Skip to main content

الدروز في فلسطين: من المقاومة إلى "وحدة الأقليات" وصناعة التجنيد

الجمعة 5 سبتمبر 2025
جنود من وحدة السيف الدرزية في الجيش الإسرائيلي خلال تدريب عسكري في شمال فلسطين بعد عام 1948 - ويكيبيديا

مثّلت العلاقة بين الدروز في فلسطين (1) والحركة الصهيونية قبل عام 1948، ثم بعد قيام إسرائيل، ملفًا شائكًا يحتمل كثيرًا من الجدل، خاصة بعد دخولها في سياق الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال. وقد عاد النقاش للاشتعال مع أحداث كالصدام بين فصائل من الطائفة في السويداء والحكومة السورية، والتدخل الإسرائيلي العسكري في الأزمة لتحقيق مشروع قديم–جديد يتمثّل في تقسيم البلاد على أسس طائفية، كما يؤكّد باحثون ومختصون وسياسيون.

تذكُر مصادر تاريخية أنّ اهتمام الحركة الصهيونية بالدروز في فلسطين بدأ مع يتسحاق بن تسفي الذي شغل لاحقًا منصب الرئاسة في إسرائيل (1952–1953). فقد كتب القيادي الصهيوني دراسات تاريخية حول الدروز، سعى فيها إلى خلق "علاقة تاريخية" بين الدروز واليهود، في سياق استخدام المعرفة التاريخية لتأسيس علاقة وفعل سياسي (2). وركّز الكتّاب اليهود اللاحقون الذين تناولوا المسألة الدرزية على فكرة "التقية" (3) التي اعتبروا أنّها "تمنح الدروز القدرة على التأقلم مع الوضع الراهن والدخول في التحالفات مع القوى السائدة"، رغم ما في هذه الفكرة من تعميم، إذ كانت عديد القيادات الدرزية في تلك السنوات شخصيات فاعلة في مشاريع استقلالية وقومية عربية، وخاصة في بلاد الشام.

هذه الكتابة التاريخية التي تحاول بناء مسار "سياسي" على رواية "تاريخية متخيّلة"، لم تحجب في الكتابات الصهيونية الأولى، خاصة لدى بن تسفي، أخبارًا عن هجمات منسوبة للدروز على تجمعات يهودية في مدينة صفد خلال فترة الحكم العثماني. كما تشير مصادر تاريخية إلى أنّ الحركة الصهيونية هجّرت الدروز من قريتي الجاعونة والمطلة شمال فلسطين، بعد "شراء مساحات ضخمة من أراضيهما من مُلاّكين كبار من خارج البلاد".

هل شارك الدروز في النضال ضد الاستعمار والصهيونية؟

يُطرح كثيرًا في الجدالات التاريخية والشعبية سؤالٌ عمّا إذا كان الدروز قد شاركوا في النضال العربي والفلسطيني ضد الاستعمار، وخاصة في فلسطين، في الثورات التي سبقت النكبة.

تذكر المصادر التاريخية عدة تجارب وشخصيات شاركت في النضال العربي والفلسطيني ضد الاستعمار والخطر الصهيوني قبل النكبة، بينها تجربة تنظيم ثوري عُرف بـ"الكف الأخضر" (4) شكّله المناضل الدرزي أحمد طافش، وشنّ سلسلة عمليات ضد التجمعات اليهودية في مدينة صفد، ورفع شعار الكفاح المسلّح ضد القوات البريطانية والحركة الصهيونية، تعبيرًا عن عدم اقتناعه بسياسة "النخبة الفلسطينية" في تلك الفترة التي فضّلت الخيارات السياسية والدخول في تفاوض مع بريطانيا لتحصيل الحقوق العربية. ولم يحظَ التنظيم بالتأريخ الكافي، كما يعتقد عدد من مؤرخي تلك المرحلة.

وشارك دروز فلسطين ولبنان وسوريا في ثورة فلسطين الكبرى (1936) التي امتدت لعدة سنوات وتُعدّ من أكبر الحراكات الثورية الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني والخطر الصهيوني. وكان لشخصيات درزية سورية ولبنانية دور محوري في عمليات نقل السلاح والدعم اللوجستي للثوار الفلسطينيين. وتشكل خلال الثورة فصيل عسكري بقيادة حمد صعب من دروز لبنان، قاتل إلى جانب القائد فوزي القاوقجي في معركتَي بلعا الأولى والثانية. وتذكر تقارير صهيونية أنّ فصيلًا درزيًا بقيادة قاسم غضبان شارك في الثورة وخاض معركة ترشيحا ضد القوات البريطانية (5).

