منذ سقوط نظام بشار الأسد، يُطرَح في الأوساط السياسية والاقتصادية كلام عن إمكانية استبدال العملة السورية، وسط نقاش عن إمكانية القيام بمثل هذه الخطوة، والآثار التي يمكن أن تترتّب عليها، ومقارنة مع الوضع التاريخي للعملة في سوريا.
ففي مطلع القرن العشرين، كانت الليرة العثمانية هي السائدة في سوريا، وبالمجمل كانت ليرة معدنية مصنوعة من الذهب أو الفضة، وكان يطلق عليها ألفاظ مثل المجيدية والرشادية نسبة للحاكم العثماني الذي صكها، كما كانت الليرة الفرنسية والبريطانية موجودة في التداول كذلك.
يومها، بدأت الحكومة العثمانية تصدر عملة ورقية أخذت تنتشر بشكل أقل في عموم مناطق سيطرتها بما في ذلك سوريا، ثم انحسرت لصالح دخول الجنيه المصري الورقي في التداول[1]، بعد دخول الفرنسيين إلى سوريا. وعملت الحكومة الفرنسية على إصدار عملة مشتركة لكل من سوريا ولبنان على أساس قاعدة تغطية هذه الليرة بالفرنك الفرنسي والجنيه المصري، وفي عام 1928 أصبح بنك سوريا ولبنان المركزي هو المسؤول عن إصدار هذه العملة فعليًا.
وبعد خروج الفرنسيين من سوريا ولبنان، راحت الأمور نحو استقلال نقدي عن الفرنك الفرنسي وبدأ عهد إصدار ليرة سورية خاصة بسوريا وأخرى لبنانية خاصة بلبنان عبر مؤسستين منفصلتين وليس مؤسسة واحدة، وكانت ولادة مصرف سوريا المركزي الفعلية عام 1953 كمدير لهذه العملة ومصرف للحكومة السورية[2]، ليبدأ عهد الليرة السورية.
هكذا، أصبح لسوريا ليرة رسمية منذ مطلع الخمسينات من القرن العشرين، وكانت العملة تحمل شعار الجمهورية العربية السورية وزخارف عربية وإسلامية، كما كانت تحمل صورةً للمسجد الأموي في دمشق، إضافة لكتابة ليرة واحدة بالفرنسية والعربية[3]، وتم ربط الليرة السورية بالدولار الأميركي بعد أن كانت مرتبطة بالفرنك والجنيه، حيث يساوي الدولار الواحد 2.2 ليرة سورية.
ارتكز البنك المركزي السوري إلى قاعدة التغطية الجزئية بالذهب والعملات الأجنبية؛ أي أنه لإصدار مزيد من العملات فلا بد أن يتوفر 40% على الأقل رصيد ذهب وعملات أجنبية مقابلة لكمية الليرات السورية التي سيتم إصدارها، وهذا أمر ساهم في الحفاظ على قيمة الليرة بشكل كبير، وبقيت قيمة الليرة مرتفعة أمام العملات الأجنبية حتى مطلع الثمانينات حيث كان كل دولار يساوي أربع ليرات تقريبًا.
في هذه المرحلة استبدلت العملات المتداولة من نقود عثمانية وفرنسية وبريطانية وكذلك مصرية، إلى ليرات سورية لبنانية ثم إلى الليرة السورية، وتغيرت الطبعات والنقود المتداولة عدة مرات، ويبدو أنها كانت تغيرات سهلة ومرنة حيث لم نشهد مشاكل اقتصادية أو رفضًا فعليًا للخطوة من قبل أطراف مؤثرة.
أولاً: التخلي عن الليرة السورية في عام 2020
بقيت الليرة السورية وسيطًا للتداول، ورمزًا للجمهورية العربية السورية، إلى جانب العلم والنشيد الوطني اللذين تم التخلي عنهما من قبل المتظاهرين بعد ثورة 2011، ومع بدء الاحتجاجات في سوريا تعرضت الليرة السورية لمشاكل في سعر صرفها مقابل العملات الأجنبية، وتخلى جزء من الجمهور عن التداول بها لصالح التداول بالدولار والعملات الأجنبية، ولكن النظام السوري سارع لإصدار قوانين تمنع التداول بغير الليرة السورية[4]، وتم تأسيس ضابطة عدلية (شرطة) متخصصة بالتأكد من أن التداولات تجري بالليرة السورية داخل الأسواق الخاضعة لسيطرته، كما تدخلت الأفرع الأمنية في مراقبة هذه العمليات بشكل مباشر.
