الأربعاء 17 أبريل / أبريل 2024

أيام عصيبة انتهت بمجزرة.. شهادات صادمة لمشاركين في استعصاء سجن صيدنايا

أيام عصيبة انتهت بمجزرة.. شهادات صادمة لمشاركين في استعصاء سجن صيدنايا

Changed

برنامج "كنت هناك" يروي قصة استعصاء سجن صيدنايا في سوريا عام 2008 (الصورة: أمنستي)
استمرّ الاستعصاء قرابة 10 أشهر، سقط فيه عشرات الضحايا والجرحى، ليكون واحدًا من أطول الاستعصاءات حول العالم في تاريخنا الحديث.

في الخامس من شهر يوليو/ تموز عام 2008، شوهدت أعمدة دخان تتصاعد من سجن صيدنايا، الذي يعتبر أحد أسوأ السجون حول العالم.

تزامن ذلك مع تمكّن أحد السجناء من الاتصال بقناة تلفزيونية مناشدًا العالم التدخّل لإنقاذ المعتقلين، الأمر الذي دفع قوات النظام السوري إلى قطع الاتصالات في محيط السجن، ونشر بيان مقتضب تذكر فيه حدوث "فوضى" تمّ احتواؤها بدون أي ذكر لوقوع ضحايا أو تفصيل لما حدث.

استمرّ الاستعصاء قرابة 10 أشهر، سقط فيه عشرات الضحايا والجرحى، ليكون واحدًا من أطول الاستعصاءات حول العالم في تاريخنا الحديث.

وأمضى الجميع أيامًا عصيبة ما بين وحشية النظام وخلافات المعتقلين حول الطريقة الأنسب لتأمين سلامتهم وإنهاء الاستعصاء، الذي انتهى بعد حصار شديد منع فيه الماء والغذاء والدواء وجميع متطلبات الحياة عن المعتقلين في السجن.

أسوأ سجون النظام السوري

يقع سجن صيدنايا على بعد 33 كيلومترًا من العاصمة السورية دمشق، ويُعتبر أحد أسوأ سجون النظام السوري، وأحد أشد المواقع العسكرية تحصينًا في سوريا، والسجن الأبرز لمعتقلي الرأي والإسلاميين ما بعد الثمانينيات.

افتُتح السجن عام 1987، وفاق بسوء سمعته سجن تدمر، إذ انتشرت أخبار الإعدامات لنزلائه والمجازر المتكررة التي ارتكبت فيه.

ذاع صيت السجن بعد الاستعصاء الشهير عام 2008، الذي قمعه السجن بمجزرة نفذها بحق المعتقلين.

وقال ماهر إسبر، السجين السابق في سجن صيدنايا، في حديث إلى "العربي": "لدى وصولي الى سجن صيدنايا، أحسست بأنني أعيش في كابوس".

وأوضح أن السجن هو مبنى هائل الحجم، ويقع على رأس جبل صخري. وكل ما فيه يوحي بالقسوة".

بدوره، قال سليمان أبو الوليد، سجين سابق في السجن، في حديث إلى "العربي": "كنا نسمع عن المعاملة السيئة، والظروف القاسية التي يعاني منها المعتقلون".

من جهته، قال عبدالله، وهو سجين سابق في سجن صيدنايا، في حديث إلى "العربي": "نقلونا إلى سجن صيدنايا بعد سنة من الاعتقال، وقضينا سنة كاملة في التحقيق والتعذيب لانتزاع الاعترافات من السجناء".

وأوضح عبدالناصر حميدي، السجين السابق في السجن، في حديث إلى "العربي": "عصبوا أعيننا وكبلوا أيدينا إلى الخلف، ونقلونا إلى السجن مع مجموعة كبيرة من المعتقلين في حافلات ضيقة".

وشرح أبو الوليد: "يتمّ رص السجناء شبه عراة ومعصوبي العيون في رتل أحادي لدى وصولهم إلى السجن، يمسكون ببعضهم على شكل قطار، ويبدأ السجناء بالتنقل في أرجاء السجن دون معرفة وجهتهم".

وأضاف: "يتعمد المسؤولون عن السجن أن يرتطم السجناء بالأعمدة والجدران، ويغرقون الأرض بالماء والصابون كي ننزلق. كما يعمد هؤلاء إلى ضربنا بالهراوات والأحزمة، وإذا سقط السجين أرضًا، يتلقّى عقوبات اسوأ من التي سبقت".

وقال إسبر إن "أقسى ما في التعذيب هو أن تسمع أصوات التعذيب الصادرة عن غيرك من السجناء، أو أن ترى كيف يتمّ تعذيب زملائك في السجن".

