالها 190 أسيرًا فلسطينيًا مواجهة مع سجانيهم، وسيطروا على عدد منهم وقتلوا آخرين، بينما نجح 77 أسيراً منهم بالهرب، من بينهم محمد جهجاه، جد زكريا من جهة الأم الذي كرّر تجربه جده بعد نحو 63 عامًا بفراره وخمسة من رفاقه من سجن جلبوع. 

الإصابة الأولى والسجن الأول

بدأ زكريا الزبيدي رحلته في مقاومة الاحتلال مبكرًا، ففي عام 1989 حين كان في الثالثة عشر من عمره، أصيب برصاصة في ساقه بينما كان يرشق جنود الاحتلال بالحجارة.

كانت تلك الرصاصة الأولى التي يتلقاها من الصيّاد الإسرائيلي، ما ترك ندوبًا لم تلتئم في روحه وجسده، فبعد أربع عمليات جراحية انتهى الأمر بالزبيدي بقدم أقصر من الأخرى. وفي الـ15 من عمره ألقي القبض على الفتى الصغير مجدّدًا بتهمة رمي الحجارة على جنود الاحتلال، وسُجن 6 أشهر، وكانت تلك أولى تجاربه في السجون الإسرائيلية.

على أن ذلك لم يفتّ من عضد الفتى الذي ترك مدرسته وطوّر أدواته في مواجهة الصيّاد، فبدلًا من رمي الحجارة أصبح يرمي قنابل المولوتوف على جنود الاحتلال، ما تسبّب في سجنه فترة أطول هذه المرة (أربع سنوات ونصف السنة)، وفي سجنه انضم الشاب صغير السن إلى حركة فتح كما تعلّم اللغة العبرية.

 السجن الأول للزبيدي عندما كان عمره  15 عاما والأخير كان في منتصف الأربعينات -غيتي
السجن الأول للزبيدي عندما كان عمره 15 عاما والأخير كان في منتصف الأربعينات -غيتي

أُفرج عن الزبيدي وسواه في مايو/ أيار 1994 بموجب اتفاق أوسلو عام 1993، فانضم إلى قوات الأمن الفلسطينية التي شكّلتها السلطة الفلسطينية آنذاك في أريحا، واستمر في عمله حتى عام 2000 الذي كان عامًا حاسمًا في مسيرته النضالية، فمع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية (2000-2005) كان على التنين أن يعود لمقارعة الصيّاد، وهو ما حدث بقيادة الزبيدي كتائب شهداء الأقصى التي تنتمي لحركة فتح، وأصبح قائدها في جنين التي تعرّض مخيمها آنذاك لتدمير هو الأكبر في تاريخ المخيمات والمدن الفلسطينية في الضفة الغربية. 

مقاومة جنين وصعود الزبيدي

قاد الزبيدي العمليات العسكرية في مخيم جنين، وتحوّل بيت عائلته إلى ثكنة عسكرية ومركزًا لقيادة المقاومة، وتحوّل الزبيدي إلى الرجل الأكثر أهمية في جنين والضفة الغربية، لكن ذلك ترافق مع آلام وتضحيات شخصية متلاحقة، ففي ديسمبر/ كانون الأول 2001، تعرّض خلال تنفيذه إحدى العمليات العسكرية لانفجار تسبّب في حروق شديدة في وجهه وعينيه، وخلّف ندوبًا سوداء في وجهه.

قاد الزبيدي كتائب شهداء الأقصى في مخيم جنين مطلع الألفلية الثانية-غيتي
قاد الزبيدي كتائب شهداء الأقصى في مخيم جنين مطلع الألفلية الثانية-غيتي

وفي مارس/آذار، قبل ثلاثة أيام من الهجوم الاسرائيلي على مخيم جنين، استشهدت والدته برصاص قناص إسرائيلي، بعد وقت قصير من استشهاد أحد أشقائه (طه).

وكان قد استشهد في معارك جنين التي قادها الزبيدي ونفر من رفاقه، أكثر من 500 فلسطيني، ومسحت بيوت المخيم  بالأرض، في معارك وقعت بين المنازل، وارتكبت خلالها قوات الاحتلال أعمال قتل عشوائية، واستخدمت المدنيين دروعًا بشرية.  

مجزرة مخيم جنين عام 2002-غيتي
مجزرة مخيم جنين عام 2002-غيتي

وفي أعقاب مجزرة جنين في أبريل/ نيسان 2002، زار المخيم وفد يضم شخصيات ثقافية وأدبية عالمية، منهم الروائي الأمريكي راسل بانكس، والنيجيري وول سوينكا، الحائز جائزة نوبل للآداب، والبرتغالي خوسيه ساراماغو، الحائز أيضًا على جائزة نوبل للآداب، والصيني بي داوو الصيني، والشاعر والروائي الجنوب إفريقي برايتن برايتناخ والإسباني خوان غويتسولو وآخرون.

وكتب ساراماغو بعد زيارته لمخيم جنين قائلًا: "كل ما اعتقدت أنني أملكه من معلومات عن الأوضاع في فلسطين  تحطّم، فالمعلومات والصور شيء، والواقع شيء آخر.

يجب أن تضع قدمك على الأرض لتعرف حقًا ما الذي جرى هنا. يجب قرع أجراس العالم بأسره لكي يعلم أن ما يحدث هنا جريمة يجب أن تتوقف

لا توجد أفران غاز هنا، ولكن القتل لا يتم فقط من خلال أفران الغاز. هناك أشياء تم فعلها من الجانب الإسرائيلي تحمل نفس أعمال النازي في أوشفيتس. أنها أمور لا تغتفر يتعرض لها الشعب الفلسطيني".

