لا يكاد يمر يوم على سوريا إلا وتفقد فيه إحدى العائلات فردًا منها أو أكثر إثر انفجار لغم زرعه أحد أطراف النزاع خلال السنوات الماضية.
تواصل هذه الألغام المزروعة على امتداد مساحات واسعة من الأراضي السورية، مهمّة القتل اليومية وتعيق عودة الحياة إلى طبيعتها، رغم انتهاء حقبة الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول عام 2024، بسقوط نظامٍ استخدم مع شعبه أشنع طرق القتل وأعنفها.
تتركز الألغام في سوريا بمناطق ذات طبيعة جغرافية معينة، كالبادية والأراضي الزراعية والمناطق الحراجية، مما يجعلها ذات ضرر أكبر تجاه فئات معينة من المجتمع، وذات تأثير أعمق على مهن محددة.
الألغام في سوريا.. إحصائيات ومعلومات
استُخدمت الألغام من قبل مختلف أطراف النزاع في سوريا على مدار 14 عامًا، ويعود ذلك إلى سهولة تصنيعها وانخفاض تكلفتها.
ورغم أن نظام الأسد استخدمها على نطاق واسع، إلا أنه لم يكن وحيدًا في ذلك، حيث اعتمدتها قوات سوريا الديمقراطية وتنظيم الدولة وأطراف أخرى لتنفيذ الكمائن وحماية المناطق الخاضعة لسيطرتهم.
أدى انفجار الألغام إلى مقتل نحو 3700 مدنيًّا منذ مارس/ آذار عام 2011، منهم قرابة 180 مدنيًّا خلال الربع الأول من عام 2025، حسب عدة تقارير أصدرتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، المعنية بتوثيق الانتهاكات منذ انطلاق الثورة السورية.
فقد وثّق تقرير الشبكة السورية عن الألغام في سوريا -الصادر بتاريخ 31 ديسمبر/ كانون الأول عام 2024- مقتل ما لا يقل عن 3521 مدنيًا نتيجة انفجار الألغام الأرضية، من بينهم 931 طفلاً و362 سيدة، بالإضافة إلى 7 من كوادر الدفاع المدني، و8 من الكوادر الطبية، و9 من الكوادر الإعلامية.
كما أشار التقرير إلى إصابة ما لا يقل عن 10 آلاف و400 مدني بجروح متفاوتة، منهم عدد كبير بحاجة إلى أطراف صناعية وسلسلة طويلة من عمليات إعادة التأهيل والدعم النفسي.
وتوضح خريطة أرفقتها الشبكة ضمن تقريرها أن معظم المحافظات السورية شهدت حالات قتل واسعة بسبب الألغام، خاصةً في محافظات إدلب وحلب ودرعا، فيما لم تشهد محافظات طرطوس واللاذقية والقنيطرة أي حالة، أما محافظة السويداء فشهدت حالتين فقط، حيث ترصد الخريطة الفترة الممتدة من مارس/ آذار عام 2011 إلى أبريل/ نيسان عام 2024، بينما وقعت حوادث انفجار ألغام في محافظة اللاذقية تحديدًا بعد سقوط نظام الأسد أواخر عام 2024.
وبالتدقيق في إحصائية الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025 بشيء من التفصيل، يتضح أن محافظة دير الزور شهدت أكبر عدد من الضحايا بواقع 47 قتيلًا، تلتها حلب بـ38 قتيلًا، ثم حماة بـ28 قتيلًا، ثم حمص بـ21 قتيلًا، تليهم إدلب بـ19 قتيلًا، وبعدها اللاذقية بـ14 قتيلًا، وأخيرًا الرقة بـ5 قتلى ودرعا بـ4 قتلى.
أما عن طبيعة المناطق التي شهدت مقتل هؤلاء الضحايا، فمعظمهم قُتلوا في البادية الممتدة على مساحة واسعة من محافظات دير الزور والرقة وحمص وحماة، فيما قُتل عدد كبير منهم داخل الأراضي الزراعية وخاصةً في محافظات إدلب وحلب وحماة، بينما قُتل عدد أقل في المناطق الحراجية المنتشرة في محافظة اللاذقية، وقُتل عدد آخر عبر انفجار ألغام داخل منازل غير مسكونة أو عند سواتر ترابية وغير ذلك.
وتشير أصابع الاتهام في معظم هذه الحوادث إلى نظام الأسد، لوقوعها في مناطق كانت خاضعة لسيطرته، فيما تشير في حوادث أخرى إلى قوات سوريا الديمقراطية للسبب ذاته، وتأتي الألغام ضمن 10 طرق واصلت حصد أرواح السوريين رغم سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول عام 2024.
