ليس خافيًا على أحد أنّ ملف إعادة الإعمار في سوريا يفترض أن يشكّل أولوية قصوى في هذه المرحلة، إذ يستطيع الزائر لسوريا، بعد سقوط نظام بشار الأسد، أن يلاحظ بسهولة أنه أمام بلد مدمر؛ يفتقر إلى الخدمات الرئيسية، ويحتاج إلى كثير من الجهد والعمل والبناء.
فعلى مدى السنوات السابقة، وخصوصًا بعد اندلاع الثورة السورية في العام 2011، تم تحطيم البنى التحتية والمرافق العامة وتفريغها من قدرتها الحيوية على خدمة الجمهور. فلو أخذنا القطاع الصحي نحن أمام 15 ألف سرير في عموم سوريا، وهذا يعني أننا أمام سرير واحد لكل 2000 شخص، وهو أقل بثلاث أضعاف من معدل الأسرة في بلد كلبنان، كما تعتبر المستشفيات متهالكة وجزء منها مهدم كليًا، إضافة إلى غياب الطواقم الطبية في تخصصات معينة، وشحها في تخصصات أخرى.
وفي قطاع التعليم نجد أنفسنا أمام حوالي 50 طالبًا في الفصل الدراسي، ومعلمين أقل من حيث العدد من أي وقت آخر، إضافة إلى 10 آلاف مدرسة مهدمة[1] في عموم البلاد كانت بيتًا تعليميًا لأكثر من ثلاثمئة ألف طالب، مما رفع نسبة التسرب من التعليم لمستويات غير مسبوقة.
أكثر من ذلك، يروي بعض الأشخاص الذين دخلوا إلى أحيائهم وقراهم التي انتزعتها قوات الأسد من المعارضة بأنها أكثر بؤسًا مما تركوها عليه، فقد كانت المنازل مهدمة جزئيًا أو كليًا، ولكن اليوم تم سرقة كابلات الكهرباء والأبواب والشبابيك، بل وحتى أرضية الحمامات، وفي بعض الحالات تم تهديم أسقف المنازل ليستخرج منها الحديد فيباع على أنه "سكراب"، إنها مجرد حجارة مرصوفة دون أي تماسك.
ورشة إعادة الإعمار في سوريا
الكل ينتظر أن تبدأ مرحلة جديدة لإعادة الإعمار في البلاد، وقد يكون التخيل الأكثر بساطة لمسألة إعادة الإعمار هو أن تدخل شركات أجنبية عملاقة، فتبدأ بتجريف المدن المدمرة وبناء مدن حديثة مدعّمة بالخدمات المتقدمة، وهو ما لم يحدث في أي دولة من العالم بما في ذلك ألمانيا بعد مرحلة الحرب العالمية الثانية، والتي تعدّ من أهم التجارب التنموية في مرحلة ما بعد الحرب.
فقد انقسمت خطة إعادة إعمار ألمانيا إلى مراحل وقطاعات، وتضمنت إصلاحات في مجال الصناعة والعملة الألمانية والبنى التحتية، وكذلك السياسة الداخلية والتلاحم الاجتماعي وتطوير الثقافة المحلية والمشاركة الاجتماعية الفعالة. ورغم أن الدور الأبرز في تأهيل البنى التحتية كان بفضل خطة مارشال التي منحت أوروبا أكثر من 15 مليار دولار أميركي[2]، فإنه أعطى ألمانيا 1.7 مليار دولار فقط، أي ما يكاد يساوي بأسعار اليوم حوالي 17 مليار دولار أميركي في بلد مساحته وعدد سكانه أكبر من مساحة وعدد سكان سوريا بكثير.
استنادًا إلى ما تقدّم، يمكن القول إنّ إعادة الإعمار يفترض أن تكون عملية شاملة، وطويلة، بحيث يشارك فيها المجتمع المحلي، وتكون ذات برنامج واضح وقابل للقياس، والأهم من ذلك أن يكون معروفًا وواضحًا ليتيح انخراط المؤسسات والأفراد وتسخير الموارد لصالحه.
وفي ما يلي، نستعرض مجموعة من المقاربات التنموية لمرحلة ما بعد الحرب، أو ما يمكن أن نسميه برامج عملية لإعادة الإعمار بحسب وجهة نظر الفاعلين الرئيسيين في الحالة السورية.
