من بريطانيا الباردة إلى الشرق الدافئ المليء بالغموض، بدأت غيرترود بيل عام 1892 رحلةً طويلة تحدوها رغبة في الاكتشاف والمغامرة ولمس أسرار الشرق التي لم يمسّها أحد من قبل.
وكانت رسائلها وسيلتها للتواصل مع والدها السير هيو بيل وزوجة والدها فلورنس بيل، تُمزج فيها يوميات حياتها الشخصية وحياتها السياسية وأفكارها حول العراق.
إنها رسائل رحّالةٍ ومستشرقة كان لها دور كبير في تولّي الملك فيصل بن الحسين عرش العراق، تستعرض فيها خدماتها للمخابرات البريطانية في العراق، وتتشكّل خلالها شخصيتها السياسية ودورها في مؤتمر القاهرة وإنشاء المتحف العراقي.
من هي غيرترود بيل؟
وُلدت غيرترود بيل في ستينيات القرن التاسع عشر لعائلةٍ ثرية من الصناعيين في شمال إنكلترا. وكان جدّها عضوًا ليبراليًا في البرلمان، لذا نشأت بيل في عائلةٍ غنيّة ومهمة. فقدت والدتها وهي في الثالثة من عمرها، وأصبحت قريبة جدًا من والدها هيو بيل وزوجة أبيها فلورنس بيل، وفقًا لما قاله الأكاديمي البريطاني المتخصّص في تاريخ الشرق الأوسط تشارلز تريب لبرنامج "مذكّرات".
من جهته، يوضح الروائي والكاتب العراقي علي بدر لـ"مذكّرات" أنّ غيرترود بيل تنحدر من عائلةٍ ثرية جدًا؛ إذ عمل والدها في تجارة الحديد الصلب في العصر الإدواردي، في زمنٍ لم تكن للمرأة فيه مكانة كبيرة على غرار اليوم. ويلفت إلى أنّ بيل من خرّيجات جامعة أوكسفورد، ومن أوائل النساء اللواتي درسن فيها وحصلن على درجة الشرف.
من جهتها، تشير الدكتورة في التاريخ والمؤلّفة تمارا الجلبي إلى أنّ ثقافة بيل لعبت دورًا في توجّهها إلى الشرق لأول مرة؛ إذ بعد إنهاء دراستها الجامعية قرّرت زيارة خالتها، زوجة السفير البريطاني في بلاد فارس. وكانت رحلتها الأولى إلى الشرق إلى طهران، حيث أُعجبت بالثقافة واللغة والطبيعة والعديد من الأمور الأخرى.
وتلفت الجلبي إلى أنّ بيل "عاشت في طهران أول تجربة حبّ لها مع رجل إنكليزي، وكان كلّ شيء بالنسبة لها في تلك المرحلة ذا طابع إيجابي جدًا".
جاسوسة خلال الحرب العالمية الأولى
من برد لندن وضبابها الكئيب، كانت مس بيل تتابع تطوّرات الحرب العالمية الأولى في الشرق، وتترقّب تقدّم القوات البريطانية في العراق، وتحلم بالعودة إليه مرة أخرى. وكتبت في رسائلها:
"كم أودّ أن أكون من بين الذين يصلون إلى بلاد ما بين النهرين في هذه اللحظة. أتطلّع جدًا لسماع أخبار احتلال بغداد".
وفي هذا الإطار، يقول تريب إنّ بريطانيا غزت العراق في بداية الحرب العالمية الأولى بين عامي 1914 و1915، ووصلت إلى بغداد واحتلّتها عام 1917 بعد هزيمة العثمانيين. وبحلول عامي 1918 و1919، كانت بريطانيا تسيطر عسكريًا بشكلٍ كامل على العراق، ما أثار استياء العراقيين لأنهم لم يُمنَحوا أي دورٍ في الحكومة.
أما الجلبي فتشير إلى أنّه عندما اندلعت الحرب العالمية الأولى كانت بيل من القلائل، من الرجال والنساء، الذين يمتلكون معرفة تفصيلية بالشرق الأوسط، بما في ذلك اللغات والتاريخ وفهم القبائل المختلفة في الجزيرة العربية، وكان هذا مفيدًا جدًا أثناء الحرب. وتضيف أنّه بحلول عام 1915 جنّد جهاز المخابرات البريطاني بيل للعمل لصالح الجهود الحربية البريطانية في الشرق، وبالتحديد ضد العثمانيين.
