Skip to main content

أخبرت طفلتي أننا ذاهبون للتخييم.. صحافي يروي رحلة تهجيره من مدينة غزة

الثلاثاء 16 سبتمبر 2025
هذه هي المرة الثامنة منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة التي يُجبر فيها حمدونة على النزوح قسرًا - رويترز

"سنذهب جنوبًا للتخييم، حيث يمكننا اللعب في الرمال. إنّها مجرد رحلة، وبعدها يمكننا العودة إلى ديارنا" بهذه الكلمات حاول الصحافي الغزاوي نضال حمدونة طمأنة ابنته ذات الأعوام الثلاثة أثناء نزوح عائلته المؤلفة من زوجته وطفلتيه قسرًا من مدينة غزة، بينما كانت القوات الإسرائيلية تتقدّم لاحتلالها.

وكتب حمدونة في مقال لصحيفة "الاندبندنت" البريطانية، إنّه اضطر للتظاهر بأنّهم ذاهبون في رحلة تخييم جنوب القطاع المحاصر، من أجل تجنيب ابنته خطر ومعاناة ورعب حقيقة تهجيرهم القسري للمرة الثامنة.

ضحكت الفتاة الصغيرة، وشعرت بالحماسة، وحزمت حقيبتها المفضّلة، التي تحمل على مقدمتها لعبة بنفسجية محشوة على شكل خروف. وقالت راقصة: "هيا بنا إلى الجنوب!".

نزوح للمرة الثامنة

ينحدر حمدونة من بيت لاهيا في شمال غزة المشهورة بحقول الفراولة وبساتين البرتقال، قبل أن ينزح من منزله شبه المدمّر، عقب انهيار وقف إطلاق النار الأخير في مارس/ آذار الماضي.

ومنذ تكثيف إسرائيل غاراتها على شمال القطاع، لا يعلم حمدونة ما إذا كان منزله لا يزال قائمًا، ولا يدري إن كان سيتمكّن يومًا من الوفاء بالوعد الذي قطعه لابنته بالعودة إليه.

أصدر الاحتلال أوامر إخلاء لسكان مدينة غزة استعدادًا لاحتلالها - اندنبندنت

وخلال الأشهر القليلة الماضية، كان حمدونة يُقيم في مبنى مدمر جزئيًا في مدينة غزة، حيث أنجبت زوجته ابنته الثانية في الظلام ووسط القصف.

وقال حمدونة: "تمكنت من نقلها إلى المستشفى، لكن المستلزمات الطبية كانت شبه معدومة، إنه وضع كارثي. ويبلغ سعر حليب الأطفال 30 دولارًا".

وأضاف: "لم نكن نريد الرحيل مجددًا، لكنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تعهّد بفرض سيطرته العسكرية الكاملة على مدينة غزة. وفي الأسبوع الماضي، ألقت طائرات الاحتلال منشورات تُحذرنا من أننا قد نُقتل إن لم نُخلِ المدينة".

هذه هي المرة الثامنة منذ بدء العدوان الإسرائيلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 التي يُجبر فيها حمدونة على النزوح قسرًا، ناهيك عن المرات العديدة التي نزح فيها من مكان لآخر داخل المدينة نفسها.

وقال: "قطعنا غزة بطولها وعرضها، محاولين الفرار من الدبابات والطائرات المقاتلة والطائرات المسيّرة والقنابل"، مضيفًا: "في كل مرة أتشرّد فيها، أشعر وكأنني أموت من الداخل. إنّه كابوس يُطاردني بلا نهاية، دوامة من الإرهاق والخوف، تتحرّك بلا انقطاع، بانتظار المجهول".

تكاليف باهظة

ويمكن أن تصل تكلفة النزوح إلى نحو 1370 دولارًا أميركيًا في كل مرة، لتغطية تكاليف النقل والوقود وقطع الخشب لبناء خيمة وقماش مشمع لتغطيتها، وقطعة من الأرض.

يصل سعر الخيمة وحدها الآن إلى 1025 دولارًا أميركيًا، إن وجدت أصلًا. كما تحتاج هذه الخيام إلى عزل مائي لفصل الشتاء.

ومع استمرار حرب الإبادة الجماعية لنحو عامين، يحتاج كل فلسطيني تقريبًا في غزة إلى خيمة جديدة، فالخيام التي نجت قد دُمّرت بالكامل تقريبًا. وحتى تكلفة الخشب ومواد الخيام أصبحت الآن خمسة أضعاف ما كانت عليه في السابق.

وقال حمدونة: "في كل مرة نضطر فيها للنزوح يبدأ الأمر بالبحث اليائس عن مكان للإقامة، قطعة من الأرض القاحلة، أو الأنقاض، أو الشاطئ، أو المزرعة".