مقاربة دول الجوار لإعادة الإعمار في سوريا
يقوم تشكيل كل مقاربة من مقاربات إعادة الإعمار على أهداف الفاعلين الذين يتبنون هذه المقاربة. في حالة الدول المجاورة، لا شكّ أنّ لديها أهداف متنوعة أحيانًا، ولكنها تتشارك في بعض المسائل، وفقًا لما يأتي:
- تركيا: تُعَدّ تركيا الفاعل الأبرز في الملف السوري، وهي تستهدف من هذا الانخراط إعادة اللاجئين السوريين الموجودين على أراضيها، والذين يتجاوز عددهم ثلاثة ملايين شخص، وتحقيق الاستقرار على الحدود السورية التركية، وضمان أن لا تكون سوريا مسرحًا يمكن استغلاله ضد مصالحها، إضافة لقضايا تتعلق برغبة تركيا بتوجيه الشركات التركية الخاصة للعمل في سوريا، والاستفادة من الفرص المتوقع نشوؤها في البلاد.
- إسرائيل: تعد اسرائيل من أهمّ القوى المؤثرة في الملف السوري، حيث تطمح إلى تحقيق ثلاثة أهداف وهي: عدم استخدام أراضي سوريا لتنفيذ هجمات ضدها؛ على غرار ما كانت تحاول أن تفعل إيران وحزب الله في الجنوب السوري، وضمان وجود دولة ضعيفة منشغلة بأحداث داخلية طويلة الأمد، إضافة لبقاء الحديث الإثني والطائفي ذي أولوية حاضرة في البلاد لتبرير فكرة الدولة الدينية التي تقوم عليها.
- لبنان: يهتم لبنان بسوريا من بوابة ملف اللاجئين السوريين في لبنان، وكذلك ما يتعلق بشراكة اقتصادية حقيقية تسمح للبنان بتصدير واستيراد السلع عبر سوريا (برًا يستخدم لبنان معبر نصيب لنقل البضاعة نحو دول الخليج)، كما يرغب لبنان بتحسين شبكة الكهرباء عبر الاستفادة من موارد خط الغاز العربي، وكذلك يرغب لبنان أن لا يكون هناك دعم سوري لطوائف أو جماعات على حساب جماعات أخرى.
- الأردن: يتوقع أن الأردن مهتم بشكل رئيسي بتوقف عمليات التهريب عبر الحدود، فقد شهد الأردن خلال السنوات السابقة تهريبًا للمخدرات والسلاح قادمًا من سوريا، ويريد الأردن أن تكون الأراضي السورية أكثر استقرارًا، كما أن المسؤولين الأردنيين يشدّدون على ضرورة حلّ مشكلة اللاجئين السوريين بعودتهم إلى وطنهم في أقرب وقت.
- العراق: يتشكل تخوف العراق الكلي على شكل "تخوفات جزئية" للأحزاب والقوى العراقية، فللفصائل الشيعية يقوم الخوف من قيام كيان سني يشكل رأس حربة للتصدي لنفوذهم والنفوذ الإيراني من خلفهم، وكذلك الفصائل الكردية المتشددة لعدم السماح لهم بالتمدد نحو سوريا، فيما ترى بعض القوى السياسية السنية أن سوريا مستقرة وآمنة يمكن أن تشكل مكسبًا للعراق عبر علاقات تجارية رابحة، وضبط الحدود، والتعاون الأمني لمنع تكرار سيناريو تنظيم الدولة.
بناءً على ما تقدّم، تتشارك دول الجوار مسألة ضبط الحدود وتحقيق الأمن، وضمان استقرار اللاجئين السوريين في منازلهم وعدم تعرضهم للنزوح والتهجير من جديد، وهو ما يجعل المقاربة الإقليمية التي تشارك فيها دول أخرى عربية من غير دول الجوار تقوم على أساس الاستثمار في قطاع الأمن وحرس الحدود والجمارك بدرجة رئيسية، ثم ضخ مساعدات رئيسية لترميم المنازل والاستجابة السريعة لعودة اللاجئين مع مساندة أقل في مشاريع ترميم البنى التحتية التي تدعم الاستقرار مثل مشاريع المياه والكهرباء والصرف الصحي.
وبالتالي، يمكن القول إننا أمام مقاربة تنموية تقوم على أساس أن الأمن والاستقرار يمكن أن يمهد لجذب مشاريع اقتصادية، تضمن تحريك عجلة الاقتصاد، وتساعد على انخراط العائدين في وظائف جديدة تدر عليهم دخلاً دوريًا، وهو ما يعيد سوريا إلى السكة الرئيسية، ويجعلها أمام فرص تنموية طويلة الأمد وذاتية العمل، مع إطلاق العملية بواسطة مساعدات إقليمية، أي أننا نستطيع أن نقول إننا أمام نظرية تنموية على شكل لمبة الفورسنت (النيون) التي تحتاج إلى مشغل (ستارتر) يسمح لها بالإضاءة بدون الحاجة إليه في وقت لاحق.