كما شرح حميدي أن عناصر المخابرات كانت تدخل إلى المهاجع، وتنهال بالشتائم والسباب والضرب، إضافة إلى منع أهالي السجناء من زيارة أولادهم، الأمر الذي أدى إلى احتقان كبير ويأس لدى السجناء، وباتوا مستعدين للقيام بأي حركة تمرّد على الوضع المأساوي الذين يعانون منه، حتى لو أدى ذلك إلى مقتلهم.

أول استعصاء

أساليب تعذيب مرعبة وإهانات متواصلة مارسها السجّانون بقيادة مدير السجن العقيد علي خير بيه، فعاش السجناء تحت ضغط هائل كان لا بد أن ينفجر عند أول فرصة يُكسر فيها حاجز الرعب، ليقف المعذبون أمام جلادهم معلنين تمرّدهم وعصيانهم، في أول استعصاء في سجن صيدنايا في الثالث والعشرين من شهر مارس/ أذار 2008.

وشرح عبدالله أنه في هذا التاريخ، قام السجناء بتعليق سلك كهربائي في أحد الأضواء في الممشى المؤدي إلى المهاجع في السجن. لاحظ الرقيب المناوب السلك، ودخل إلى الغرفة التي وصل السلك بها للتحرّي عن الأمر. وتقدّم السجين الذي قام بالعملية بالاعتراف بفعلته، بهدف الحصول على ضوء في الجناح.

لكن الرقيب أخرج السجين إلى خارج الغرفة، ورماه على الأرض وبدأ بركله على رأسه. وقال له: "قل لله أن يخلصك مني".

وأوضح عبدالله أن "هذه الكلمة نزلت كالصاعقة على السجناء، وكانت الشرارة الأولى للاستعصاء".

وشرح إسبر أنه في اليوم التالي، قام مدير السجن بالجلوس على كرسي في آخر الجناح، وفتح العناصر المهاجع واحدًا تلو الآخر، وبدأوا بتعذيب السجناء. لكن مع وصولهم إلى المهجع الثالث، قاوم السجناء التعذيب، وقاموا باحتجاز مدير السجن والعناصر الموجودة معه، دون التعرّض لهم باي أذى، ثم فتحوا بقية المهاجع، وبدأ العصيان.

صعد السجناء إلى سطح السجن، وأشعلوا النار للفت الانظار إليهم مع تصاعد أعمدة الدخان. لكن سرعان ما طوّقت قوات من الشرطة العسكرية والفرقة الرابعة السجن، وأرسلوا إلى السجناء لمعرفة مطالبهم.

حاول النظام السوري احتواء التمرد، نظرًا لتزامنه مع انعقاد القمة العربية في العاصمة السورية دمشق. واضطر النظام إلى الموافقة على مطالب السجناء الذين شكلوا لجنة منهم للحديث مع وفد النظام.

وشرح عبدالله أن اللجنة ضمّت سجينًا كبيرًا في السن، وثلاثة سجناء آخرين على دراية بمثل هذا العصيان في السابق، وطرح هؤلاء مطالب السجناء من معاملة انسانية، وفتح المجال أمام الزيارات، وتخفيف الأحكام، وتعجيل المحاكمات.

وأضاف أن الضابط المفاوض حاول امتصاص غضب السجناء، ووعدنا بايجاد حلول، وبالفعل تحسّنت المعاملة.

وانتهى الاستعصاء الاول الذي دام يومًا واحدًا فقط.

خطة انتقامية

وبعد الاستعصاء الأول، تغيّرت الظروف، وتوقفت الإهانات، وتحسّنت معاملة السجانين كثيرًا.

لكن عبدالله قال إن مدير السجن كان لا يزال يريد الانتقام لانكسار هيبته، فدبّر للانتقام ببث الفوضى في السجن، وعدم ضبطه.

وفي ليل الخامس من يوليو 2008،  كانت بداية تنفيذ خطة مدير السجن بالانتقام من السجناء الذين سمعوا في هذه الليلة أصوات إغلاق بوابات الزنزانات والمهاجع، وهو أمر لم يعتادوه من قبل.

وقال إسبر: "في الساعة السادسة من فجر كل يوم، كانت إدارة السجن تصطحب عناصر من السخرة لإدخال الطعام للسجناء. لكن في يوم الخامس من يوليو، تفاجأ السجناء باقتحام عناصر من الشرطة العسكرية الأجنحة، مرتدين خوذًا وحاملين الهراوات".

بدوره، أوضح أبو الوليد أن "السجناء في الجناح الأول أخذوا على حين غرة، منهم من فُقأت عينه، ومنهم من كُسرت يده، ومنهم من أُصيب بارتجاج دماغي نتيجة الاعتداء القاسي. وهنا، تمكّن السجناء في الأجنحة الاخرى من استيعاب ما يحصل، وقاوموا محاولات العناصر الدخول إلى زنازينهم".

