الأول من أميركا اللاتينية.. فرنسيس "بابا الفقراء" المحب للسينما وكرة القدم
يمثّل البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان الـ266، نموذجًا فريدًا في تقشفه وتواضعه وانحيازه للفقراء، ويتفرد بأنه أول بابا من العالم الجديد (الأميركيتين)، والأول من أميركا اللاتينية، وأول بابا من خارج أوروبا منذ البابا غريغوري الثالث (731-741).
ويالإضافة إلى تنديده خلال الانتخابات الرئاسية الأميركية 2016، بالمرشح الرئاسي دونالد ترمب في حينه، بقوله إن "الشخص الذي لا يفكر إلا في بناء الجدران، أينما كان، وليس بناء الجسور ليس مسيحيًا، ليس هذا هو الإنجيل"، فإن مواقف البابا خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 – 19 يناير/ كانون الثاني 2025) كانت بالغة الوضوح في الانحياز إلى الفلسطينيين في قطاع غزة، ما أثار غضب إسرائيل على رأس الكنيسة الكاثوليكية التي تضم قرابة 1,4 مليار مسيحي في العالم.
وعانى البابا لسنوات طويلة من مشكلات في الجهاز التنفسي، وأُدخل أخيرًا إلى أحد مستشفيات روما للعلاج، قبل أن يعلن الفاتيكان وفاته في 21 أبريل/ نيسان 2025.
وقبل ذلك فاجأ الأوساط الكنسية في العالم بقرار أصدره في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 بأن يشيّع في نعش خشبي عندما تحين وفاته، وقال إنه يريد أن يُدفن في كنيسة القديسة مريم الكبرى في روما بدلًا من كاتدرائية القديس بطرس، ليكون بذلك أول بابا يُدفن خارج الفاتيكان منذ أكثر من قرن.
وبحسب تفاصيل رسمية صدرت عن الفاتيكان، فإن البابا سيتخلى عن عُرف استمر لقرون بدفن البابا في ثلاثة توابيت متشابكة مصنوعة من خشب السرو والرصاص والبلوط، وسيُدفن بدلًا من ذلك في تابوت خشبي واحد مبطن بالزنك. ووفقًا للفاتيكان لن يوضع البابا بعد رحيله فوق منصة مرتفعة، تعرف باسم كاتافالك، في كاتدرائية القديس بطرس ليتمكن الزوار من وداعه في روما.
وأدخل البابا في 14 فبراير/ شباط الماضي مستشفى جيميلي في روما للعلاج بسبب التهاب في الشعب الهوائية، لكن حالته تدهورت إلى التهاب في الرئتين.
وكان البابا خضع لعملية استئصال جزء من إحدى رئتيه عندما كان شابًا.
ومنذ عام 2022 يتحرّك البابا على كرسي متحرك بسبب آلام متواصلة في الركبة، ويتكئ على عصا عندما يضطر للوقوف، وكان قد خضع في يونيو/ حزيران 2023، لعملية لمعالجة فتق في البطن في مستشفى في روما، وفق ما أعلن الفاتيكان حينها.
كما خضع في يوليو/ تموز 2021، لعملية جراحية في مستشفى جيميلي لإصابته بنوع من التهاب الرتج، وهو التهاب في جيوب تتكون في بطانة الأمعاء.
ومكث في المستشفى ثلاث ليالٍ في نهاية مارس/ آذار 2023 بسبب التهاب في الشعب الهوائية، الذي اضطره لاحقًا (في ديسمبر/ كانون الأول 2023) لإلغاء مشاركته المقررة في مؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (كوب28).
البابا فرنسيس.. أرجنتيني لأب إيطالي مهاجر
ولد البابا فرنسيس، واسمه الحقيقي خورخي ماريو بيرجوليو، في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس عام 1936، لأب إيطالي مهاجر فرّ إلى الأرجنتين هربًا من من النظام الفاشي في بلاده، وأم أرجنتينية المولد من أصول إيطالية، وكان الأكبر بين أولادهما الخمسة.
عمل والده محاسبَا في السكك الحديدية، وخلال مراهقة البابا المبكرة أصيب بالتهاب رئوي حاد أدى إلى إستئصال رئته اليمنى حين كان كاهنًا.
في كتاب "الحياة، قصتي عبر التاريخ" وهو يروي سيرته من خلال مقابلات صحافية أجريت معه، تحدث البابا عن طفولته، وبشكل خاص عن جدته روزا من جهة الأب التي كان لها دور كبير في تنشئته، مشيرًا إلى أن جديه كانا يتحدثان بلهجة مقاطعة بييمونتي الإيطالية.
