لم يكن تنفيذ الاغتيالات في سوريا نمطًا جديدًا من أنماط القتل ظهر مؤخرًا، بل يُعد طريقةً منتشرةً منذ سنوات طويلة، إلّا أنه انفجر بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول عام 2024 حتى بلغ مستوياتٍ غير مسبوقةٍ في البلاد.
تُنفَّذ عمليات الاغتيال عادةً على أيدي مُلثّمين، يستقلون غالبًا درجات نارية أو سيّارات بدون نمرة، مستخدمين مسدسات لها كاتم صوت في أحيان كثيرة، ومستهدفين ضحاياهم بأوقاتٍ متأخرةٍ من الليل في الأعم الغالب، مستفيدين من الظلام بسبب غياب الإنارة عن الشوارع وسط انقطاعات متكررة ومتواصلة للتيار الكهربائي، كما يساعدهم على الهروب من العدالة غياب ثقافة تركيب كاميرات المراقبة في الطرقات إلى حد بعيد.
ويكتشف الأهالي عمليات الاغتيال إما عبر وقوعها أمامهم أثناء وجودهم صدفةً في مكان الجريمة، أو عبر العثور على جثمان الضحية بعد وقتٍ من اختفائه، حيث تُنفذ بعض العمليات مباشرةً، فيما يُنفّذ بعضها الآخر عبر خطف الضحية ثم قتله ثم رمي جثمانه.

ويستغل مُنفّذو هذه العمليات إعادة تشكيل مؤسسات الدولة السورية عمومًا وجهاز الأمن الجنائي خصوصًا، وذلك بعد سقوط نظام الأسد وهروب العناصر التابعين له، تاركين خلفهم الأفرع والمراكز الأمنية خاوية.
وعلى صعيد الأمن، تواجه الدولة السورية الوليدة تحديات كثيرة، متمثلة بملاحقة فلول نظام الأسد وعصابات تهريب المخدرات والإتجار بالأسلحة، وإيجاد مستودعات الذخيرة والكبتاغون، وضبط الفصائل العسكرية المنضوية تحتها، وحكر حمل السلاح على عناصر الدولة، وإعادة سجن مرتكبي الجرائم الجنائية المُفرج عنهم خلال تحرير البلاد، كل ذلك وسط تطويع عناصر جدد وتدريبها على ملاحقة المجرمين.
في ضوء ما سبق، لم تستطع أجهزة الأمن السوري أن تكشف سوى عن عدد محدود من مرتكبي عمليات الاغتيال التي وقعت بعد سقوط نظام الأسد، فيما بقيت معظمها مُسجّلة ضد مجهول إلى الآن.
فتح السجون على مصراعيها.. خطأ يُدفع ثمنه
بعد سيطرة فصائل المعارضة المسلحة على المدن السورية خلال معركة ردع العدوان فتحت السجون التابعة لنظام الأسد، وأخرجت منها نحو 24 ألف معتقل، ورغم أن قسمًا كبيرًا منهم مسجون ظلمًا على أساس رأيه السياسي أو تعامله بغير الليرة السورية أو ما شابه ذلك، إلّا أن قسمًا آخر كان مسجونًا بتهمٍ جنائية، كالقتل والسرقة والاغتصاب وغير ذلك، ليؤدي خروجهم من السجن إلى فلتانٍ أمنيّ، رافقه فراغ أمني بسبب هروب عناصر الأمن الجنائي التابعة لنظام الأسد وعدم ملء مكانها فورًا عند تحرير المناطق السورية.
أدى خروج هذا الصنف من المساجين إلى وقوع عمليات اغتيال على أساس ذلك، إما عبر قيام بعض هؤلاء المساجين بممارسة القتل أو عبر قتل أحد هؤلاء المساجين على يد أحد المتضررين منهم.
ومثال الحالة الأولى، مقتل مازن الموعي في محافظة طرطوس على يد معروف حسن الذي كان مسجونًا بتهمٍ جنائية خلال فترة حكم الأسد ثم خرج خلال عملية تحرير السجناء وارتكب جريمته، بينما مثال الحالة الثانية، مقتل مجد يحيى راشد في مدينة السويداء بعد خروجه من السجن برصاص مسلحين مقرّبين من رجل قتله عام 2020 وسُجن على إثرها وحُكم عليه حينها بالمؤبد.
لذلك أصدرت وزارة العدل السورية تعميمًا لإعادة حبس المُحرَّرين من السجون الذين كانوا مُعتقلين على أساس جنائي، وسط مخاوف من ارتكابهم للجرائم أو أن تُرتكب الجرائم بحقهم.