خمس مهن يُلاحق الموت أصحابها بسبب الألغام
رغم أن الألغام تؤثر بصورة عامة على مختلف أفراد وفئات المجتمع، ويطول ضررها أصحاب المهن المختلفة والعاطلين عن العمل، إلّا أن خطرها يحيط بأصحاب مهنٍ محددة أكثر من غيرهم، كما يتفاوت عدد ضحايا هذه المهن بعضها عن بعض، وهنا سنسردها تباعًا مع شيء من التفصيل، يتضمن أعدادًا تقريبيةً للقتلى من كل مهنة، مع الإشارة إلى أن هذه المهن تتضرر أيضًا من الذخائر غير المنفجرة، ولكن ضررها الأكبر يأتي من الألغام.
وكما ذكرنا سابقًا بأن عدد ضحايا الربع الأول من عام 2025 بلغ نحو 180 قتيلًا، فهنا سنركّز على عدد ضحايا كل مهنة، مع التأكيد على أن العدد الأكبر منهم لم يُقتلوا خلال عملهم ضمن هذه المهن أو غيرها، وإنما خلال ممارستهم نشاطات بشرية أخرى.
1. تفكيك الألغام.. مُصارعة الموت
يعتبر تفكيك الألغام من المهن الأكثر خطورة في العالم، ويأتي في صدارة المهن التي خلّفت أكبر عدد من الضحايا في سوريا بسبب الألغام، حيث قُتل فيها خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025 ما لا يقل عن 26 شخصًا، في محافظات إدلب وحلب، وحمص وحماة، واللاذقية ودير الزور.
وتحظى هذه المهنة باحترام المجتمع السوري، كون أصحابها يصارعون الموت لحماية غيرهم من خطر الألغام، وغالبًا ما يتطوع مدنيُّون من أبناء المناطق المزروعة بالألغام، حيث يملكون خبرة في نزعها والتعامل معها، اقتضتها طبيعة حياتهم في تلك المناطق، وخاصة في البادية السورية.
إلى جانب المدنيين، يعمل عناصر من ذوي الاختصاص تابعون للدولة السورية على تفكيك الألغام، بينما تعمل فرق الدفاع المدني (الخوذ البيضاء) على وضع لافتات تحذّر من خطر الاقتراب نحو المناطق المزروعة بالألغام.
ويحتاج تفكيك الألغام إلى أجهزة متطورة وخبرات واسعة ومعرفة دقيقة، لأن الخطأ الأول معها يمثّل الخطأ الأخير، وهذا ما يفسّر سقوط عدد كبير من الضحايا أثناء محاولة نزعها وتعطيلها.
لذلك، يتطلب الأمر جهودًا دوليةً للمشاركة في عملية تفكيك الألغام ونزعها في سوريا، لكونها تعيق عودة الحياة إلى طبيعتها وتهدد مهنًا عديدةً يحتاج إليها المجتمع السوري.
2. انفجار الألغام.. ليس خطأ الراعي وحده
تأتي خطورة مهنة رعي المواشي من فكرة أن العامل بها لا يكتفي بأن يضبط خطواته فحسب، بل عليه أن يضبط خطوات الحيوانات المسؤول عنها، لذلك يعتبر دخوله إلى أي منطقة مزروعة بالألغام أشبه بعملية انتحار، لأن احتمالية انفجار لغم به أو بالمواشي تكون عالية جدًّا.
وقد تسببت الألغام بمقتل 18 مدنيًّا أثناء رعيهم للأغنام، متوزعين على محافظات دير الزور والرقة وحمص وحماة وحلب وإدلب، بينما قُتل معظمهم في مناطق البادية، مما يعني أن مهنة رعي المواشي تعد الأكثر خطورة بعد مهنة تفكيك الألغام مباشرةً.

3. ثمرة محاطة بالألغام
تنتشر ثمرة الكمأ على مساحات واسعة من البادية السورية، وتعتبر مصدر رزق رئيس للعديد من الأهالي الساكنين في تلك المناطق، حيث ينتظرون موسمها بفارغ الصبر بين الشهرين الثاني والرابع من كل عام، لكنها أصبحت في السنوات الماضية مصدر موت بسبب الألغام المزروعة في البادية، من قبل تنظيم الدولة ونظام الأسد بشكل رئيس.