هذه المرة، اضطر حمدونة للمخاطرة بالسفر جنوبًا قبل عائلته تحت القصف الإسرائيلي وإطلاق قوات الاحتلال النار، وذلك سعيًا للحصول على قطعة أرض خالية من خيمة. وكانت أسعار الإيجارات ترتفع مع ورود أنباء عن أوامر الإخلاء.

في البداية، ذهب إلى ما يُسمّى بالمنطقة "الإنسانية" في المواصي بالقرب من خانيونس، لكن لم يكن هناك مكان لإقامة خيمة أو حتى المشي بحرية.

ثمّ توجّه إلى دير البلح وسط القطاع، ووجد بعض قطع الأراضي الرملية والزراعية الفارغة، لكنّ أصحابها باتوا يطلبون الآن ضعف ما كانوا يتقاضونه في الأشهر أو السنوات السابقة. وتبلع تكلفة إيجار الأرض وحدها 100 دولار شهريًا، من دون مياه، أما سعر الشقة فبلغ 2000 دولار شهريًا في حال توفّرها أصلًا.

اضطر حمدونة لحفر مرحاض بيده في الرمال وصبّه بالإسمنت لحماية عائلته من الأمراض.

وحتى الوصول إلى جنوب القطاع محفوف بالمخاطر ومكلف، إذ يجب العثور على سائق بسيارة صالحة للسير، وهو ما يُكلّف مئات الدولارات، حتى لو كان لبضع ساعات فقط على طريق الرشيد الساحلي، وهو الطريق الوحيد المؤدي إلى الجنوب الآن.

كما أنّ الوقود باهظ الثمن للغاية، إذ يبلغ سعر لتر الوقود الآن 30 دولارًا أميركيًا. ويستخدم بعض الناس الوقود الصناعي المُصنّع منزليًا عن طريق حرق البلاستيك، ويبلغ ثمنه 15 دولارًا أميركيًا ولكنّه خطير وسام.

إلى أين نذهب؟ وكيف سننجو؟

قام حمدونة وابنته بملء السيارة بكل ما أنقذاه من الدمار، لأنّ الأسواق فارغة، فلا توجد أدوات مطبخ، ولا بطانيات، ولا مقاعد، كما أنّ الأسعار مرتفعة للغاية.

تنتقل العديد من العائلات النازحة على عربات تجرّها الحمير لأنّها أقلّ تكلفة بقليل.

وعلى طول الطريق، رأى حمدونة الناس في حالة ذعر، خائفين من عدم وجود وقت للنجاة من القصف، وعشرات السيارات المعطّلة والمكتظّة بالناس والممتلكات.

وسأل حمدونة: " هناك مليون شخص في مدينة غزة، فإلى أين سيذهبون؟ وأين سيجدون مكانًا في الجنوب؟ من يستطيع تحمل التكاليف الباهظة التي تضاعفت منذ أوامر الإخلاء الأخيرة؟ وكيف سينجو الجميع؟".

يُعاني الجميع في غزة من أزمة مياه ونقص في غاز الطهي. يطبخ الناس على الحطب الذي يبلغ سعر الكيلو منه نحو 3 دولارات، بينما يعمد الكثيرون إلى تكسير الأثاث من أبواب ونوافذ وهياكل أسرّة  لإشعال النيران.

يصطف الناس لساعات في طوابير بانتظار شاحنات المياه. وغالبًا ما تقطع النساء والأطفال وكبار السن مئات الأمتار لملء غالون واحد فقط. كل يوم هو معركة ضارية من أجل البقاء: لمجرد الحصول على الماء، أو الطعام من المتجر، أو مساعدة طارئة.

وفي لحظات، يدمّر الاحتلال بعضًا من أطول أبراج مدينة غزة ومعالمها التاريخية التي صمدت لعقود.

وقال حمدونة: "من المؤلم للغاية أن أشاهد آخر ما تبقّى منها يُحوّل إلى أنقاض. وبعد عامين من تخلّي العالم عنّا والصمت إزاء ما أصابنا، أصبحت كلمة الإنسانية مجرد كلمة جوفاء. أطلب من العالم أن يُنقذوا غزة، وألا يدعوها تتحوّل إلى رماد على غرار رفح وبيت لاهيا وجباليا التي سُوّيت بالأرض".

وأضاف: "أما أنا، فلا أزال أحلم بالعودة إلى بيت لاهيا، إلى بساتين البرتقال والتفاح، إلى الأشجار التي ذبلت أوراقها الآن من العطش، إلى الطيور التي ماتت في أقفاصها من الجوع والخوف. آمل بأن أعود يومًا ما لأحتضن الجدران المكسورة لمنزلي وأجمع ما تبقى من ذكرياتي".

المصادر:
التلفزيون العربي - ترجمات
شارك القصة