بدوره، يقول بدر إنّه في عام 1915، أي بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، فكّرت بريطانيا بتأسيس "المكتب العربي" في القاهرة، وهو مكتب استخبارات ضمّ مستعربين وضبّاطًا كبارًا (منهم لورنس العرب)، فعملت بيل معهم في البداية كسكرتيرة أو خبيرة بشؤون الشرق الأوسط، وخصوصًا العراق.
في البصرة عام 1916، وخلال عمل البريطانيين على توطيد وجودهم في العراق ورسم حدوده، التقت بعبد العزيز آل سعود الذي كان يُهيّئ دولته، وأثار إعجابها بملامحه وبسعيه إلى توحيد قبائل الجزيرة. وقالت عنه:
"لقد اقترب ابن سعود الآن من سن الأربعين، إلا أنّه يبدو أكبر من ذلك ببضع سنوات. وهو ذو بنيةٍ جسمانيةٍ رائعة وله حضورٌ شخصي، وقد تعوّد على القيادة. وإذا كان القلق الدنيوي يتحكّم في حياة ناس الصحراء البسطاء، فإن ابن سعود حقّق سيطرته وبسط نفوذه إلى ما وراء حدوده الموحشة".
عام 1917 انتقلت بيل من البصرة إلى بغداد، حيث عملت مستشارةً للمفوّض المدني بيرسي كوكس في شؤون القبائل وأرض العراق.
وتآلفت مس بيل مع المجتمع العراقي في بغداد سريعًا، وربطتها علاقات وثيقة ببعضهم، وساورتها الشكوك حيال آخرين، ولم تمنح الثقة لكثيرين. وفي هذا السياق، تقول الجلبي: "كان العراق في حالةٍ من الفوضى نسبيًا عندما وصل البريطانيون، وخاصةً إلى بغداد عام 1917، لأن العثمانيين انسحبوا فجأة. ونتيجةً لذلك شهد العراق أول حالة موثّقة من النهب التي تكرّرت لاحقًا. كانت الفوضى سائدة لأن الطبقة الحاكمة اختفت، والنظام الإداري كان في حالة انهيار".
من جهته، يوضح تريب أنّ موقف بيل تجاه العراقيين كان مختلطًا؛ فمَن عرفتهم عن قرب كانوا من الطبقة العليا وزعماء القبائل. ولم تكن تعرف الآخرين على الإطلاق، عدا بستانيها وبعض الأشخاص. وكانت تستطيع أن تكون متعالية وأبوية تجاه عراقيين آخرين، لكن الأشخاص الذين احترمتهم حقًا هم زعماء القبائل والطبقات العليا.
أما بدر، فيشير إلى أنّ حياة مس بيل كانت "رائعة"، إذ عاشت في بيت مستأجر قريب من منطقة الحكم في القشلة القديمة، وكانت تخرج صباحًا كغيرها من سكان المنطقة، وارتبطت بعلاقات اجتماعية كثيرة مع الناس، وخصوصًا العائلات الكبيرة من الطبقات الأرستقراطية في الفترة العثمانية. وكتبت:
"هل تعلمون أيها الوالد كيف نفذ حبّ الشرق إلى قلبي، حتى أصبحت لا أعرف كيف أفرّق بينه وبيني؟ إن شعوري بذلك لا يفارقني قط، وأنا أشعر دومًا بسحره وجاذبيته اللذين لا يقلّان في نظري كلما ازددت تعرّفًا به. وأنا أُعتبر مواطنةً من مواطني بغداد أكثر من كثيرٍ من المواطنين المولودين فيها، وأراهن على أنّه ليس هناك بغدادي واحد يهتمّ أكثر أو بنصف اهتمامي بجمال النهر أو بساتين النخل، أو يتعلّق بحقوق المواطنة أكثر من تعلّقي بتلك الحقوق التي اكتسبتها".
معارضة لوعد بلفور
كانت مس بيل، التي أسماها البغداديون "الخاتون"، كثيرة التناقضات؛ ترفض حكم العراقيين لأنفسهم تارةً وتؤيده طورًا، وتقف موقفًا معارضًا لوعد بلفور الذي كانت بلادها تسعى لتنفيذه. وقالت عنه في رسائلها:
"إنني أكره تصريح بلفور الصهيوني؛ فإن هذا التصريح في اعتقادي لا يمكن تنفيذه، لأن البلاد غير ملائمةٍ بالكلية للأهداف التي يضعها اليهود نصب أعينهم".