فقد أدى انفجار الألغام إلى مقتل 14 مدنيًّا خلال عملهم في جمع ثمرة الكمأ في مناطق البادية ضمن محافظات دير الزور وحمص وحماة، لتأتي –بحسب الإحصائيات- ثالثًا كأكثر المهن خطورة بعد تفكيك الألغام ورعي المواشي، بينما هناك مخاوف من ارتفاع أعداد ضحاياها بشكل كبير خلال الشهر الرابع، تزامنًا مع نهاية موسمها، حيث يعتمد الأهالي عليها لثمنها المرتفع وسط حالة فقر منتشرة في عموم سوريا.

4. أراضٍ مزروعة.. ولكن بالألغام
تكمن خطورة الألغام في الأراضي الزراعية بأنها تهدّد إحدى أهم المهن في سوريا، ألا وهي الزراعة، والتي تنعكس على حياة المواطن البسيط اليومية، كما أنها تعيق عودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم، وتتركّز هذه الألغام في محافظات حلب وإدلب وحماة بشكل رئيس، ويُتهم بها نظام الأسد وقوات سوريا الديمقراطية في المقام الأول، لكون المناطق التي شهدت انفجار ألغام كانت خاضعة لسيطرة أحد الطرفين قبل انطلاق معركة ردع العدوان في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2024.
وقد أدى انفجار الألغام إلى مقتل 10 مدنيين في حوادث متفرقة ضمن المحافظات المذكورة خلال عملهم في الأراضي الزراعية، من فلاحة وزراعة وحراثة وقطف للثمرات وغير ذلك، بينما قتلت الألغام عددًا آخر من العاملين في مجال الزراعة أثناء عودتهم إلى قراهم أو تفقدهم لمنازلهم أو معاينتهم لأراضيهم الزراعية.
ورغم أن هذه المهنة تأتي في المرتبة الرابعة من حيث عدد الضحايا بحسب الإحصائيات، إلا أنّها تهدد عددًا كبيرًا من الأهالي، لكون خطرها مستمر وقابل للزيادة، مع بدء موسم الزراعة وارتفاع أعداد النازحين واللاجئين العائدين إلى مدنهم وقراهم، لتشترك مع رعي المواشي وتفكيك الألغام بالمعاناة المستمرة، ولتختلف عن جني ثمرة الكمأة ذات الخطر المحدَّد بموسمها القصير سنويًّا.

5. موت في جنان الحياة
في قلب الأراضي الحراجية ذات الطبيعة الخضراء والأشجار الكثيفة تنفجر الألغام مهدّدة العاملين في مهنة جمع الحطب، حيث قُتل ستة مدنيين خلال عملهم في هذه المهنة بحوادث متفرقة في المناطق الحراجية بمحافظة اللاذقية.
وكانت هذه المناطق خاضعة لسيطرة نظام الأسد طوال سنوات، مما يرجّح مسؤوليته عن زرعها بالألغام، لتأتي هذه المهنة أخيرًا في عدد الضحايا بحسب إحصائيات الأشهر الثلاثة الأولى من هذا العام، مع تحذيرات من ارتفاع عدد المتضررين منها خلال موسم جمع الحطب.

مهن مهددة مستقبلًا
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الإحصائيات المرتبطة بكل مهنة قد لا تعكس الواقع مستقبلًا بشكل دقيق، لأنها مرتبطة بعدة متغيرات، أبرزها الفترة الزمنية التي تغطيها، والجهود القادمة لنزع الألغام، والتدابير الوقائية المُفترض اتخاذها للحد من وقوع الضحايا، ولكنها في الوقت نفسه، تمثّل بمجملها واقعًا يعيشه السوريون حاليًا بعد سقوط نظام الأسد.
ومما لا شك فيه أن المهن المذكورة سابقًا ليست وحدها المتضررة من الألغام، وإنما تعد الأكثر تضررًا حاليًّا، بينما من المرجح أن تهدد الألغام مهنًا أخرى مستقبلًا، عندما تبدأ مرحلة إعادة الإعمار، بدخول ورشات البناء وموظفي الخدمات وفرق المنظمات المدنية إلى مناطق تعرضت لدمار واسع، وخاضت حروبًا طويلة، حتى تحوّلت إلى مدن أشباح، خالية من مظاهر الحياة، ليمثّل الدخول إليها خطرًا بالغًا على العاملين في هذه المجالات، حيث سيكونون أول المتجولين داخل مساحات واسعة من هذه المناطق.