كانت فئة ألف ليرة سورية التي تموضعت عليها صورة حافظ الأسد موجودة في التداول منذ عام 1997، وهو ما أثار حفيظة الثوار بشكل ملحوظ؛ حيث يرفض عدد كبير من الأشخاص في المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام التداول بها، ليس لأي سبب ولكن فقط لأن عليها صورة شخصية يعتبرونها مجرمة، ويبدو أن النظام السوري قد لاحظ ذلك فاستبدلها بإصدار جديد من فئة ألف ليرة بصورة لمدرّج بصرى الشام وبدون صورة الأسد[5]، مما فهم منه أنها مناورة في سبيل تحييد النقد وتركه رمزًا وطنيًا جامعًا، وهو ما أخّر الدعوات للتخلي عن الليرة السورية.
في العام 2017 بدأت الورقة النقدية 2000 ليرة سورية تدخل التداول مع صورة كبيرة لبشار الأسد، ما اعتبره الثوار تحديًا واضحًا لهم، لتأتي ردة الفعل على شكل مزيد من الأصوات التي تنادي بالتوقف عن تداول ليرة سورية تخسر قيمتها من جهة وتحمل صورة قاتل أبنائهم من جهة أخرى.
عام 2018 بدأت الليرة التركية والدولار الأميركي يصبحان وسيطين رئيسين في التداول في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام قبل أن يتم اعتمادهما بشكل مباشر في 2020، حيث تم اعتماد الليرة التركية كوسيط تداول رسمي في شمال سوريا[6]، مع امكانية التداول بشكل أقل بالليرة السورية والدولار الأميركي. وهكذا أصبح في سوريا ثلاث عملات هي الليرة السورية في مناطق النظام السوري، والدولار والليرة التركية في المناطق الخارجة عن سيطرته، فيما حافظ شمال شرق سوريا على التداول بالليرة السورية والدولار الأميركي.
إذاً، في هذه المرحلة تم التخلي عن الليرة السورية لأول مرة منذ إصدارها كعملة مستقلة للبلاد، وأصبح التوجه السائد هو اعتماد الليرة التركية والدولار الأميركي كوسيط تداول يساعد على حفظ القيمة وتسهيل التخطيط والتعاملات اليومية.

ثانياً: دعوات جديدة لتغيير شكل الليرة السورية في 2025
في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2024، رحل نظام بشار الأسد تاركًا خلفه حالة من الخراب والدمار ليس فقط في البنى التحتية، ولكن كذلك الانهيار في سعر صرف الليرة التي وصلت إلى حوالي 25 ألفًا لكل دولار في شمال سوريا، ثم إلى 20 ألفًا في دمشق لتستقر عند حوالي 15 ألفًا بعد أيام من سقوط نظام الأسد[7].
في الساعات التي تلت إعلان سقوط نظام الأسد تم سرقة أموال من البنك المركزي السوري[8] والبنوك الأخرى، وعلى جانب أخر هناك من حمل ما لم يتم تقديره وخاصة في مؤسسات الحكومة التي أصبحت خزنائنها خاوية، وغادر المسؤولون في النظام السوري من عسكريين وأمنيين وكبار الموظفين الحكوميين البلاد حاملين معهم ما قدّر لهم حمله[9]، كما اختبأ البعض في الجبال مع أمواله وأسلحته[10]؛ مما بدأ يوحي بأن الليرة السورية الموجودة في التداول قد تستغل بشكل سلبي في شكلها الحالي، أي أنها قد تتحول لوسط تمويل جماعات عسكرية تقاتل السلطة الجديدة التي بالكاد وصلت إلى الحكم، خاصة مع تأخر الحكومة عن دفع الرواتب في القطاع العام، وإخفاء السيولة من قبل التجار وبعض مكاتب الصرافة والمضاربين، لتأتي دعوات لاستبدال الليرة السورية، بناءً على عدة حجج هي:
- عدم سيطرة الحكومة الحالية على الكتلة النقدية الموجودة بالليرات السورية، حيث يوجد أموال داخل وخارج البلاد يمكن استخدامها بتمويل مقاتلين وعمليات عسكرية مضادة، وهذا يعززه وجود أموال بالليرة السورية في روسيا[11]، والأموال التي تم ضبطها في العراق وغيرها من الأموال التي تم نقله للبنان ودول الجوار.