وشرح إسبر أن السجناء تمكنوا من فتح الجدران التي تفصل مهاجعهم على بعضها، وتجمّعوا في المهجع الأول والعاشر، والتفوا على القوات المهاجمة من الجانبين.

ووصف حميدي ما حدث بـ"المعركة الحقيقية التي استمرت ساعتين، وسيطر السجناء على السجن بشكل كامل. حاصرنا الضباط في المهاجع، وأخرجنا العناصر إلى الأسطح".

وقال عبدالله: "أخرجنا الأسرى من الشرطة إلى الأسطح كي لا يختنقوا من الدخان المسيل للدموع، وكي لا تطلق إدارة السجن النيران علينا. لكن مدير السجن بدأ باطلاق الرصاص الحي علينا، ما أدى إلى سقوط العديد من القتلى".

وأضاف أن "السجناء دخلوا غرفة مدير السجن ووجدوا دفتره الخاص الذي دوّن فيه خطته الانتقامية. حيث كان يخطط لادخال 300 عنصر من المحرضين إلى سجن تدمر، ومنع الزيارات عن السجناء لمدة 6 أشهر، وتجريد السجناء من كل أمتعتهم، وتقديم الطعام على أكياس بلاستيكية".

وقال إسبر إن أحد السجناء من أبناء قبيلته كان يملك رقم المحامي مهند الحسني، واتصل به وأبلغه بما يحدث في السجن، كما حصلنا على رقم هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، وجرى الاتصال بهم".

استطاع السجناء إضرام النيران في السجن للفت أنظار العالم إليهم. وانتشر خبر الاستعصاء على شاشات التلفاز.

النظام يحتوي الموقف مجددًا

أراد النظام السوري احتواء الموقف مجددًا، فأرسل وفدًا بقيادة اللواء منير أدانوف ليتفاوض مع اللجنة التي شكّلها السجناء.

 وقال حميدي إن النظام "بدأ يفاوضنا على الأسرى من قواته، وأنهم أبلغونا أننا شوهنا سمعة الجيش السوري من خلال أسر 1400 عسكري و90 ضابطًا بسلاح أبيض".

وأضاف: "أبلغناهم أن مطلبنا الأول كان علاج الجرحى من السجناء، لكن النظام نقل جرحاه إلى المستشفيات بينما أبقى على بعض جرحانا على الأرض لساعات ما أدى إلى وفاة بعضهم نتيجة النزيف".

وشرح أبو الوليد أن "أحد المعتقلين الجرحى توفي نتيجة الضرب الذي تلقاه، بينما كان الآخرين يئنون، وينزفون. وبعد 6 ساعات، دخلت كتيبة عسكرية بلباس مدني، وقاموا باستخدام الشريط اللاصق القاسي على وجه السجناء، وتكبيل الأيدي إلى الأسفل، وبدأ التعذيب الذي أدى إلى وفاة  7 سجناء".

وقال عبدالله: "بعد يومين من وجودنا في صيدنايا، اقترحت لجنة السجناء زيارة الجرحى نتيجة لانعدام الثقة بالنظام. وعندما زار أبو البراء صوفان الجرحى في المستشفيات، ذُهل لما شاهده من عدم اهتمام بصحة السجناء. ولدى عودته إلى السجن ناقلًا الواقع، ثار السجناء مجددًا. فادعى مفاوض النظام أن هذا التصرّف فردي، وأنه لا يقبلون بهذا الوضع. وعندما طالبنا باعادة الجرحى، أرسلوا لنا من بدأت جراحهم بالشفاء".

تعقيدات وانشقاقات داخل السجن

ووسط هذه الأحداث، كان السجناء منقسمين وفقًا لتياراتهم الفكرية والسياسية. وتصاعد الخلاف بينهم، ما أدى إلى مقتل أحد السجناء لتأخذ الأحداث منحى آخر.

وأشار إسبر إلى سقوط 25 قتيلًا برصاص النظام، إضافة إلى عدد من الجرحى. لكن الأمور بدأت تتعقّد أكثر مع فقدان القوى داخل السجن الثقة ببعضها البعض، خاصة بعد مقتل نزار الرستناوي على يد مجموعة تكفيرية تقوقعت على نفسها، وحدث انشقاق داخلي في السجن".

من جهته، قال حميدي إن السجن كان يضمّ سجناء من مختلف التوجهات الفكرية، والقوميات، والمذاهب، والمناطق السورية.

وأوضح أبو الوليد أن "معظم السجناء كانوا يدعمون اللجنة المفاوضة، لكن كان هناك تيار ينادي بتسليم أنفسنا للنظام، وإنهاء ما أسموه بالمهزلة".