الموت القادم من الأرض ليس حكرًا على الألغام
رغم أن الألغام تستحوذ على النسبة الأضخم من الموت بسبب مخلّفات الحرب، إلا أنها ليست السلاح الوحيد الذي ينفّذ هذه المهمة، حيث يضاف إليها مخلّفات القنابل العنقودية، والمقذوفات غير المنفجرة من صواريخ وقذائف وطلقات، لتشكّل جميعها خطرًا على المدنيين قد يمتد لسنوات لاحقة.
فقد قُتل نحو 50 مدنيًّا، معظمهم من النساء والأطفال، إثر انفجار مقذوفات من مخلّفات الحرب خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025، بحسب أخبار وتقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فيما قُتل ثلاثة أطفال في محافظتي دير الزور وحلب، خلال شهر يناير/ كانون الثاني عام 2025، إثر انفجار قنابل عنقودية من مخلّفات قصف سابق لقوات الحلف السوري – الروسي.
وتشترك الألغام والمقذوفات غير المنفجرة مع بعضها بعدم القدرة على تحديد الجهة المسؤولة عن زراعة اللغم أو إطلاق المقذوف، مع إمكانية الترجيح في حوادث عديدة، بينما يختلفان عن الذخائر العنقودية التي تُنسب بشكل واضح إلى نظام الأسد وحليفه الروسي، لكونهما الجهة الوحيدة التي قصفت المناطق بهذا السلاح.
ولعلَّ مهنة جمع الخردة تعتبر الأكثر تضررًا من الذخائر غير المنفجرة آنفة الذكر مجتمعةً، حيث تسبَّبت بوقوع مجزرتين، أدت الأولى إلى مقتل 8 مدنيين، بينهم ثلاثة أطفال وامرأتان، إثر انفجار مخلّفات حرب منقولة إلى منزلٍ سكني في بلدة النيرب شرق محافظة إدلب، في 20 فبراير/ شباط عام 2025، فيما أدت الثانية إلى مقتل 16 مدنيًّا، بينهم 5 أطفال و5 نساء، إثر انفجار مخلّفات حرب في محل للخردوات بحي الرمل الجنوبي في مدينة اللاذقية، بتاريخ 15 مارس/ آذار عام 2025.
كما أن هذه المهنة تتأثر بالألغام ولكن بصورة أقل من تأثرها بالذخائر غير المنفجرة، لذلك كان الحديث عنها هنا أكثر دقة من إلحاقها بالمهن المتضررة من الألغام. ولا بد من الإشارة إلى أن الذخائر غير المنفجرة تؤثر أيضًا على أصحاب المهن الخمس المتضررة من الألغام، وإن كان للأخيرة نصيبٌ أكبر في القتل.
الخوذ البيضاء.. أيادٍ بيضاء تقتلع المتفجّرات
وسط هذا الخطر من انتشار الألغام والذخائر العنقودية والمقذوفات غير المنفجرة، تسعى فرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) لتنظيف المناطق من مخلّفات الحرب وتوعية الأهالي وتحذيرهم من خطر الاقتراب من الأجسام المشبوهة.
وبالفعل، نفّذت فرق "التخلص من الذخائر غير المنفجرة" التابعة للدفاع المدني 1229 عملية إزالة، تم خلالها التخلص من 1813 ذخيرة غير منفجرة، ثلثها من القنابل العنقودية، وبلغ عدد المناطق المؤكد تلوثها بالذخائر 362 منطقة.

كما تمكّنت من تحديد 141 حقل وموقع ألغام (بما في ذلك الألغام المضادة للدبابات وأخرى للأفراد)، واضعةً علامات تحذيرية حولها بأساليب مختلفة، دون قدرتها على تعطيلها، مشيرةً إلى أن فرقها "غير مختصة بإزالة الألغام وهذا أقصى ما تستطيع فعله بالفترة الحالية"، يضاف إلى ذلك أنها قدّمت 549 جلسة تدريب عملي لتوعية السكان قبل عودتهم إلى المناطق التي نزحوا منها.
كما أعلنت أنها تسعى إلى زيادة عدد الفرق العاملة في إزالة مخلفات الحرب من 6 فرق إلى 11 فريقًا، مع تحسين نوعية تدريبها، إضافةً إلى عزمها تجهيز وتدريب فرق قادرة على التعامل مع الألغام وإزالتها وليس فقط مع مخلفات الحرب.
وتغطي هذه الإحصائيات الفترة الممتدة من 26 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2024 إلى 2 مارس/ آذار عام 2025، بحسب تقرير نشره موقع الدفاع المدني السوري مؤخرًا.