- سرقة مبالغ مالية من الخزائن الحكومية، ووجودها بيد شخصيات من النظام السوري، أو المجرمين الذين يأخذون في هذه الحالة ما ليس لهم من كميات كبيرة من الأموال التي يحتاجها السوريون بشكل أكبر من أي وقت مضى.
- عمليات حبس السيولة -وإخفائها- التي حصلت من قبل التجار وكبار مؤسسات الصرافة في البلاد والتي تعول على انخفاض سعر الصرف وزيادة الطلب على الليرة من قبل السوريين العائدين إلى بلادهم، مما يجعلهم أمام مكاسب مالية كبيرة.
- انخفاض قيمة العملة الكبير الذي حصل في البلاد، والحاجة لكميات كبيرة من النقود لدفع الفواتير والمشتريات، وهو ما يتسبب بمشاكل حمل العملة، والقدرة على توفير المبالغ المطلوبة في ظل عدم وجود نظام دفع إلكتروني معتمد في أنحاء البلاد.
- وجود صورة الأسد على بعض الفئات النقدية المتداولة في الأسواق، إضافة لصورة الجندي السوري الذي قاتلهم لسنوات طويلة وتسبب بخراب البلاد.
إذًا جاءت الدعوات للتخلي عن الليرة السورية لأسباب تتعلق بالأمن من جهة، والاقتصاد من جهة ثانية، وكذلك لأسباب تتعلق بالتخلي عن إرث النظام السوري الذي وسم الليرة السورية بصور ورسومات تبقيه حاضرًا حتى في جيوب السوريين.
من الناحية الفنية؛ تعد الدعوة للتخلي عن الشكل الحالي للعملة منطقية، وذات حجيّة، خاصة وأن الجانب الأمني حاضر في هذه الحجج، كما أننا أمام مرحلة تغيير شامل يمكن أن يحصل فيه تحولات في شكل العملة.
ثالثاً: تجارب في استبدال العملة
التجربة الهندية في مكافحة الفساد والتحول إلى اقتصاد رقمي
للمساعدة على فهم المطالب التي ترغب بتغيير العملة السورية، وكذلك لمعرفة إمكانية تنفيذ هذه المطالب، نستطيع اللجوء لحالات عملية، أي أن نذكر تجارب بعض الدول التي تخلت عن عملتها أو استبدلتها، ونطلع على الأسباب التي دفعتها للتخلي عنها، والآثار التي نتجت عن هذه العمليات.
في الهند؛ كان العنوان هو: استبدال العملة في سبيل مكافحة الفساد والقضاء على الأموال السوداء بدرجة رئيسية، ثم مكافحة التضخم. هذه هي الأهداف الرئيسية المعلنة وراء سياسة الهند لإيقاف التداول بالعملة المحلية عام 2016، حيث عملت الحكومة على إصدار قرار أوقفت من خلاله التعامل بالعملات النقدية من فئة 500 روبية وفئة 1000 روبية والتي تعتبر الفئات الأكثر استخدامًا في البلاد، فيما حافظت على الفئات الصغيرة التي يحتاجها الناس في المعيشة اليومية، ويمتلكها الفقراء في الغالب.
طالبت الحكومة بإيداع هذه الفئات في البنوك على الفور وعدم التعامل بها خلال مهلة محددة بعدة أشهر، وأصدر البنك المركزي الهندي فئات نقدية من 500 و 2000 برسوم جديدة وأرقام مختلفة عن السابق، وبالفعل كانت الأموال تتدفق إلى البنوك وشهدت البلاد استجابة واسعة لتنفيذ هذا القرار.
واجهت الهند مشاكل كبيرة في عملية التطبيق، حيث أن بلدًا ضخمًا كالهند يمتلك مليارات العملات النقدية في التداول، وهو ما دفع المواطنين للتزاحم عند البنوك، في ظل محدودية فروع البنوك وقدرتها المحدودة على فتح حسابات لكمية كبيرة من المتدفقين ممن لا يمتلكون حسابات بنكية، كما أدت الخطوة لفقدان مؤقت في السيولة، ولكن بالمجمل تم الأمر بنجاح، واستبدلت الهند هذه الفئات، وخرجت بتجربة فريدة كانت نتيجتها:
- قدرة الحكومة على سؤال المواطن الهندي الذي يمتلك كميات كبيرة من العملات الهندية حول مصادر هذه الأموال وما إذا كانت من مصدر رسمي أو لا.
- إلغاء الاستفادة من العملة الهندية التي كانت خارج البلاد، وبالتالي منع استثمارها من قبل العصابات والجهات غير الشرعية، خاصة في عملية المضاربة والأعمال القذرة.