وتشير الجلبي إلى أنّ غيرترود بيل لم تكن مؤيدة لإعلان بلفور لأسبابٍ تتعلّق بمعرفتها العميقة بالشرق الأوسط والعالم العربي، إذ أمضت وقتًا طويلًا في المنطقة؛ سافرت عبر بلاد الشام وكانت تعرف القدس وبيروت ودمشق، وسافرت إلى بغداد. وتضيف أنّ بيل اعتبرت إعلان بلفور "إشكاليًا للغاية" بالنسبة لحقوق العرب، وأنه سيكون مقدّمةً لعديدٍ من المشاكل. وكانت قلقةً بشأن التوازن، واعتبرت إنشاء وطنٍ يهودي بديلًا أمرًا إشكاليًا تلقائيًا بالنسبة للسكان العرب المحليين.
بدوره يقول بدر: "كانت بيل تتمتّع بالقدرة على التحليل السياسي والاجتماعي، وكانت تؤيد استقلال العراق أو، على الأقل، قيام حكومة عربية/عراقية كبديلٍ عن الحكم البريطاني المباشر. اعتبرت أنّه لا يمكن حكم العراق بشكلٍ مباشر، لأن العراقيين سيرفضون ذلك في النهاية".
ثورة العشرين
وفي سعيها لأداء وظيفتها بشكلٍ "مثالي"، حرصت على أن يظلّ العراقيون متفرّقين. ومع بدء إرهاصات ثورة العشرين، تابعت بقلقٍ توحُّد السنّة والشيعة وولادة حركة تحرّر حقيقية.
وفي هذا الإطار، يقول تريب: "في عام 1920 فُرض نظام الانتداب من قبل عصبة الأمم، ما أثار ثورةً عراقية كبيرة عُرفت بثورة العشرين؛ بدأت في الشمال وامتدّت إلى الجنوب، خصوصًا في منطقة الفرات الأدنى. واستغرقت بريطانيا نحو ستة أشهر لقمعها بتكلفة باهظة بلغت حوالي ألف قتيل بريطاني، وألفي هندي، وعشرة آلاف عراقي".
ومن جهته، قال بدر إنّ العراقيين لم يعتادوا الحكم الإداري المباشر؛ إذ بدأوا بدفع الضرائب لأول مرة، كما بدأ التجنيد الإجباري. وبالتالي انتفض العراقيون في وجه البريطانيين في ثورةٍ عُرفت باسم "ثورة العشرين".
مؤتمر القاهرة
بعد ثورة العشرين، بدأت بريطانيا تبحث عن شخصيةٍ عراقية أو عربيةٍ تتولّى حكم العراق. وقد عبّرت مس بيل في أكثر من موضعٍ في رسائلها عن رغبتها بتولّي أحد أبناء الشريف حسين حكم العراق، وكانت تُظهِر ذلك خصوصًا قبيل مؤتمر القاهرة وأمام شخصيات عراقية. وقالت لجعفر العسكري مرةً:
"قلتُ له إن قناعتي الشخصية هي أننا يجب ألا نخلد إلى الراحة هنا حتى يكون العراق على اختيار أحد أنجال الشريف أميرًا للبلاد، وأنّ الحكومة البريطانية سوف لا تعارض ولا تستطيع أن تعارض الاختيار".
وفي هذا الإطار، توضح الجلبي أنّ بيل "دعمت بشدة تبنّي الملك فيصل بن الحسين أو دعمه ليصبح ملك العراق، إلى جانب لورنس وتشرشل، ونجحت في هذا. وكان المنطق وراء ذلك، بحسب وينستون تشرشل، أنّ الحرب كانت مكلفة، وأنّ بناء الإمبراطورية مكلف؛ وبالتالي كان تولّي فيصل الحكم طريقةً لتقليل التكاليف عبر الدفع نحو الحكم المحلي وتقليل التدخّل البريطاني المباشر".
من جهته، يشرح تريب أنّ وزير المستعمرات البريطاني وينستون تشرشل ترأّس مؤتمر القاهرة الذي ضمّ شخصيات بارزة مثل غيرترود بيل، وتوماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)، وسير بيرسي كوكس المفوّض السامي للعراق، بالإضافة إلى وزيرين عراقيين هما جعفر العسكري (وزير الدفاع) وساسون حسقيل (وزير المالية).
ويقول تريب إنّ المؤتمر اتّخذ قراراتٍ مهمة مثل فصل فلسطين عن شرق الأردن ومنع الاستيطان الصهيوني شرق نهر الأردن. كما جرى الاتفاق على أن يكون عبد الله، شقيق فيصل، ملكًا لشرق الأردن، وأن يصبح فيصل ملكًا للعراق. كما أسّس المؤتمر نظام ما بعد الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط.