الاغتيالات في سوريا.. أرقام وإحصائيات
وقعت نحو 550 عملية اغتيال على أيدي مسلحين منذ سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأول عام 2024 حتى منتصف مايو/ أيار عام 2025، أي خلال 5 أشهر تقريبًا، وبينما عُرف الفاعل في نحو 60 منها، إلا أن الفاعل بقي مجهولًا إلى الآن في نحو 490 منها.
وحتى يتضح المشهد أكثر، فقد وقعت 395 عملية اغتيال على أيدي مجهولين من أصل 490 عملية خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025.
وقد توزّعت عمليات الاغتيال البالغة 395 على مختلف المحافظات السورية، فجاءت محافظتا حمص وحماة وسط سوريا في الصدارة بعمليات اغتيال بلغت 128 و85 على التوالي، تليهما حلب (شمال) ودرعا (جنوب) بعدد 41 و31 بحسب الترتيب، ثم طرطوس واللاذقية (شمال غرب) بواقع 26 و25 تواليًا، وبعدهم ريف دمشق (جنوب) ودير الزور (شمال شرق) وإدلب (شمال) بعدد 17 و16 و11 بالترتيب، وأخيرًا دمشق (جنوب) والرقة (شمال شرق) والسويداء (جنوب) والحسكة (شمال شرق) بواقع 7 و4 و3 و1 على التوالي، علمًا بأن المساحة الأكبر من محافظات دير الزور والحسكة والرقة خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) إلى الآن.
وقد استهدفت عمليات اغتيال عديدة في محافظة حمص أشخاص من أبناء الطائفة العلوية، لم يثبت ارتباطهم بنظام الأسد، وسط شكوك لم يُتحقق منها بأنها ارتُكبت على أساس طائفي.
وبالعودة إلى حصيلة الأشهر الأربعة الأولى من عام 2025 البالغة 395 عملية اغتيال على أيدي مجهولين، فإننا عند مقارنتها بالفترة الزمنية ذاتها من عام 2024، نكتشف أن الزيادة خلال العام الحالي قدرها أكثر من 7 أضعاف العام السابق، حيث وقعت حينها نحو 54 عملية اغتيال، معظمها في محافظة درعا.
الإحصائيات.. توضيحات لا بد منها
عمليات الاغتيالات على أيدي مجهولين البالغة 395 عملية لا تشمل ضحايا الرصاص العشوائي أو الاشتباكات، كما أنها لا تتضمن من ثبت أنه قُتل على أيدي قوات سوريا الديمقراطية أو العناصر التابعين لأجهزة الدولة السورية أو فلول نظام الأسد، كذلك يُستثنى منها عمليات الاغتيال التي كُشف عن منفّذيها، علمًا بأنها تُغطّي الأشهر الأربعة الأولى من العام الحالي.
وقد جمع التلفزيون العربي هذا الرقم من عدة مصادر، على رأسها الشبكة السورية لحقوق الإنسان، وهي منظمة معنية بتوثيق الانتهاكات في سوريا، يُضاف إليها شبكات ومؤسسات محلية موثوقة ترصد هذه العمليات بحسب المنطقة التي تغطّيها.
المستهدفون بالاغتيالات.. ماذا تخبرنا الأرقام؟
وإذا عدنا إلى عدد المقتولين على أيدي مجهولين، والبالغ نحو 400 قتيل خلال 4 أشهر، فإن ثلثهم تقريبًا كان على صلة بنظام الأسد، إما عبر القتال على الجبهات أو كتابة التقارير الأمنية بالأهالي أو ما شابه ذلك، ويتوقع أنه يقف وراء هذه العمليات ضحايا هؤلاء الأشخاص، إلا أنه لا يمكن الجزم بذلك.
وقد تسبَّب نظام الأسد بمقتل نحو 203 آلاف مدني، واعتقال أكثر من 135 ألفًا، حيث دخلوا سجونه، لكن لم يخرج منهم سوى 24 ألفًا، مما يرجّح مقتل 111 ألفًا، ليُضافوا إلى نحو 15 ألفًا ثبت مقتلهم في معتقلاته، بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان.