وانخرطت شخصيات درزية في النشاط السياسي والفكري المناصر لقضية فلسطين والقضايا العربية في تلك الفترة، بينهم الزعيم سلطان باشا الأطرش، قائد الثورة السورية ضد الاستعمار الفرنسي، الذي كان له موقف داعم للثورة في فلسطين (6). كما حذّر الأمير شكيب أرسلان منذ البدايات من المشروع الصهيوني، ويُروى عن رفضه لقاء حاييم وايزمان أحد قادة الحركة الصهيونية، وذكر بن غوريون في مذكّراته أنّ أرسلان كان صلبًا في رفض المشروع الصهيوني (7). ومنهم أيضًا الصحفي والسياسي هاني أبو مصلح الذي اشتكتْه الحركة الصهيونية لقيادات درزية على خلفية خطاباته في مسجد مدينة حيفا ضد المشروع الصهيوني (8)، وأسعد كنج أبو صالح الذي درّب مقاتلين في جبل الشيخ قبل الدخول إلى فلسطين للانخراط في الثورة (9).

وفي حرب النكبة (1948) شارك دروز فلسطين وسوريا ولبنان في عدة معارك مع العصابات الصهيونية، بينها معارك هوشة والكساير، واللطرون، والجليل الأوسط، والمالكية، ومعركة يانوح التي تُعدّ من الأحداث الفاصلة في تاريخ المشاركة الدرزية في الحرب. وتختلف الروايات حول ما حصل في القرية؛ وتقول الرواية الإسرائيلية إنّ قوة من الدروز الذين قبلوا التجنيد لوحدة "الأقليات" في الجيش الإسرائيلي توجّهت لاحتلال المنطقة. وقبل وصولها إليها وجّه الشيخ جبر داهش معدّي، الذي كان أحد أعضاء الحزب القومي السوري الاجتماعي بقيادة أنطون سعادة قبل أن يتحول إلى العلاقة مع الحركة الصهيونية بعد أن رأى "الكفّة تميل إليها"، رسالة إلى أهالي المنطقة قال فيها: "الفرقة الدرزية في الهاغاناه تصل في الساعة كذا… فحضّروا لهم استقبالًا حاميًا". فهاجم أهالي المنطقة القوة وكبّدوها خسائر فادحة. وتختلف المصادر التاريخية في تفسير رسالة معدّي: هل كان يقصد "استقبالًا حافيًا" أم أنّ كلمة "حاميًا" فُهمت على أكثر من وجه، أم أنّه قصد توجيه الرسالة لجيش الإنقاذ ليهاجم القوة؟ (10)

التسلّل عبر الخلافات العربية

تمثّل سياسة "فصل الدروز عن بقية العرب" جزءًا مركزيًا من استراتيجية الحركة الصهيونية خلال فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين، وصولًا إلى حرب النكبة (1948) وما بعدها. وفي إطار هذا المسار نُفّذت مجموعة من السياسات تُفصح عنها عدة أحداث.

خلال أحداث ثورة البراق (9 أغسطس/ آب 1929) سعت الحركة الصهيونية لإبعاد الدروز عن المشاركة فيها. واستغلّ مدير مكتب الصندوق القومي اليهودي يوسف نحماني حادثة اعتداء عناصر الشرطة من (المسلمين السنّة) على أهالي قريتي الرامة والمغار الدرزيتين لفتح اتصال مع قيادات درزية. وبعد أيام اجتمع يتسحاق بن تسفي مع مختار قرية المغار والشيخ سليمان طريف (رئيس الطائفة الدرزية) ووعدهم بالإفراج عن المعتقلين، وهو ما تحقق وفتح له مدخلًا لزيارة المنطقة (11).

استخدم القيادي الصهيوني آبا حوشي، الذي يُعدّ من الشخصيات المركزية في العلاقات بين الحركة الصهيونية وقيادات درزية، قضية دخول القيادي في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936–1939) أبو درّة إلى قرية عسفيا الدرزية، والروايات التي "أشيعت لاحقًا عن اعتداءات على السكان". وكتب رسائل أوكل توزيعها على الدروز في سوريا ولبنان لشخصيات كانت تعمل معه، مستخدمًا لغة تُثير المشاعر وتبثّ التحريض ضد الثوار في فلسطين (12).

مقاتلون دروز مسلّحون في فلسطين أثناء الانتداب البريطاني - غيتي

حاول آبا حوشي، مع قيادات صهيونية أخرى وشخصيات درزية عملت معهم مثل لبيب أبو ركن، استغلال هذه الحادثة والرسائل التي بُثّت بين دروز سوريا ولبنان لتنفيذ مشروع تهجير للطائفة الدرزية من شمال فلسطين إلى جبل العرب، وحاولوا إقناع سلطان باشا الأطرش، لكن هذه المحاولات فشلت (13).

