ليست المرة الأولى بل الأكثر كشفًا، تلك التي تتزامن فيها الدراما الحقيقية التي يعيشها العربي ويشاهدها على القنوات الإخبارية، مع الدراما التلفزيونية التي حشدت طاقتها كلها لمنافسة "الواقع" الحقيقي نفسه الذي شهد ذروات درامية كبرى وغير مسبوقة في المنطقة.
فمن قطاع غزة حيث تشن إسرائيل حرب إبادة وتجويع لا هوادة فيها على ما يزيد عن مليوني فلسطيني، إلى سوريا التي تتعثر مع كل خطوة يقوم بها العهد الجديد، مرورًا بتلفزيون الواقع الذي يستحوذ عليه الرئيس الأميركي دونالد ترمب، دون منافسة من أحد، يبدو المشهد محتشدًا بدراما يقصر عن تمثّلها الفن نفسه، وتعجز الدراما التلفزيونية عن مواكبتها.
فأي خيال يمكنه أن يقارب تابوهات المنطقة وهي تُنتهك علنًا وعلى الهواء مباشرة؟ وأي شركة إنتاج تمتلك الجرأة للعبور بين الخطوط الحمراء وتنجو وهي تعاين مجرد هذا المشهد الصغير فقط، حيث عشرات السوريين الدروز يعبرون الحدود إلى داخل إسرائيل لزيارة مقام النبي شعيب؟
كأن الدراما هنا، في واقع ناس هذه المنطقة وجماعاتها بما تحفل به من تناقضات وحروب تاريخ صامتة وعنيفة وربما عبثية، اكتفت بنفسها عن أي مقاربة فنية تسعى للبحث عن تطور درامي في هذه الشخصية أو تلك، لبناء معمار فني يجلس العربي بعد الإفطار لمتابعته، متشوّقًا لمعرفة المزيد، بينما يستطيع أن يفتح نافذة بيته ويطلّ منها على جيرانه فيرى كيف أن الدراما نفسها أصبحت مفهومًا ساذجًا أمام ما يحدث أمامه، أو يشاهده في تغطيات قنوات التلفزة الكبرى الماراثونية لأحداث المنطقة.
إخفاق معاوية رغم ضخامة الإنتاج
ربما يفسّر ما سبق إذا صح، ذلك الفتور الذي قوبل به مسلسل "معاوية"، وهو من أضخم الإنتاجات الدرامية العربية، حيث بلغت تكلفة إنتاجه نحو 100 مليون دولار، ويقارب مرحلة بالغة الحساسية في التاريخ العربي- الإسلامي التي شهدت ما تسمى الفتنة، وانقسام الإجماع بين النخب الإسلامية آنذاك حول مفهوم الحكم وعلاقته بالدين، وشرعية ومشروعية انتقاله من صحابي إلى آخر، أو من تيار إلى آخر داخل البيت الإسلامي نفسه.
فما يقترحه المسلسل الذي حفل بمغالطات وسقطات فنية فجة، سواء فيما يتعلق بالديكور أو الأزياء أو حتى الحقائق التاريخية، يبدو ساذجًا ويفتقر إلى الذروات الدرامية التي تعيشها المنطقة نفسها التي لم تعد منقسمة بين تيارين، بل مشظاة إلى عشرات القطع الصغيرة التي ترسم في نهاية المطاف ما هو أعقد وأكبر من عمل فني يمكنه جمعها، أو حتى التعبير عن شرائح صغيرة منها.
ظاهرة الـ15 حلقة
عمومًا، ليس ثمة مسلسل بعينه، منفرد، من بين نحو 40 مسلسلًا دراميًا أغلبها مصري، يمكن القول إنه شكّل ظاهرة استثنائية في موسم الدراما الرمضانية هذا العام.
وإذا كنا أمام ظاهرة يمكن التأشير إليها فهي الطلاق مع المسلسلات التي تتكون من 30 حلقة، بعد رمضان الماضي الذي بدأ يتبلور فيه هذا التوجه لدى شركات الإنتاج، ففي هذا العام تراجع عدد هذه المسلسلات لصالح مسلسلات الـ15 حلقة التي زادت عن 22 مسلسلًا، ما يعني أن الدراما الطويلة (30 حلقة) في سبيلها للانقراض بشكل أو آخر، إما بتحوّلها إلى مسلسلات تتكرر على عدة مواسم، مثل "كامل العدد"، أو الاكتفاء بموسم واحد منها.
ويعود ذلك إلى عدة أسباب أهمها يتعلق بالإنتاج نفسه الذي أصبح أكثر تكلفة وأقل مغامرة، خاصة أن كثيرًا من مسلسلات الـ30 حلقة أخفقت في مواسم الدراما الرمضانية السابقة في استقطاب نسبة مشاهدات وإعلانات تغطي تكلفتها.
إضافة إلى أن صناعة الدراما العربية أصبحت تتكيّف مع تأثيرات انتشار وهيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، وتسعى للصمود في مواجهتها باللجوء إلى إنتاجات أقصر وأكثر خفة في التناول وأقل تكلفة إذا أمكن، وهو ما يبدو أنه سيصبح تيارًا سائدًا في صناعة الدراما في السنوات المقبلة.