تلقى البابا تعليمه الابتدائي في مدرسة للآباء الساليزيان في إحدى ضواحي بيونس آيرس، أما مدرسته الإعدادية فكانت متخصصة في التقنيات الكيميائية، حيث عمل عدة سنوات فنيًا في أحد المختبرات.
أكمل دراساته في العلوم الإنسانية في تشيلي، وعاد إلى الأرجنتين في عام 1963 ليتخرج بشهادة في الفلسفة من كلية سان خوسيه، ودرس الأدب وعلم النفس واللاهوت لاحق.
ومنذ طفولته وشبابه، عُرف عن البابا شغفه بالأفلام التي كان والداه يصطحبانه وأخوته لمشاهدتها في بيونس آيرس، كما عُرف عنه حبه للموسيقى الشعبية الأرجنتينية، ورقص التانغو، ومتابعة مباريات كرة القدم.
وهو يتقن اللغات الإسبانية واللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية والأوكرانية، بالإضافة إلى الإنكليزية.
بابا بصليب حديدي وليس ذهبيًا
تم تنصيب خورخي ماريو بيرجوليو بابا الكنيسة الكاثوليكية في مارس/ آذار 2013، بعد أن تدرّج في السلك اللاهوتي، وفور تنصيبه اختار اسم فرنسيس، ليكون أول باباوات الكنيسة الذي يُسمى بهذا الاسم.
ويعود الاسم إلى القديس فرنسيس الأسيزي الذي كان من أتباع التيار الإصلاحي في الكنيسة في القرن الثالث عشر، وكان قد اختار حياة التقشف والزهد، وترك حياة الترف كما ترك عائلته وأصدقاءه ودعا إلى مساعدة الفقراء وإعادة بناء الكنيسة.
ومنذ الأيام التي أعقبت تنصيبه، كان القديس فرنسيس ملهمه، فاحتفظ بالصليب الحديدي الذي كان يرتديه عندما كان رئيسًا للأساقفة، ولم يرتد الصليب الذهبي كما كان يفعل سابقوه.
وخلال أول لقاء له مع الكرادلة في الفاتيكان، أصر البابا على استقبالهم وهو واقف لا وهو جالس على "العرش البابوي"، كما رفض الإقامة في القصر الرسولي المقابل لساحة القديس بطرس، واختار بدلًا منه الإقامة في بيت القديسة مرثا، وهو فندق صغير خصصه الفاتيكان لاستقبال ضيوفه، وبهذا كان فرنسيس أول بابا منذ يبوس العاشر لا يتخذ المقر الرسولي مقرًا لسكنه.
ولم يكتف فرنسيس بهذا، بل ألغى المكافآت التي كانت تُصرف لموظفي الفاتيكان بعد انتخاب أي بابا جديد، وتقدّر بعدة ملايين الدولارات، وأمر بالتبرع بها للجمعيات الخيرية.
إقامة في شقة صغيرة
وكانت مآثره هذه استمرارًا لمسيرته الكهنوتية، فبعد تنصيبه رئيسًا لأساقفة بيونس آيرس عام 1998 اكتفى بالعيش في شقته الصغيرة رافضًا الإقامة في مقر رئاسة الأساقفة الفاخر، كما تخلى عن سيارة الليموزين مفضلًا على ذلك التنقل بوسائل النقل العامة.
وخلال الفترة نفسها، حرص فرنسيس على طقس "خميس الأسرار"، أو "الغُسل"، ويُعرف بالخميس المقدّس أيضًا، وهو اليوم الخامس من أسبوع الآلام، وفيه حدثت واحدة من أهم المناسبات الدينية الخاصة بالسيد المسيح، وهي عشاؤه الأخير مع تلاميذه.
وشهد اليوم نفسه قيام السيد المسيح بغسل أقدام تلاميذه، وألقى عظته الشهيرة التي حضّهم فيها على أن يحبوا بعضهم بعضًا، قبل ساعات قليلة من القبض عليه بسبب خيانة يهوذا الذي سلّمه لليهود.
وتذكيرًا بذلك اليوم الذي يتمتع بأهمية استثنائية، حرص فرنسيس على إحياء طقس "خميس الأسرار" في المستشفيات والسجون ودور الرعاية وخلال بعض رحلاته الخارجية.
وبعد انتخابه على رأس الكنيسة الكاثوليكية زار سجنًا للأحداث وغسل أقدام 12 سجينًا بينهم فتاتان، ليصبح فرنسيس بهذا أول بابا في التاريخ يقوم بغسل أقدام نساء.
زيارات فرنسيس للمنطقة
زار البابا فرنسيس عدة دول في المنطقة، وفي مايو/ أيار 2014 كانت أولى زياراته إلى منطقة الشرق الأوسط، وبدأها من الأردن، وشملت أيضًا الأراضي الفلسطينية وإسرائيل.