- تحفيز الاقتصاد الرقمي، وإجبار المواطنين على فتح حسابات مصرفية وتنشيط القطاع المصرفي، وتطوير عمليات الدفع الإلكتروني.
- جمع الكتلة النقدية وتقدير قيمتها، وتطويرها من حيث الشكل والقيمة بحيث تكون أكثر فعالية وأقل إمكانية للتزوير.
وبالتالي، نحن نتحدث عن تجربة حديثة، قررت من خلالها الهند استبدال الفئات الكبيرة من العملة بفئات أخرى مختلفة، وجمعت عبرها الأوراق النقدية من السوق، وأجبرت المواطنين على التداول النقدي بشكل أكبر من الورقي، وهو ما صاحبه اختلالات كبيرة، ولكن النتائج كانت إيجابية جدًا.
وفي حال اسقاط التجربة الهندية على الحالة السورية، نستطيع أن نفترض أن الآتي هو ما سيحصل:
- إيقاف التعامل بالفئات النقدية العليا من فئة 5000 ليرة 2000 ليرة و1000 ليرة، والحفاظ على الفئات الأصغر في التداول، مثل 500 ليرة و 200 ليرة ومادون ذلك.
- منح فترة زمنية لتسليم هذه العملات، مع تسهيل فتح الحسابات البنكية لإيداعها، ومن ثم بدء مرحلة سؤال حول مصدر الأموال بعد ثلاثة أشهر على الأقل من تسليم هذه العملات، وذلك لضمان عدم التخوف من قبل المواطنين.
- إصدار طبعات جديدة برسوم متناسبة مع المرحلة الحالية، تمثل سورية الجديدة، والاقتصاد السوري، ويمكن أن تكون هذه العملة من فئات عالية مثل فئة 10 آلاف وفئة 5 آلاف، وكذلك فئة 2 ألف، ووضع معايير لتداول هذه العملات بشكل ورقي، مثل أن يحصر استخدامها في معاملات محددة وضمن حد أعلى.
التجربة العربية في إصدار عملة جديدة
في مطلع 2012 بدأ المصرف المركزي الليبي بالإعلان عن عملية تبديل العملة بأخرى لا تحتوي صور العقيد معمر القذافي، وبالفعل بدأ سحب فئات الخمسة دنانير والعشرة دنانير، وتم ذلك ضمن مخطط زمني مرن، ليتم استبدالها بصور مناضلين من التاريخ الليبي بدلاً من صورة العقيد.
رغم أن الخطوة كانت فعليًا لأسباب تتعلق بالتخلص من صور القذافي، إلا أن مشكلة نقص السيولة في الأسواق كانت أحد الأسباب الجوهرية للتبديل، وهو ما يشبه إلى حد كبير ما حصل في سوريا بعد سقوط الأسد.
وفي 2024 عادت ليبيا لإصدار عملة تمثل تاريخها وأصدرت عدة فئات عليها صورة المجاهد عمر المختار[12]، كما حلّت مشكلة توفر السيولة بيد الحكومة، وفرضت حالة من العودة لقبول شعبي للتداول بالدينار الليبي بدلاً من العملات الأجنبية التي غزت الأسواق.
بالمقارنة مع الحالة السورية يمكن أن يحل تبديل العملة مشكلة نقص السيولة الموجود لدى الحكومة، كما يمكن أن يساهم التغيير بإلغاء العملات التي تحتوي على صور الأسد ورموز النظام السوري، وكذلك إحصاء الكتلة النقدية والسيطرة عليها.
أما في العراق، فقد تعرضت المؤسسات العامة في 2003 لعمليات سلب ونهب، وسرقت مبالغ كبيرة منها[13]، استثمرت هذه الأموال في ما بعد من قبل شخصيات فضلت نفسها على بقية الشعب العراقي الذي كان يحتاج كل دينار من أمواله. بعد مدة زمنية قرر العراق أن يلغي الفئات النقدية التي تحمل صورة صدام حسين واستبدلت بأخرى تحمل زخارف تذكر بالعهد القوي للعراق قبل وصول صدام إلى السلطة. كما لوحظ إصدار عملات من فئة 25 ألفًا وكذلك 10 آلاف وهي فئات ساعدت على التغلب على حالة تراجع سعر العملة، ولم يعد المواطن العراقي مضطرًا لحمل كميات كبيرة لدفع احتياجاته اليومية.