واستغلّ آبا حوشي ومساعدوه والمتعاونون معه من الدروز مناوشاتٍ طائفية في شفا عمرو عام 1939 لتحريض الطائفة الدرزية في سوريا ولبنان ضد بقية العرب والمسلمين في فلسطين المحتلة، على طريق تحقيق مشروع تهجير دروز البلاد والاستيلاء على أرضهم (14).

"تفسيخ العرب": تفكيك الفوج الدرزي وظهور "وحدة الأقليات"

بعد قرار الجامعة العربية، في مطلع يناير/ كانون الثاني 1948، تشكيل جيش الإنقاذ للقتال في فلسطين وتكليف فوزي القاوقجي بقيادته، توجّه الأخير نحو جبل العرب في سوريا وطلب من الدروز المشاركة بمتطوعين. وتشكل فوجٌ درزي من المنطقة بقيادة شكيب وهاب ودخل إلى شمال فلسطين، وانضمّ إليه مقاتلون من دروز فلسطين، وخاض معارك فيها، بينها معركة هوشة وكساير (12–16 أبريل/ نيسان 1948)، بعد رسالة من القاوقجي يطلب فيها المساندة لإنقاذ قواته التي كانت تقاتل في "كيبوتس مشمار هعيمك". وسيطرت قوات وهاب على المنطقة، وخاضت قتالًا ضاريًا ضد قوات من لواء "كرملي" هاجمت المنطقة. وقُتل 12 جنديًا بينهم زوريك دايان شقيق موشيه دايان وفقًا للرواية الصهيونية، بينما قال وهاب إنّ نحو 200 سقطوا بين قتيل وجريح. قبل أن تشن القوات الصهيونية هجومًا جديدًا على المنطقة وتسيطر عليها، إذ "استغلّت أنّ وهاب كان يترك قوة صغيرة من جنوده خلال الليل فيها ويسحب بقية القوات إلى شفا عمرو بسبب نقص الإمكانات اللوجستية". ودارت معركة شرسة بعدها استُشهد وجُرح عشرات الدروز الذين وصلتْهم إمدادات من دروز يركا بقيادة مفيد الغصين وجبر داهش معدّي الذي أصبح لاحقًا من أقطاب العلاقة مع إسرائيل (15).

أُصيبت قوات وهاب بـ"الإحباط" بعد هذه الخسائر، وتنقل عنه مصادر تاريخية رسائل لقيادته في دمشق يطلب المدد والإسناد لترميم ما حصل، لكن "دون جدوى"، حسب وصفها. واستغلّ جهاز "شاي" (استخبارات "الهاغاناه") هذه الظروف لتفكيك الكتيبة الدرزية، وتولّى غيورا زايد، المعروف بنشاطه بين الدروز والتجمعات البدوية الفلسطينية حينها، المهمة (16).

وتختلف الروايات التاريخية بين الكتّاب العرب والإسرائيليين حول هذا الملف من تلك المرحلة. فبينما روّج باحثون إسرائيليون أنّ وهاب عقد اتفاقًا مع القوات الصهيونية وانسحب من البلاد، يرى مؤرخون، استنادًا إلى وثائق مختلفة وفحصٍ في المصادر التي استندت إليها الرواية الصهيونية، أنّها غير دقيقة. وأنّ ما حصل هو اجتماع بين قيادات صهيونية عسكرية مع ضباط دروز، بينهم إسماعيل قبلان الذي أصبح لاحقًا ضابطًا في حرس الحدود الإسرائيلي، من دون علم شكيب وهاب الذي خرج إلى المالكية قبل أن يغادر البلاد على إثر الخسائر ونقص الإمدادات، كما يؤكّدون. ولم ينتقل للعمل مع الحركة الصهيونية سوى «عدد قليل من الفوج الدرزي» (17).

على إثر انسحاب الكتيبة الدرزية، في سياق انسحاب قوات عربية أخرى كانت ضمن "جيش الإنقاذ"، واستقطاب العصابات الصهيونية شخصياتٍ درزية للعمل معها، من بينهم مقاتلون سابقون في الكتيبة، حاولت القيادة العسكرية الصهيونية حينها جلب مقاتلين آخرين إلى وحدة أُعلن عنها بصورة رسمية في أغسطس/ آب 1948 عُرفت باسم "وحدة الأقليات"، ضمّت في البداية مجموعة من البدو والشركس ومسيحيين ومن موارنة جنوب لبنان، إضافة إلى الدروز.