وخلال الجولة زار البابا مدينة القدس، ليصبح البابا الرابع الذي يزورها بعد البابا بولس السادس، والبابا يوحنا بولس الثاني، والبابا بنديكتوس السادس عشر الذي قام برحلة الحج عام 2009.
وفي 28 أبريل/ نيسان 2017، زار مصر، وفي مارس/ آذار 2019 المغرب، كما زار الإمارات العربية المتحدة في فبراير/ شباط 2019 ليصبح أول بابا يزور شبه الجزيرة العربية.
محاولة اغتيال في العراق
وفي مارس/ آذار 2021 زار البابا فرنسيس العراق، وهي أول زيارة يقوم بها بابا الفاتيكان لهذه البلاد في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، وكانت آخر زيارات البابا إلى المنطقة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2022 بزيارته إلى مملكة البحرين.
وفى آخر كتبه "الأمل لا يخيب أبدًا. حجاج نحو عالم أفضل" الذي يسرد فيه سيرته الذاتية، كشف البابا عن إحباط السلطات العراقية بالتعاون مع أجهزة أمنية عالمية، محاولة اغتيال كان يمكن أن يتعرّض لها لولا القبض على منفذيها المفترضين.
وقال إن المخابرات البريطانية أبلغت الفاتيكان بمحاولة الاغتيال بعد هبوط طائرته فى بغداد فى مارس 2021، وإن اثنين من الانتحاريين المعروفين كانا يخططان لاستهداف إحدى الفعاليات التى كان من المفترض أن يحضرها، لكن قوات الأمن العراقية اعترضتهما قبل التنفيذ.
تنديد متواصل بحرب الإبادة في غزة
وخلال تلقيه العلاج أخيرًا في مستشفى جيميلي في روما، ذكرت وسائل الإعلام الإيطالية أن البابا استمر في ما اعتاد عليه في الآونة الأخيرة، بالتواصل مع الأبرشية الكاثوليكية في قطاع غزة.
ومنذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ندّد البابا في كل مناسبة ظهر فيها أو أي رسالة وجهها لرعيته، بالعدوان، وفي ديسمبر/ كانون الأول 2024 اتهمته تل أبيب بما وصفته "ازدواجية المعايير" بعد تنديده بقصف أسفر عن استشهاد سبعة أطفال من عائلة واحدة.
وقالت الخارجية الإسرائيلية إن تصريحات البابا "مخيبة للآمال بشكل خاص لأنها منفصلة عن السياق الحقيقي والواقعي لحرب إسرائيل ضد الإرهاب"، كما دعته للكف عن "اتباع معايير مزدوجة والتصويب على إسرائيل"، مشيرة إلى "تجاهل البابا" لهجوم حركة حماس والفصائل الفلسطينية على مستوطنات غلاف غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وكان البابا قال لأعضاء حكومة الفاتيكان: "لم يسمحوا لبطريرك (القدس) بالدخول إلى غزة كما وعدوا. تم قصف أطفال. هذه وحشية، هذه ليست حربًا".
وأضاف: "أريد أن أقول هذا لأنّه يمسّ قلبي"، وذلك بعد إعلان الدفاع المدني في قطاع غزة استشهاد 10 أفراد من عائلة واحدة بينهم سبعة أطفال، بعدما استهدفتهم في منزلهم بشمال القطاع في ديسمبر/كانون الأول 2024.
غطرسة الغزاة
وكان البابا قال في نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، إنّ "غطرسة الغزاة تسود على الحوار في فلسطين"، وذلك بعد أسبوع من نشر مقتطفات من كتابه "الأمل" الذي نُشر في الشهر نفسه، دعا فيها إلى إجراء "دراسة متأنية" بشأن ما إذا كان الوضع في غزة "يتوافق مع التعريف التقني" للإبادة الجماعية.
وفي رسالة الميلاد التي وجهها في ديسمبر/ كانون الأول 2023 دان البابا "الوضع الإنساني اليائس" للفلسطينيين في غزة، وقال "أناشد أن تتوقف العمليات العسكرية، وتبعاتها المرعبة، بسقوطٍ للضحايا المدنيين الأبرياء، أطلب أن يتمّ معالجة الوضع الإنساني اليائس من خلال السماح بوصول المساعدات".
وتابع أمام آلاف المؤمنين الذين تجمعوا في ساحة القديس بطرس بالفاتيكان: "أوقفوا تأجيج العنف والكراهية، وتوجّهوا إلى حل القضية الفلسطينية، من خلال حوار صادق ومستمر بين الطرفين، تدعمه إرادة سياسية قوية ومساندة المجتمع الدولي".
ويذكر أن الكرسي الرسولي يعترف منذ عام 2013، بدولة فلسطين ويقيم معها علاقات دبلوماسية، كما يدعم حل الدولتين.