بعد عودتها من مؤتمر القاهرة، الذي كانت المرأة الوحيدة فيه، شعرت مس بيل بشيءٍ من "الغرور" لابتكار شيءٍ من العدم. وعبّرت لوالدها في رسائلها بأنها "تعبت من خلق الملوك". وظلّت هذه النبرة ترافقها طوال رسائلها؛ فلم تتوقف عن التعبير عن كونها "المسؤولة" عن صنع العراق وتوجيه الملك فيصل. وكتبت:
"أنا أعتقد، في الحقيقة ومن دون مبالغة، بأنّي أضع كل شيء الآن في راحة يدي".
ويشرح تريب أنّ إصرار بيل على أنها لعبت دورًا محوريًا في تأسيس العراق كدولة وفي جعل فيصل ملكًا يجب أن يُؤخذ بحذر؛ إذ كان لها دورٌ كبير في دعم فيصل، لكنّ فيصل عقد اجتماعاتٍ مع تشرشل المؤيد له، وكان له دعمٌ من لورنس وآخرين؛ لذا لم تكن الصوت الوحيد الداعي إلى تتويجه، وإن بقيت شخصيةً مؤثّرة في ذلك.
تنصيب فيصل ملكًا للعراق
بعد تنصيب فيصل ملكًا على العراق، صوّرت مس بيل عملها معه كما يصوّر أستاذٌ تقديمه المعلومة لتلميذٍ صغير، بلهجةٍ لا تخلو من التعالي الاستعماري. وكتبت:
"ذهبتُ إلى دار فيصل في الرابعة، وفي حقيبتي خرائط العشائر لأُلقي عليه درسًا في الجغرافيا العشائرية. وهكذا قضينا ساعةً ندرس شؤون القبائل ونشرب الليموناضة، ثم قضينا ساعةً أخرى نبحث في تشكيل وزارة فيصل الأولى".
ويوضح بدر أنّ فيصل، بذكاءٍ كبير، كان يحتوي بيل ويستفيد من استشاراتها، كونها الوحيدة التي تعرف ما إذا كان القرار العراقي سيلقى قبولًا في بريطانيا أم لا. وفي الوقت نفسه كانت تُمهّد للقرارات التي يريدها فيصل عبر التقارير التي تكتبها والاستشارات التي تقدّمها للحكومة البريطانية. فكان دورها، برأيه، إيجابيًا دائمًا في العراق.
بدوره، يقول تريب: "عندما اعتلى فيصل العرش لأول مرة، ساعدته بيل بطريقةٍ ما في تقديم المشورة حول العراق والأشخاص الذين تعرفهم والاتصالات والطمأنة. لكن بعد عام 1922 لم يرغب فيصل في تلقي النصائح من أي بريطاني مهما حسُنت نيته، لأنّه أراد أن يظهر ملكًا مستقلًا للعراق. وبالتالي كان من الصعب عليه أن يتلقى مثل هذا النوع من المشورة أو الارتباط بالإدارة البريطانية. وعندها بدأ دور بيل السياسي في العراق يتراجع".
تراجع دور المس بيل في العراق
بين عامي 1923 و1926 شهدت رسائل مس بيل لعائلتها تغيّرًا ملحوظًا في نبرتها؛ إذ أصبحت مجرّد راويةٍ للأحداث التي تجري في العراق من دون أن تكون جزءًا منها، وكأنها أُقصيت عن أدوارها. وبلغ بها الحال أن تقول عن نفسها عام 1925:
"صرتُ أشعر بأنّي مثل القصبة المكسورة، وعلى كلٍّ هذا هو الوضع، وجلّ ما أستطيع فعله هو أن أنام".
وفي هذا الإطار، تقول الجلبي: "انتقلت عائلة فيصل إلى العراق، وأصبح فيصل محاطًا بزوجته ووالدته وأخته. وفي حين كانت بيل تلعب دورًا مهمًا جدًا في حياته اليومية كمستشارة، بدأت الدولة العراقية تأخذ مسارها، حيث تمّ إنشاء المؤسسات. لذا بدأ دور بيل المباشر والفوري يتضاءل كمسألةٍ واقعية، ولم يكن تهميشها أمرًا متعمّدًا".
التنقيب عن الآثار في العراق
في سنوات ركود حياتها السياسية، ازدهر اهتمام بيل القديم بالآثار؛ فصارت حياتها تتراوح بين رحلاتٍ في مدن العراق للتنقيب عن الآثار وحفلات شاي لا تتوقف. وعن هذا كتبت:
"كنتُ في هذا الأسبوع أُحلّل راتبي الذي أتقاضاه على وجه التأكيد؛ إذ حضرت لتناول الشاي عندي يوم الثلاثاء عشرون سيدة، من أصل ثمانٍ وأربعين سيدة كنتُ قد دعوتُهُنّ. وبعد الشاي تحدّثتُ لهنّ عن تاريخ العراق القديم والتنقيبات الحديثة".
