تُشكل جزيئات صغيرة تشبه الفيروسات ولكنّها أبسط بكثير، لها حضور بارز في جسم الإنسان وتُسمّى "المسلات"، أحد الاكتشافات الحديثة الكبيرة، لكنها لا تزال تثير أسئلة كثيرة، ولا تتوافر في شأنها بعد معطيات مؤكدة.
وقال عالم الفيروسات في معهد علم الوراثة الجزيئي في مدينة مونبلييه الفرنسي كريم مجذوب لوكالة فرانس برس: إن "دور هذه الجزيئات في صحتنا لم يُحدَد أو يتضح بعد".
وهذه الجزيئات عبارة عن خيوط صغيرة من الحمض النووي الريبوزي منغلقة على نفسها ولم يكن معروفا حتى قبل أشهر قليلة أنها موجودة في جسم الإنسان. وقد اكتشفها باحثون من جامعة ستانفورد الأميركية، من خلال تحليل معمق للحمض النووي الريبوزي الموجود في مئات العيّنات البشرية.
وبحسب نشرتها مجلة "سل" في نهاية 2024، "فإن هذه المسلات استعمرت الميكروبيومين البشري والكوكبي من دون أن يلاحظها أحد قبل الآن".
وقد أحدث هذا الاكتشاف ضجة واسعة بسبب الانتشار الواسع لهذه المسلات وطبيعتها التي ليس لها مثيل بالمقارنة مع الهياكل التي سبق أن رصدها علماء الفيروسات والأحياء الدقيقة.
جزيئيات شبيهة بعنق النبتة
وهذه المسلات التي سميت على هذا النحو نظرًا لبنيتها الشبيهة بعنق النبتة، تذكّر ربما بالفيروسات المكوّنة عادةً من تسلسل حمض نووي ريبوزي يمكن أن يتطفل على خلايا الإنسان ويجعلها تنتج نسخًا جديدة منه.
ويمكن اعتبار الفيروسات هياكل بسيطة جدًا مقارَنةً بالبكتيريا، لكن المسلات هي أكثر بساطة حتى من الفيروسات، إذ أن تسلسل الحمض النووي الريبوزي الخاص بها أقصر، وعلى عكس معظم الفيروسات، تتجول بحرية، من دون أن تكون محصورةً في كبسولة بروتينية.
وتُذكّر المسلاّت أيضًا بجزيئات اكتُشفت منذ عقود لكنها غير معروفة إلى حد كبير لأن دراستها اقتصرت تقريبًا على النباتات، هي الفيرويدات، وهي عبارة عن خيوط من الحمض النووي الريبي من دون غلاف.

دور في صحة الإنسان
لكن المسلات تتميز عن الفيرويدات بأنها أكثر تعقيدًا بعض الشيء. فالفيرويدات لا تجيد استنساخ نفسها، في حين أن المسلات تبدو، مثل الفيروسات، قادرة على التحكم في إنتاج البروتينات. ولا تتوافر معطيات بعد عن وظائف هذه المسلاّت، وهي أحد الأسئلة الكثيرة التي أثارها اكتشافها.
ورأى بعض الباحثين أن لها دورًا، قد يكون إيجابيًا أو سلبيًا، في صحة الإنسان، وإلاّ لما بقيت بوفرة داخل جسمه. لكنّ كثرًا يحاذرون الخروج باستنتاجات.
وقال مجذوب إن ثمة "وجهة نظر مفادها أن الأشياء موجودة لأن لها غرضًا في الكائن الحي، وهذه ليست بالضرورة الحال دائمًا". ولاحظ أن "وجود المسلات يعود إلى أن التطور البشري مكّنها من البقاء".
إلاّ أن الباحث شرح أن بعض الهياكل المماثلة أثبتت تأثيراتها، بدءًا بموضوع دراسته، وهو فيروس التهاب الكبد الوبائي من النوع "د"، وهو في الواقع خيط دائري من الحمض النووي الريبي لا يمكنه العمل إلاّ بطريقة تابعة بالاشتراك مع فيروس التهاب الكبد الوبائي "ب" الأكثر تعقيدًا.
ما علاقة المسلّات بظهور الحياة؟
وثمة سؤال كبير آخر تطرحه المسلات: هل تعطينا أدلة حول حيثيات ظهور الحياة على كوكب الأرض؟ ففي رأي بعض الخبراء أن المسلات تنضم إلى الفيرويدات في إضفاء صدقية على فرضية "عالم الحمض النووي الريبوزي"، وهي فكرة مفادها أن أشكالاً بسيطة جدًا من الحياة، قائمة على الحمض النووي الريبوزي، كانت موجودة قبل ظهور الحمض النووي.
ويشكل الحمض النووي المادة الوراثية للإنسان، ويُترجم إلى بروتينات بواسطة خلايا الإنسان من خلال المرور عبر الحمض النووي الريبوزي، الأقل استقرارًا بكثير. أما "عالم الحمض النووي الريبوزي" فأكثر بساطة، لكنه يتكون أيضًا من كائنات حية أقل تعقيدًا إلى حد كبير من الحياة الحالية.
وأشار مجذوب إلى أن المسلات والفيرويدات قد تكون، وفقًا لبعض العلماء، "بقايا ما يمكن تسميته حساء الحمض النووي الريبي الأصلي".
لكنّ التمهّل مستحسن هنا أيضًا، فوجود المسلات قد يدعم هذه المقولة، ولكن من الممكن أيضًا أن إنتاجها يتم عشوائيا بواسطة الخلايا والبكتيريا، من دون أن تكون مصدرًا من بقايا الماضي البعيد.
ويلتزم مكتشفوها التحفظ أصلًا. وقال المعدّ الرئيسي للدراسة إيفان زيلوديوف لوكالة فرانس برس: "في الوقت الراهن، ليست لدينا الأدوات التي تسمح لنا بتقدير مدى ارتباط المسلات ببعضها بعضا، وبالتالي كم عمرها". وأضاف "أفضل الامتناع عن التكهن".