وقال عبدالله: "خلال الفترة الممتدة من 5 اغسطس/ آب إلى 4 ديسمبر/ كانون الأول، كانت فترة طويلة بالنسبة للسجناء خلال الاستعصاء. تم تعيين مدير جديد للسجن هو اللواء طلعت محفوظ الذي حاول الحصول على بعض المكتسبات. وحصل على سطح السجن، والطابق الأرضي. ثم وصلتنا معلومات أنه صفّح الجناح في الطابق الأول بحيث لا نستطيع فتح الجدران مرة أخرى".

بدوره، قال أبو الوليد: "في الشهر العاشر، أبلغنا أن من ينزل إلى الطابق المصفّح، يحصل على محاكمة، وأحكام مخفّفة. لكن شريحة كبيرة من السجناء، لم تقبل بالعرض. وفي الشهر الحادي عشر، قطع النظام التيار الكهربائي عن الطوابق، وقام بتقليل الطعام. وفي نهاية الشهر، قطاع المياه، واقتحم السجن مجددًا وسيطر عليه كاملًا، تحديدًا في 15 ديسمبر".

وأضاف أبو الوليد: " كانت هذه المرحلة الأخيرة من الاستعصاء".

من جهته، قال إسبر إنه "بعد 16 ديسمبر، أصبحت ظروف السجن سيئة جدًا. وقام النظام بعرض عسكري، رغم أن إطلاق النار لم يتوقّف للحظة خلال فترة العصيان، مع سقوط قتلى بشكل يومي برصاص القناصين".

وأوضح حميدي أن "حوالي 20 سجينًا قُتلوا برصاص القناصين، وعندما طال الحصار، نزلنا إلى الطابق الأرضي، حيث دفنا شهيدًا في كل زنزانة. كنا نزيل البلاط، ونفرغ التراب من تحتها، وندفن الشهيد هناك".

وأضاف: "كنا حوال 42 شخصًا في الزنزانة، لم يبق لدينا سوى ثلاث زجاجات مياه، فقمنا بتقنين شرب المياه".

ورقة النظام الأخيرة

 ومع إطباق النظام حصاره على السجن، واستمرار الاستعصاء لمدة طويلة، أصبحت ظروف السجناء في غاية السوء. فقام النظام برمي ورقته النهائية لفضّ التمرّد.

وقال أبو الوليد: "في 25 ديسمبر، استدعى النظام لجنة التفاوض، للقاء وفد رفيع المستوى من النظام يضمّ نائب وزير الدفاع آصف شوكت، واللواء ماهر الأسد، واللواء أدانوف. لكن لم تكن هناك مفاوضات بل إملاءات. وأبلغوا اللجنة أنهم أمام خيارين، إما إبادة السجناء أو إخلاء السجن إلى عدرا من دون تعرّض أحد للأذية، وفق الاتفاق السابق بفتح الزيارات، وتقديمكم للمحاكمة وفق قوانين جديدة، وأحكام مخففة. وأعادوا فردًا واحدًا من اللجنة إلى السجن لإبلاغ السجناء بمضمون اللقاء".

وأوضح إسبر أن صوفان أبلغ السجناء أنهم لا يُمكن أن يأخذوا أي ضمانات، ولكن خياراتنا سيئة جدًا. وفي هذه اللحظات، لم يكن لدينا أي تواصل إعلامي أو حتى مع العالم الخارجي، ومن دون طعام أو مياه. فوافق أغلبية السجناء، وبدأ السجناء بتسليم أنفسهم طوعًا".

وبالفعل، بدأ إخلاء السجن، وتمّ نقل السجناء على دفعات في عدة أيام، إلا أن عشرين سجينًا رفضوا الخروج. فاقتحمت قوات النظام السجن، وقتلت عددًا منهم، واعتقلت آخرين.

وهنا، انتهى استعصاء سجن صيدنايا، الذي يعد من أطول استعصاءات السجون في العالم.

ووصفت منظمات حقوقية ما جرى بحق المعتقلين بمجزرة "تجري بصمت". ووفق تقرير لمنظمتي العفو الدولية، و"هيومن رايتس ووتش"، تراوح عدد القتلى بين 60 إلى 100 قتيل.

وقال حميدي: "بعد وصولنا إلى سجن عدرا، كانت المعاملة سيئة جدًا".

وأوضح إسبر: "كنا ننام على بطانية عسكرية فقط، من دون اي اتصال بالعالم الخارجي، كما كان الوضع عليه في سجن صيدنايا".

وشرح إسبر أن غالبية المعتقلين الذي خرجوا من السجن في بداية ثورات الربيع العربي خرجوا نتيجة الضغوطات الخارجية على النظام، وليس برغبة منه، إذ حاول احتواء التظاهرات".

بدوره، قال عبدالله: "وصلتنا أخبار الثورة السورية عبر الراديو، ولم نكن نصدق أن ذلك يحصل فعلًا".

المصادر:
العربي

شارك القصة

تابع القراءة
Close