ويوضح تريب: "كانت غيرترود بيل مهتمة جدًا بعلم الآثار، لذا بدأت تفكّر في توجيه طاقاتها نحو ذلك في العراق. وبعد انتهاء دورها السياسي، عيّنها الملك فيصل مديرةً مؤقتةً للآثار في العراق عام 1922. وكانت تشعر أنّ الإرث العراقي الذي كان حتى ذلك الحين تحت الحكم العثماني بات فوضى حقيقية".
من جهتها، تشرح الجلبي أنّ العراق مدينٌ بالكثير لغيرترود بيل؛ إذ إنّها أسّست المتحف الوطني العراقي عام 1923. وكان لها دورٌ كبير في إنشاء سياسةٍ أثرية عراقية، رغم أنّه جرى انتقادها لأن كل ما تمّ التنقيب عنه جرى تقسيمه بين العراق وبريطانيا. ومع ذلك، لو لم تؤسّس بيل ذلك، لما كان هناك متحفٌ في العراق؛ إذ كان باستطاعة البريطانيين أخذ كل شيءٍ في تلك اللحظة.
خيبات أمل فوفاة
أحبّت مس بيل بغداد حين عاشت فيها، لكن رسائلها ظلّت تحمل ذلك التناقض الذي يعيشه المستعمر بين حبّه للبلد الذي يعمل فيه ورغبته في إخضاع سكّانه. وظلّ هذا التناقض رفيق رحلتها، التي، رغم كلّ ما حقّقت فيها، لم تنل فيها شهرةً كتلك التي نالها زميلها لورنس العرب.
وفي هذا السياق، تقول الجلبي: "كانت غيرترود بيل في نهاية حياتها، بعمر السادسة والخمسين، شخصًا معزولًا. لقد مرّت بخيبات أملٍ عدة في حياتها، وخاصةً في حياتها العاطفية. لم تتمكن أبدًا من الزواج من الرجل الذي أحبّته. وكان هناك الكثير من الموت في حياتها؛ إذ فقدت والدتها بعمرٍ صغير، كما فقدت أخاها وأختها خلال الحرب العالمية الأولى، وأيضًا الرجل الثاني الذي كانت تحبّه بجنون. لذا أصبحت بيل معزولة".
وتضيف الجلبي أنّه بعد كل هذا الموت الذي أحاط بحياتها، لم تتحمّل بيل فكرة فقدان والدها، فقرّرت إنهاء حياتها؛ فتناولَت حبوبًا ولم تستيقظ أبدًا.
ويقول بدر: "عندما ماتت بيل، لم يحضر الملك فيصل، لكنه أمر بأن تُقام لها جنازة كبيرة تحضرها كلّ الشخصيات العراقية. وكان فيصل يُقدّر دورها بشكلٍ كبير، وكان وفيًّا لها؛ بما يؤكد أنّ لها دورًا كبيرًا في قبوله من قبل البريطانيين ملكًا على العراق".
وبحسب الجلبي، فإنّ تجربة غيرترود بيل كانت مختلفة جدًا عن تجربة لورنس في المنطقة؛ فعلى الرغم من أنهما كانا زميلين وعمِلا بشكلٍ وثيقٍ لتأمين موقع الملك فيصل، وكلاهما كان يؤمن بالحكم العربي، إلا أنّ الفرق هو أنّ لورنس كان أكثر نشاطًا، وكان جزءًا من الثورة العربية. وبينما كان لورنس يتمتّع بحسّ المغامرة، كانت بيل، باعتبارها امرأة، غير قادرة على قيادة الجيوش إلى الصحراء. لكنّ المعرفة التي قدّمتها كانت ربما أعمق من لورنس من حيث إتقانها العربية ومعرفتها بالقبائل المختلفة والتفاصيل.
بدوره، يقول تريب: "كانت بيل امرأة ذات قوةٍ ونفوذٍ استثنائيين، لكن ذلك كان في خدمة قوةٍ استعماريةٍ وإمبراطورية".
وكتبت مس بيل في إحدى رسائلها لوالدها تقول:
"لا أدري كيف سأستطيع، في أيّ يومٍ كان، انتزاع نفسي من هذه البلاد".
ماتت بيل في هذه البلاد التي لم تستطع انتزاع نفسها منها، لتظلّ رسائلها وإرثها شاهدين على قصة امرأةٍ رحلت من الغرب إلى الشرق، طامعةً وطموحةً، وتُوفيت فيه.