ومن إيجابيات هذا التوجه أنه يوفّر فرصًا أكثر للمخرجين الشبان لإنتاج عدد أكبر من الأعمال الدرامية، تتسم بالتنوع والقصر وربما التجريب، ومواكبة هموم واهتمامات الأجيال الشابة الصاعدة.
تراجع النجوم ونمطية الإنتاج
ورغم أن صناعة الدراما العربية لا تقدّم بيانات إحصائية عن إنتاجاتها وعدد مشاهديها وتكاليفها، إلا أن رمضان الحالي شهد تراجعًا لمسلسلات قامت على ثنائيات تميّزت بالقوة والوفرة الإنتاجية، من مثل أحمد العوضي وياسمين عبد العزيز، ومي عمر ومحمد سامي.
ويعود ذلك لأسباب منها نمطية أعمال هؤلاء، واعتمادها على نجومية أبطالها منفردين لا البطولة الجماعية، وهو ما ينسحب على نجوم مثل أحمد السقا إلى حد كبير، واللبنانية ماغي بو غصن التي ظهرت في مسلسل جديد "بالدم" في 30 حلقة، ومحورها أحداث يتم ارتجالها لتكريس دور البطولة المطلقة لبطلة المسلسل التي تفتقر للموهبة الكبيرة.
كما ينطبق الأمر على دينا الشربيني التي كان مسلسلها "كامل العدد" من أوائل موجة مسلسلات ال15 حلقة، واستمر لثلاثة مواسم، وتمحور حولها دون بناء درامي متماسك بل اعتمادًا على الدراما الخفيفة التي تدور في المجمعات السكنية الجديدة، وبالرهان على جذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين بتحويل المسلسل إلى خزّان نجوم، ومنهم في الجزء الثالث والأخير عل الأغلب، حسين فهمي ويسرا بل ومكة ابنة اللاعب المصري محمد صلاح.
ومن مسلسلات الـ15 حلقة التي تابعها جمهور الدراما في النصف الأول من شهر رمضان "أشغال شقة جدًا" و"قلبي ومفتاحه" و"عقبال عندكوا" و"كامل العدد" و"80 باكو" و"جودر" و"النص" و"الكابتن" و"إخواتي" و"الشرنقة" و"ولاد الشمس" و"أثينا".
افتقار للبناء الدرامي المحكم
ويمكن القول إن أغلبها افتقر إلى البناء الدرامي المحكم، وابتعد عن دراما العنف المفرط الذي ساد في السنوات الأخيرة، واقترب من القضايا الاجتماعية أكثر، كما مال إلى الكوميديا أيضًا، ومن بينها تميّز مسلسل "إخواتي" على وجه الخصوص و"قلبي ومفتاحه"، بينما قدّم الفنان الكبير محمود حميدة في "ولاد الشمس" دورًا كان يمكن أن يكون أكبر من العمل الدرامي نفسه.
يتناول مسلسل "إخواتي" حياة أربع أخوات من الطبقة العاملة، يعشن في حي شبرا، ولكل منهن قصتها وخيباتها من الحياة، بلغة تلفزيونية ذكية ومتعاطفة، إذا صح الوصف.
ويبتعد سرد محمد شاكر خضير (المخرج) في المسلسل عن الواقعية الخشنة تمامًا، ويقترب من الواقعية الحالمة والشعرية أحيانًا والكوميدية أحيانًا أخرى، في مقاربته "الحنونة" لحياة الشقيقات الأربع، دون أن يهبط بهن إلى وحل الواقع نفسه بل يكتفي بجعلهن يلامسنه وحسب.
ثم ينتقل بهن مع أغنيات ينتقيها وتتلاءم وسيكولوجيا كل واحدة منهن، إلى أفق تخييلي وتحويلي، يُلطّف من خشونة واقعهن بجعله موضوعًا للسخرية المجانية أحيانًا، فإذا هن أقرب إلى شخصيات تنتمي إلى الطبقة الوسطى وخيالها، وهو فني وتجريبي، يخلط الأشواق الطبيعية لهن ببيت أو طفل أو حياة أفضل للأبناء أو مجرد أن يكن محبوبات، بخيال الواقع نفسه الذي يعجنه أو يمزجه باحتمالات كل واحدة منهن، ما يجعلهن قادرات على تحمّل الواقع الخشن بل والسخرية منه وتكسير ثوابته.
العمل جميل على بعض الهنّات فيه، وتشكّل البطولة الجماعية فيه استثناءً لصالحه، فرغم أنه من بطولة نيللي كريم وروبي وكندة علوش، وكل واحدة منهن يمكنها بطولة عمل منفرد، إلا أن بناءه الدرامي أتاح لممثلة أقل شهرة ونجومية، هي جيهان الشماشرجي، فرصة تصدّر العمل في بعض حلقاته، وأن يتحوّل دورها إلى محور الدراما الرئيسي.
كما أتاح العمل للممثل حاتم صلاح تقديم دور لافت حقًا يكشف عن إمكانيات كبيرة له.
ويعتبر "إخواتي" نقلة إضافية في مسيرة مخرجه الشاب محمد شاكر خضير (1983) الذي قدّم عام 2023 واحدًا من أهم أعماله الدرامية "تحت الوصاية"، من بطولة منى زكي التي تألقت في دور الأم المكافحة التي يُسلب أبناؤها حقهم في الميراث، فتضطر للعمل على أحد مراكب صيد السمك، وهو من أجمل أدوارها على الإطلاق.