تؤكّد وثائق تاريخية لجيش الاحتلال أنّ الهدف الأساسي من تشكيل "وحدة الأقليات" هو "تفكيك الوحدة العربية من خلال توسيع الفجوة بين الأقليات: الدروز والبدو والشركس وبين العرب المسلمين"، واستخدام مفهوم "الأقليات" الذي لم يكن متداولًا في المجتمع الفلسطيني في تلك السنوات، وتفريق البدو والدروز والشركس عن العرب المسلمين رغم أنّهم جزء أساسي من المجتمع الفلسطيني ويعرّفون أنفسهم على أنّهم مسلمون. ومن تورّط منهم في الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال كانت نسبتهم قليلة، ما يشرح الأهداف الاستراتيجية من توجّه الاحتلال نحو إدخال عرب، وفي مقدّمتهم الدروز، في الجيش.

ويذكر جيش الاحتلال أنّ هدف الوحدة حينها "جذب أكبر عدد من المنشقين عن جيش الإنقاذ وباقي الجيوش العربية". وتأكيدًا على الهدف السياسي من إقامتها كان تعيين قائدها يجري بالتعاون مع القسم السياسي في وزارة الخارجية، ويتلقى التوجيهات من الوزارة إلى جانب رئيس الأركان ومسؤول مديرية العمليات في الجيش. لكن الأمور لم تَسِرْ على قدر المأمول إسرائيليًا؛ إذ غادرها عدد من جنود وتمرد آخرون بسبب ما اعتبروه تمييزًا لصالح الجنود اليهود (18).

"التجنيد الإجباري".. كتمُ الأصوات المعارضة

في التمهيد لفرض الخدمة العسكرية الإلزامية على الشبان الدروز، التي تأتي ضمن سياسات فصلهم عن بقية المجتمع الفلسطيني، مارس قادة الأجهزة السياسية والأمنية الإسرائيلية، التي كانت قد تشكّلت بعد قيام إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني، جملة سياساتٍ اقتصادية واجتماعية محورها منح الامتيازات للعائلات التي قبلت طوعًا الانخراط في السياسة الإسرائيلية، وحرمان تلك التي رفضت أو أبدت تحفّظًا، خاصة لجهة الخدمة العسكرية. وأبرز الأمثلة هنا الضغوط التي تعرّض لها الشيخ أمين طريف، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية، الذي تقول المصادر إنّه عارض فرض التجنيد الإجباري على الشبان الدروز، ورفض المصادقة على زواج جندي درزي. وامتد الصراع بين الشيخ والشخصيات الموالية لدولة الاحتلال إلى المواسم الدينية مثل موسم النبي شعيب الذي تحتفل به الطائفة في مقام النبي شعيب، في جبل حطّين شمال فلسطين، في كل ربيع، قبل أن تكسر هذه السياسات معارضته (19).

زعمت الحكومة الإسرائيلية، في الرواية الرسمية الصادرة عن أجهزتها طوال العقود الماضية، أنّ فرض التجنيد الإجباري على الشبان الدروز جاء بعد رسائل من "قيادات الطائفة"، بينهم جبر معدّي وصالح خنيفيس وعلي ملحم معدّي وكمال معدّي وفرحان طريف وتوفيق يوسف وفايز صالح يوسف. لكن المؤرخ قيس فرو يرى أنّ اللغة العبرية البليغة التي كُتبت بها الرسائل تشير إلى أنّها صيغت من قِبل "النشطاء الصهاينة" وليس الوجهاء الدروز (20).

جنود إسرائيليون يقفون قبالة متظاهرين دروز في مجدل شمس - غيتي

بعد فرض التجنيد الإجباري على الشبان الدروز عام 1956، عارضته غالبية أبناء الطائفة، وتجاهلت نسبة واسعة من الشبان أوامر الاستدعاء، ولم تقل حالات التهرّب من الخدمة العسكرية إلا مع الدفعة الثالثة، أي بعد ثلاث سنوات من الدفعة الأولى. واعتقلت الشرطة الإسرائيلية ولاحقت عشرات الشبان. وبقيت حركات معارضة التجنيد الإجباري حاضرة، كما في حراك الشيخ فرهود فرهود من قرية الرامة في الجليل، الذي وجّه رسائل وأصدر بيانات ترفض تجنيد الشبان الدروز في جيش الاحتلال. وأسّس مع شخصيات أخرى لجنة المبادرة العربية الدرزية عام 1971، التي دعت في بيانها الأول إلى مطالب مختلفة بينها إلغاء الخدمة في جيش الاحتلال. وفي سنوات لاحقة ظهرت حراكات أخرى بينها "ارفض، شعبُك بحميك" تواجه مخططات "أسرلة الدروز" ومساعي فصلهم عن بقية المجتمع الفلسطيني عبر الخدمة العسكرية (21).