مقاربة الدول الغربية لإعادة الإعمار في سوريا
منذ مرحلة التسعينات سعت دول الاتحاد الأوروبي لإقامة شراكة مع سوريا أساسها دعم الاستقرار في دولة من دول المتوسط المقابلة لها، وتحويل هذه الدولة لسوق يمكن الاستفادة منه يكمل ما ينتجه أو يحتاجه الاتحاد الأوروبي، وقد قدمت لذلك دعمًا في مجال صناعة النسيج والزراعة وقضايا أخرى. ولكن لأسباب تتعلق برغبة هذه الدول بإضافة أبعاد أخلاقية بالحد الأدنى مثل احترام الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان لم تكتمل الشراكة السورية-الأورو متوسطية، ولعب الهوس الأمني للنظام السوري دورًا في رفض كثير من المقترحات التي أتت من الغرب.
وعلى الأرجح، لا تزال هذه الدول مهتمة بالاستقرار في سوريا، ولأسباب أكبر من قبل، فهي تريد أن تكون سوريا بلدًا غير مصدّر للمهاجرين، ومستقر أمنيًا؛ بحيث لا يكون مصنعًا محتملاً لهجمات تستهدف أمن هذه الدول.
تشارك الولايات المتحدة هذه الوجهة مع الدول الغربية بدرجة أقل، ولكن مع قدوم الرئيس دونالد ترمب ستكون أكثر انعزالاً وأقل اهتمامًا بسوريا، وستدعم الاستقرار وعدم وجود حروب في المنطقة، وهو ما يتوافق مع نظرية الاستقرار التي يدعمها الغرب.
بالمجمل تقوم المقاربة الغربية على تقديم دعم يضمن عودة اللاجئين إلى بيوتهم، بحيث يستهدف برامج تنموية وما يسمى ببرامج التعافي المبكر ودعم الاستقرار من خلال ترميم المدارس وتأهيل السدود وشبكات المياه والكهرباء والمحطات الرئيسية، إضافة لتقديم مساعدات للمؤسسات الحكومية لضمان استمرار عملها.
وبالتالي، فإنّ مقاربة الدول الغربية تقوم على إيجاد بيئة ضامنة للاستقرار في سوريا، بحيث تكون الظروف مناسبة للعيش والعمل، إنها نظرية تشبه تخطيط الأرض ومد الخدمات الرئيسية لها، وترك البقية للمشترين والسكان المحتملين في هذه الأرض ليتدبروا شؤونهم.
مقاربة المنظمات الدولية لإعادة الإعمار في سوريا
يتوقع أن تنخرط بعض المؤسسات الدولية في عملية إعادة الإعمار، مثل البنك الإسلامي للتنمية الذي يهتم بمشاريع البنى التحتية، والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وكذلك مؤسسات الأمم المتحدة المختلفة، وهذه المؤسسات لها مقاربات مختلفة ولكنها غير متضاربة، يمكن تلخيصها وفق الآتي:
- إصلاح القطاع العام، بما في ذلك البنية المالية، والتأكد من ضغط نفقات الحكومة؛
- تخفيض الدعم الحكومي ورفع معدل الضرائب؛
- رفع مستويات الرواتب إلى معدلات عالية بشكل تدريجي بحيث تصل إلى مستويات تضمن عيش كريم للمواطنين؛
- فتح الاستثمار أمام القطاع الخاص، ودعمه وتنشيطه، وضمان عمله بحرية تامة؛
- إنشاء قوانين داعمة للحرية الاقتصادية بما في ذلك حقوق العمال والملاك.
وهذه المقاربة تعمل عليها المنظمات الدولية بشكل تدريجي فتمنح مؤسسات الأمم المتحدة دعمًا للقطاع الخاص الصغير، وكذلك تدعم الخدمات الاجتماعية للحكومة، ومن ثم تقدم مشورات ودعمًا للبلديات والمؤسسات الخدمية، ثم تنتقل للخطوات اللاحقة من خلال الصندوق والبنك الدوليين بحيث تضمن تنفيذ هذه النقاط مقابل تقديم دعم مالي على شكل قروض أو منح بمبالغ ضخمة.