يُضاف إلى ذلك، دمار واسع تعرّضت له الأحياء والبلدات والمدن السورية، بعد إلقاء نحو 82 ألف برميل متفجر، وتنفيذ قرابة 252 هجومًا بذخائر عنقودية، وشنّ 217 هجومًا كيميائيًا، والقيام بـ51 ضربةً باستخدام الأسلحة الحارقة، رافق ذلك محاصرة أهالي تلك المناطق وتجويعهم، ثم تهجيرهم نحو الشمال السوري، ثم سرقة محتويات منازلهم وأساساتها من حديد وبلاط ورخام، ثم مصادرة أملاكهم.
تلك الانتهاكات الواسعة، من قتل وتدمير واعتقال وتعذيب وسرقة وتهجير، تورّط بها عدد كبير من العناصر والمُخبرين المتعاونين مع نظام الأسد، وهذا ما يفسّر دعوة الرئيس السوري أحمد الشرع لضرورة وجود عفو شعبي عام، يُستثنى منه مرتكبو الجرائم المنظّمة والمجازر، وسجّانو المعتقلات سيِّئة الصيت، ورؤساء الأفرع الأمنية، ومغتصبو النساء، ليشمل عددًا كبيرًا خدم مع قوات الأسد ولكن لم يثبت تورّطه بهذه الجرائم، وهذا ما ترسّخ خلال معركة ردع العدوان وبعدها، عبر التعهّد بحماية كل من يلقي سلاحه من عناصر الأسد خلال معارك تحرير سوريا، ثم بعد ذلك إجراء تسويات لهم تمكّنهم من العودة لحياتهم المدنية.
لكن سياسة الدولة هذه لم تُرضِ ضحايا نظام الأسد، ممن فقدوا ذويهم أو منازلهم أو مصادر رزقهم، مما أدى إلى وقوع عمليات اغتيال واسعة خلال الأشهر الماضية لعناصر ومُخبرين وأشخاص كانوا مرتبطين بالنظام الساقط، بينما على الضفة المقابلة، يتعرّض عناصر وأشخاص تابعون للدولة السورية ومعارضون سابقون لنظام الأسد لعمليات اغتيال بين الحين والآخر.
ومثال ذلك، اغتيال محمد طريف الحمدو، عضو الهيئة العامة في رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا والمعتقل سابقًا في سجون الأسد على يد مسلحين مجهولين في مدينة حلب، وأيضًا، اغتيال الدبلوماسي السوري المنشق عن نظام الأسد، نور الدين إبراهيم اللباد، في محافظة درعا على يد مسلحين مجهولين.
وبين هذا وذاك، وقعت عمليات اغتيال استهدفت أشخاصًا لا صلة لهم بأي طرف، لدوافع معينة، كالخلافات الشخصية أو المادية أو ما شابه ذلك.
كشف الفاعلين.. تحقيقات لا توقّعات
لا بُد لمعرفة منفّذي عمليات الاغتيال من إجراء تحقيقات في كل حالة على حدة، حيث تُرافق بعض هذه العمليات اتهاماتٍ بأنها تُرتكب على أساس طائفي، إلا أن الوقائع أثبتت في عدد منها أن جريمة القتل حدثت إثر خلافات عائلية أو مادية أو ما شابه.
ومثال ذلك، حادثة مقتل عامل النظافة عماد المتوج في قرية بكسا بريف محافظة اللاذقية، حيث انتشرت حينها شائعات بأنه قُتل على أساس طائفي، لتعلن وزارة الداخلية السورية عن إلقاء القبض على مرتكبي الجريمة وهما شقيقه مراد وابنه حيدر، وذلك نتيجة خلافات شخصية تتعلق بنظافة المنزل أدت إلى شجار وانتهت بجريمة القتل.
ومثلها، إعلان وزارة الداخلية السورية عن تمكّن قسم شرطة منطقة مصياف بالتعاون مع إدارة الأمن العام من كشف ملابسات جريمة أسفرت عن مقتل عائلة مكونة من أب وأم وولدهما ذبحًا بالسكين على يد ابن لهما بالاشتراك مع صديقه، مؤكدةً أنه "تم إلقاء القبض على القاتل وسيتم تقديمه للقضاء المختص أصولًا لينال جزاءه العادل"، وقد سبق وأن شاعت اتهامات بأن هذه الجريمة ارتُكبت على أساس طائفي، لكنَّ التحقيقات أثبتت بطلان هذه الادعاءات.