في الحالة السورية تساعد تجربة العراق في التغلب على حالة التضخم الكبير؛ حيث أن إصدار فئات من العملة تحمل أرقامًا عالية ستساعد على تقليل كمية الأموال التي يجب حملها من أجل دفع المستحقات في التداول اليومي.

التجربة التركية في إصدار عملة جديدة
في مطلع الألفية الثالثة كانت الليرة التركية تفقد قيمتها بشكل سريع، ووصل سعر الدولار الأميركي أمامها إلى أكثر من 950 ألف ليرة لكل دولار، وهو رقم كبير يمكن ترجمته على أن الشخص يحتاج إلى كمية كبيرة من العملات من أجل شراء احتياجاته اليومية، مما دفع الحكومة لحذف أصفار من العملة وإجراء تعديلات جذرية في شكل وقيمة العملة.
تم حذف ستة أصفار لتصبح قيمة كل مليون ليرة تركية واحدة (1000.000=1)، وترافق الأمر مع نمو اقتصادي وإصلاحات في مختلف القطاعات الإدارية؛ لتتحسن الظروف المعيشية والاقتصادية وتصير قيمة الدولار 1.34 ليرة تقريباً[14] مع انخفاض نسبي في قيمة الليرة في السنوات اللاحقة.
ساهمت الخطوة التي قامت بها الحكومة في تسهيل الحسابات، وتطوير آليات الدفع، كما ساعدت على الانتقال إلى نظام بنكي إلكتروني، وعززت حضور تركيا بشكل كبير في التجارة الدولية.
في الحالة السورية، تعد الحاجة لحذف الأصفار أقل نسبيًا من الحالة التركية، ويمكن أن نرى أن البعض يدعو إلى حذف ثلاثة أصفار: إلا أن الأمر وإن كان ممكنًا قد يجعل الحكومة تتكلف بشكل كبير حيث ستضطر لدفع مبالغ لتغيير كافة الفئات النقدية، وقد لا يكون الوقت الحالي مساعدًا على هذا التغيير، ومع هذا فهو في إطار الممكن والوارد.
رابعًا: فوائد ومثالب تبديل الليرة السورية
تأتي الدعوات لتبديل الليرة السورية لأسباب متعددة أبرزها ما يتعلق بالتخلص من مرحلة سابقة، والقضايا التي تتعلق بالفساد والسرقة، ولا شك أن الأمر يمكن أن يحقق مجموعة من الفوائد أبرزها:
- التخلص من حمل كمية كبيرة من الأموال، ففي حال أراد شخص أن يدفع فاتورة المطعم مثلاً والتي قد تبلغ بالمتوسط مليون ليرة سورية، فهذا يعني أنه يجب أن يحمل 1000 قطعة من فئة ألف أو 500 قطعة من فئة ألفين أو 200 قطعة من فئة خمسة آلاف، وهي لا شك كبيرة من حيث الحجم والوزن، حيث قد يتراوح الوزن بين ربع كيلو إلى اثنين كيلو[15] من النقود، وبحجم صندوق صغير، وذلك لدفع فاتورة مطعم متوسطة القيمة.
- التحول للنظام الرقمي وزيادة موارد الخزينة، وهذا عن طريق إحصاء الكتلة النقدية وفرض التداول الإلكتروني، والدفع والقبض عن طريق الحسابات البنكية ومنتجات البنوك، وهو ما يساعد الحكومة على جباية الضرائب وتقدير الأرباح وغيرها من المسائل التي تحتاجها الحكومة ونظام الأسواق.
- كشف ومصادرة جزء من الأموال المسروقة وتجنب استثمارها في تمويل الأعمال السوداء، ومكافحة تجارة المخدرات والأعمال الإجرامية، وخاصة تلك التي تتعلق بتكدس الأموال بأيدي شخصيات أثرت من وراء الحرب أو التحول الأخير في شكل الحكم.
- إضافة إلى حل مشكلة السيولة، وتسهيل الأعمال اليومية، وتنشيط التجارة، وغيرها من المسائل التي يمكن أن تحصل، فإن التخلي عن العملة يمكن أن يساعد في مرحلة انتقالية بعيدة عن الذكريات الأليمة القادمة من شكل العملة والرموز المطبوعة عليها.
ولكن على جانب آخر يوجد مجموعة من المثالب التي قد تحدث من وراء تغيير العملة، وهذه المثالب هي:
- ضعف النظام المصرفي ونظام الدفع الإلكتروني، والبنية التحتية اللازمة لفتح الحسابات الرقمية، والتحول لنظام القبض والدفع والحوالات الإلكترونية، هذا الضعف قد لا يمكّن من تحول كامل لاستخدام عملة جديدة، مما يتسبب في إشكاليات في التداول ونظام البيع والشراء.