مقاربة التنمية الإقليمية لإعادة الإعمار في سوريا
يوجد في سوريا سبعة أقاليم رئيسية هي الإقليم الساحلي، المنطقة الوسطى، دمشق الكبرى، الإقليم الشرقي، الجنوب، الشمال، البادية. وهذه الأقاليم هي مناطق ذات طبيعة غير سياسية، ولكنها تتميز بجغرافية متماثلة وموارد مشتركة، وبالتالي قدرة على التخطيط لهذه المناطق على أساس أنها أقاليم متنافسة اقتصاديًا فيما بينها.
وتقوم الفكرة هنا على إشراك السكان المحليين في عملية التنمية، وإعطاء هذه الأقاليم نوعًا من الحرية الإدارية وتعبيرًا لامركزيًا إداريًا يتوافق مع قانون الإدارة المحلية رقم 107 الصادر عام 2011، وهو ما يتناسب مع طبيعة توزع السكان من الناحية الإثنية، وكذلك طبيعة الأقاليم من ناحية الموارد.
وبموجب هذه المقاربة تقع التنمية على عاتق سكان الأقاليم بشكل رئيسي، خاصة أولئك الراغبين بالانخراط في العمل السياسي في الدولة من رجال أعمال وشخصيات ترغب بالعمل العام، أي أن الدولة بموجب هذه المقاربة تلعب دور التنسيق بين الأقاليم وتوزع الموارد المركزية والموارد الرئيسية بشكل متساوٍ، وتسمح للأقاليم بهوامش إدارية ومالية مرتفعة نسبيًا، كما تشجع على المشاركة الفاعلة في الحكم والبناء لتتحول هذه المشاركة لنوع من التضافر والرقابة الداخلية والتنافس الحميد.
النقطة الجيدة هنا أن السكان سيشعرون أنهم يبنون أماكن عيشهم، ويشاركون في بناء مستقبل أبنائهم، لذا فإن قدرتهم على بذل التبرعات العينية والمالية وتبرعات بالوقت ستكون كبيرة، كما أن قدرة الدولة على الإشراف على عملية التنمية وتعزيز التنافسية والتنسيق ستكون عالية، فمهامها ليست معقدة ومؤسساتها ليست منخرطة أو منهكة في أعمال متفرقة تفوق طاقتها.
مقاربة التنمية غير المتوازنة لإعادة الإعمار في سوريا
في إطار المقاربات السابقة؛ لا يمكن لسوريا أن تكون قادرة على إعادة إعمار نفسها في وقت قصير، ولكن يمكن لها أن تستلم قطاعًا أو منطقة جغرافية وتبدأ العمل على تطويرها، مثلاً قطاع الزراعة هو الأكثر أولوية في الوقت الراهن، وكذلك الصناعات الصغيرة والمتوسطة القائمة عليه مثل صناعة المواد الغذائية، وهو ما يمكن أن تركز عليه الحكومة ومؤسساتها وتعطيه دعمًا عاليًا مثل دعم الأسمدة والوقود والأعلاف والمكننة.
باختصار يتم تركيز معظم الجهود على تنمية قطاع أو قطاعين بحيث تدفع هذه القطاعات بقية الأنشطة نحو الأمام، فنشاط قطاع الزراعة سيعزز العمل في قطاع النقل، وسيعزز صناعة السماد وكذلك الأدوية البيطرية والتغليف والصناعات الغذائية الأولية وينشط التصدير وهكذا تنتقل العدوى الإيجابية نحو بقية القطاعات.
ويساهم قطاع الزراعة بـ20% من الدخل القومي حاليًا، ويشغّل حوالي مليون عامل[3]، كما يتوزع القطاع الزراعي جغرافيًا على شرق وغرب وجنوب وشمال ووسط البلاد، بل وحتى على قطاع البادية عند الأخذ بعين الاعتبار الجانب الحيواني، وهو مايشمل جميع المحافظات.
في الملخص..
إن عملية إعادة الإعمار لا يمكن أن تتم في وقت سريع، بل هي نتاج تراكمي وتنموي في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها من الضرورة بمكان أن تبدأ بخطة عمل، ورؤية اقتصادية متكاملة يكون لها أثر يشمل معظم سكان البلاد، وتكون واضحة بحيث يستطيع الجميع الانخراط فيها.
كما أن مقاربة التنمية قد تختلف من فاعل إلى آخر، ولكن لا بدّ للسوريين من مقاربة خاصة بهم، تطّوع تحركات بقية الفاعلين لصالح السوريين، وتشتبك معهم سياسيًا بلغة المصالح لتعطيهم وتأخذ منهم ما ينعكس بشكل إيجابي على عموم البلاد.