وعلى صعيد آخر، قُتل محمد الصفدي المكلف بتسيير أعمال مخفر مدينة الشيخ مسكين في محافظة درعا إثر إصابته بعدة طلقات نارية، وبينما تتجه الاتهامات والتوقعات في هكذا حالات نحو فلول نظام الأسد، إلا أن الفاعل بهذه الحادثة هما زهير سندباد الياسين ومالك سامي الياسين؛ وسبب اغتياله يعود لخلافات سابقة بدواعي الثأر بينهم منذ عدة سنوات.
وقد كشفت قوات الأمن السوري عددًا آخر من الجرائم، إحداها عندما تمكّن قسم شرطة كللي، التابع لقيادة شرطة إدلب، وفي أقل من 72 ساعة، من إلقاء القبض على قاتلي رامي شبيكة ومحمود دحبور حيث اعترف المتهمان بارتكاب الجريمة، لتعلن وزارة الداخلية السورية تحويلهما إلى القضاء لينالا جزاءهما العادل.
كما تمكّنت من إلقاء القبض على قاتل أحد الصاغة في منطقة العفيف بالعاصمة دمشق خلال أقل من 24 ساعة.
كذلك قبضت قوات الأمن السوري على عصابات تمتهن الخطف والابتزاز والسرقة، وأخرى مرتبطة بداعش، وغيرها على صلة بنظام الأسد، إلا أنها رغم ذلك تواجه تحديات كبيرة مع استمرار عمليات الاغتيال على نطاق واسع.
العدالة الانتقالية.. هل توقف الاغتيالات؟
تختلط ردود فعل السوريين على عمليات الاغتيال اليومية بين ترحيبٍ بتصفية المجرمين المرتبطين بنظام الأسد، وقلق من آثار القتل خارج نطاق القانون على البلاد، حيث يطالب الأهالي بضرورة محاسبة المرتبطين بالنظام السابق، ولكن عبر اعتقالهم ومحاكمتهم، تجنبًا لوقوع مظالم خلال ذلك، كما تُعيق الاغتيالات الاستقرار التام في سوريا، ويرافقها مخاوف من الآثار النفسية لرؤية الجثث في الطرقات وخاصةً بالنسبة للأطفال والنساء.
وسط ما سبق من مخاطر عمليات القتل خارج نطاق القانون، أعلنت السلطات السورية في 17 مايو/ أيار عن تشكيل هيئة مستقلة باسم "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" ضمن مرسوم رئاسي يحمل الرقم "20" لعام 2025، حيث ذكر أن تشكيل هذه الهيئة يأتي "إيمانًا بضرورة تحقيق العدالة الانتقالية كركيزة أساسية لبناء دولة القانون، وضمانًا لحقوق الضحايا، وتحقيقًا للمصالحة الوطنية الشاملة".
وأوضح مرسوم تشكيل "الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية" أن مهمة هذه الهيئة ستكون "كشف الحقيقة حول الانتهاكات الجسيمة التي تسبب فيها النظام البائد، ومساءلة ومحاسبة المسؤولين عنها بالتنسيق مع الجهات المعنية، وجبر الضرر الواقع على الضحايا، وترسيخ مبادئ عدم التكرار والمصالحة الوطنية".
وجاء هذا المرسوم بعد مطالبات حقوقية واسعة بترسيخ مبدأ العدالة الانتقالية في سوريا، حيث أكد مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فضل عبد الغني، أن "تأجيل تطبيق آليات العدالة الانتقالية يعرّض المجتمع السوري لمخاطر متعددة ومتشعبة، أبرزها ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب التي سادت لعقود طويلة، مما يقوّض بشكل خطير الثقة في شرعية المؤسسات الجديدة ويبعث برسالة مدمرة مفادها أن ارتكاب الانتهاكات الجسيمة لا يستتبع مساءلة حقيقية".
وحذر عبد الغني من "أن التأخير يعمق شعور الإحباط والغبن لدى قطاعات واسعة من الضحايا، ويغذي بشكل مباشر نزعات الانتقام الفردي"، منوّهًا إلى أن "هناك حقيقة اجتماعية-نفسية جوهرية لا يمكن تجاهلها: فراغ العدالة الرسمية سرعان ما تملؤه أشكال من "العدالة الشعبية" التي غالبًا ما تكون عشوائية وانتقامية وتفتقر للضمانات القانونية الأساسية".
ويتوقع أن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا سيؤدي إلى انخفاض وتيرة الاغتيالات الواقعة على أساس ارتباط المستهدفين بنظام الأسد، بينما هناك حاجة إلى ضبط السلاح العشوائي وملاحقة أصحاب السوابق وبسط الأمن لخفض وتيرة الاغتيالات الواقعة على أساسات أخرى.