ولا يُعرف ماذا سيقول ساراماغو الذي توفي عام 2010، لو كان على قيد الحياة وزار غزة التي شهدت دمارًا مهولًا يذكّر بأوضاع بعض المدن الألمانية واليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن القطاع الذي كان مغلقًا على الصحافيين الأجانب خلال 471 يومًا من حرب الإبادة التي شُنّت عليه ربما يكون مسرحًا لزيارات هؤلاء وكتاب عالميين كبار في مقبل الأيام ليروا حجم الدمار الذي لحق به وبسكانه.

العفو فالمطاردة مجدّدًا

بعد مجزرة جنين التي كُتب عنها الكثير وأُنتجت عنها أفلام وثائقية، اتُهم الزبيدي عام 2002 بتدبير هجوم مسلح على مقر حزب الليكود، أدى إلى مقتل 6 إسرائيليين، فوضعته على رأس قائمة المطلوبين مجدّدا، وطاردته لعدة سنوات، تمكن خلالها من الإفلات من قبضة "الصيّاد" الذي كان يلاحقه ويترصده، إلى أن أصدر الرئيس الفلسطيني عام 2007 مرسوما بحلّ التنظيمات المسلحة، بما في ذلك كتائب شهداء الأقصى، فسلّم الزبيدي سلاحه، مقابل عفو إسرائيل عنه وعن بقية عناصر الكتائب.

استشهدت والدة الزبيدي برصاص قناص إسرائيلي قبل مجزرة جنين بايام-غيتي
استشهدت والدة الزبيدي برصاص قناص إسرائيلي قبل مجزرة جنين بايام-غيتي

لكن إسرائيل (الصيّاد) التي أصدرت عفوًا عن الزبيدي تراجعت عن هذا العفو عام 2011 وأعادت الزبيدي إلى قائمة المطلوبين مجدّدًا، واعتقلته عام 2019، بعد اقتحام قوات كبيرة من جيشها مدينة رام الله، بتهمة تورطه في "أنشطة تحريضية جديدة" ضدها، وتنفيذ هجومين على حافلتين خارج مستوطنة بيت إيل بالضفة الغربية، إضافة إلى تهم أخرى. 

لكن "التنين" الذي وقع في الأسر نجح مع خمسة من رفاقه بالفرار من سجن جلبوع حيث اعتُقل، عبر نفق حفروه بالملاعق تحت الأرض، قبل أن يعود الصيّاد لاعتقالهم بعد أيام قليلة، في أكبر عملية ملاحقة وتفتيش قام بها الجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة.  

كما نجا الزبيدي من أربع محاولات اغتيال على الأقل، وهُدم منزل عائلته ثلاث مرات، واستشهد أشقاء له ونجله الأكبر محمد ووالدته وكثير من رفاقه، لكن جذوة المقاومة لم تخمد يومًا في روح الزبيدي الذي التحق بجامعة بير زيت في مايو/أيار 2017 لنيل درجة الماجستير، في موضوع مستوحى من تجربته النضالية، ويحمل عنوان "الصياد والتنين: المطاردة في التجربة الفلسطينية من عام 1968 إلى 2018″. 

أبناء آرنا

أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أنشأت الناشطة اليهودية آرنا خميس (1929-1995)، المتزوجة من الفلسطيني صليبا خميس، مسرحًا في مخيم جنين، للتخفيف عن الأطفال الفلسطينيين خلال الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة 1987-1993)، وسُمّي حينها "بيت الطفولة"، قبل أن يصبح اسمه "مسرح الحجر" فـ "مسرح الحرية". 

مسرح الحرية في جنين وجدل الفن والمقاومة في حياة زكريا الزبيدي-غيتي
مسرح الحرية في جنين وجدل الفن والمقاومة في حياة زكريا الزبيدي-غيتي

منحت والدة زكريا الزبيدي الطابق العلوي من بيتها في مخيم جنين للقائمين على المسرح، وكان زكريا في الثانية عشر من عمره عندما انضم وشقيقه الاكبر داود وأربعة فتيان إلى ذلك المسرح، وكانوا النواة الأولى لما بات يُعرف لاحقًا بأبناء آرنا

بفضل تلك التجربة أصبح زكريا ورفاقه أبطالًا على مسرحين، الفن والحياة، فما فشل فيه المسرح وهو تحرير الفلسطينيين كان على المقاومة أن تفعله أو تكمله، وهو ما كان عندما بدأ الفتى الصغير آنذاك يرشق جنود الاحتلال بالحجارة كبقية أقرانه، ويُصاب بالرصاص في إحدى ساقية، حين كان في الثالثة عشر من عمره.

هدمت قوات الاحتلال المسرح خلال هجومها الكبير على مخيم جنين عام 2002، لكن تمت إعادة بناؤه عام 2006، بتعاون بين الزبيدي ونجل آرنا، جوليانو مير خميس الذي قُتل عام 2011. 

ولا يزال مسرح الحرية الذي سيعود إليه الزبيدي، يقدّم أعمالًا مسرحية، كما يعقد ورشات تدريب في مجالات الدراما والموسيقى للأطفال والشبان وينجبهم، فعلى التنين أن يطارد أحلامه بعد أن أفلت مجدّدًا من رصاص الصيّاد.

تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي
تغطية خاصة