- ضعف الثقة بالعملة الجديدة في ظل ظروف اقتصادية صعبة، حيث أن قلة الثقة بالظروف الحالية، وعدم وجود رصيد كبير من العملات الأجنبية والذهب قد يؤدي إلى أن العملات الجديدة تواجه بالرفض المبدئي من المتعاملين بحجة عدم وجود تغطية كافية أو أنه غير معترف به أو قابلة للتزوير وهكذا.
- المسألة التنظيمية المتعلقة بقدرة المصرف المركزي حاليًا على القيام بمثل هذه الخطوة، حيث تتطلب تصميم العملة، وطباعتها في جهة موثوقة وتحمل تكاليف هذه الطباعة، وكذلك إجراء عمليات السحب والضخ بوقت قصير نسبياً ودون حصول مشاكل كبيرة.
خامسًا: الخطوات الفعلية لعملية تبديل العملة
إن النيّة هي الأساس في عملية تبديل العملة، ولذلك لا بدّ أن يكون هناك عزم على تبديل العملة، ثم يجب على الحكومة أن تقوم بعدة خطوات لإجراء هذه العملية المعقدة والصعبة، والتي يمكن أن نضعها كما يلي:
- القيام بالدراسات والأبحاث اللازمة لتغيير العملة، والتي يجب أن تشمل حجم الكتلة النقدية، والمشاكل الرئيسية في النقود الحالية، وسبل التبديل، وكيفيته، وأين ستتم الطباعة، وما هي كلفة هذه الطباعة وكيف سيتم ضخ العملة الجديدة في السوق؛ أي أن يكون الإطار النظري الكامل للتبديل مع نقاط القوة والضعف موجوداً للتغلب على المشاكل وتوقعها.
- تطوير البنية المصرفية، والعمل مع المصارف على إيجاد مساحة لاستيعاب الأموال عبر حسابات مصرفية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار وجود تطبيقات إلكترونية، وأجهزة صراف آلي، وأدوات الدفع والسحب والقبض الإلكتروني.
- القيام بعمليات التصميم والطباعة وتجهيز المبالغ النقدية، ووضع خطة الطرح قبل أن يتم الإعلان عن الطرح، ثم ضخ الأموال وفق جدول زمني، وطلب عملية الاستبدال ووضع منافذ كافية تستوعب المبالغ المستبدلة لفئة 5000 وفئة 2000 وفئة 1000 التي تحتوي على صورة حافظ الأسد ( حيث يوجد طبعتين واحدة لا تحتوي والأخرى تحتوي).
- تقييم عملية الطرح، وتعديل الإجراءات وفق عملية التقييم، بحيث لا يكون هناك متضررون على نطاق واسع، وضمان أن يتم تسجيل وتدوين الأسماء وإجراء قوائم لأصحاب المبالغ الكبيرة، ومعرفة مصادرها، وبدء عملية محاسبة واسعة لمن لديهم مبالغ من مصادر غير معروفة، عبر لجان تحقيق شفافة ومستقلة وحيادية، يمكن أن تندمج بلجان الحكم الانتقالي.
هذه الإجراءات قد لا تكون الوحيدة، ولكنها الخطوط العريضة لعملية التبديل والتي حصلت في إطار التجارب المذكورة سابقاً في دول عربية وأجنبية متعددة.

في الملخص
تعد العملة أحد رموز الدولة، وعادة لا يتم التخلي عنها أو استبدالها إلا لأسباب قاهرة مثل حل اختلالات نقدية عميقة، أو التغلب على مشاكل تقنية عالية، أو الدخول في مرحلة انتقالية لعموم البلاد، ولعل هذه الأسباب كلها متوفرة في الحالة السورية، مما يستدعي التفكير بهذا التغيير في وقت قريب.
بعض الدول قامت بتبديل عملتها، ففي حالة الهند لدينا تغيير أدى لتعزيز التداول الإلكتروني وتقليل الكتلة النقدية الورقية في الأسواق، وفي العراق وليبيا تم التخلي عن الفئات التي تحمل صور رؤساء لهم صور سلبية في أذهان الشعب، كما أن التحول في شكل العملة في تركيا أدى لتصحيح خلل عميق بحذف عدة أصفار وبدء مرحلة نقدية جديدة كلياً.