صناعة هويةٍ منفصلة واستدراجٌ بالإغراء

"حقيقة أنّ قانون التجنيد الإلزامي يشمل كل الطائفة الدرزية كان من المفترض أن يدفع دولة إسرائيل لتشجيع المثقفين على تطوير أسس الوعي الدرزي–الإسرائيلي، كأُسٍّ فكري ومنهجي يمنح الشاب الدرزي تفسيرًا منطقيًا وخلفية نفسية وفكرية لفهم هويته الكاملة مع الدولة واستعداده للقتال، مع الحفاظ في الوقت نفسه على تفرده كدرزي". يفسّر هذا الاقتباس من تقرير اللجنة التي شكّلها "الكنيست" برئاسة أبراهام شخترمان، والتي قدّمت توصياتها عام 1975، اتجاهَ بناء هويةٍ ثقافية ومنهجٍ تعليمي للطلاب الدروز يخلق لديهم "هوية درزية قائمة على أساسٍ إسرائيلي وتفصلهم عن هويتهم العربية" (21).

أوصت لجنة شخترمان، التي شُكّلت لمواجهة صعود الخطاب والمجموعات المعارضة لـ"التجنيد الإجباري" بين الدروز، بعدة إجراءات لتحقيق هدف خلق "هوية درزية–إسرائيلية تفصل الشبان الدروز عن هويتهم العربية"، بينها: إنشاء فريق خاص من المثقفين الدروز واليهود في وزارة التربية والتعليم والثقافة؛ تضمين برامج التعليم في المدارس التي تخدم الطائفة الدرزية عناصرَ توعية بما أسمتها "الهوية الدرزية–الإسرائيلية"؛ دعوة الجنود الدروز لإلقاء محاضرات أمام الصفوف العليا حول خدمتهم في الجيش لتسهيل اندماجهم قبل تجنيدهم؛ ونشر أفكار في المدارس الدرزية حول ما تزعم إسرائيل أنّها "رابطة دم وشراكة مصير بين اليهود والدروز" (22).

شكّلت إسرائيل لجنةً لتطبيق التوصيات تولّى قيادتها سلمان فلاح، الذي كان يتولى منصب مراقب في وزارة التعليم الإسرائيلية. وركّزت على تأسيس مادةٍ عُرفت باسم "التراث الدرزي" لتعزيز شعور الطلاب الدروز، من المراحل الأولى في المدارس، بأنّ لهم "هوية خاصة" لا تجمعهم مع بقية العرب. ويأتي ذلك ضمن مسارٍ متصل بدأ بإعلان إسرائيل الدروزَ طائفةً مستقلة، حيث أقامت لهم محاكمَ ومجلسًا دينيًا خاصًا، وعزّزت فصل أعيادهم الدينية عن بقية المسلمين، رغم أنّ الدروز تاريخيًا احتفلوا بالأعياد الإسلامية مثل عيد الفطر، واستبدلت تعريف أبناء الطائفة في خانة القومية من "عربي" إلى "درزي" (23).

وفي السياق ذاته، دفع "المأزق الأخلاقي" الذي آلت إليه القيادات الدرزية التي قبلتْ بتجنيد شبان الطائفة للخدمة في الجيش، إلى تطوير آلياتٍ نفسية وخطابية مختلفة، بينها تبرير القبول بـ"حفظ البقاء". وهنا يحضر مفهوم "حفظ الإخوان" كأداةٍ استراتيجية، كما يعبّر عنها الباحث والأكاديمي أمل جمال، مأخوذةً من العقيدة الدرزية، واستخدمتها تلك القيادات في فترة النكبة وما بعدها في تبرير سلوكها أمام الأسئلة الأخلاقية المتولدة من الخدمة في جيش الاحتلال، ومفادها أنّ "حفظ الذات في ظل التهديد الدائم مشروع ومطلوب" (24).

ومع الوقت أصبحت الخدمة العسكرية في الأجهزة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية (الجيش، الشرطة، مصلحة السجون، حرس الحدود) المسار الاقتصادي الأساسي لدى نسبة كبيرة من الرجال الدروز (نحو 42% وفق بعض الإحصاءات). واستخدمت إسرائيل أداة الإغراء الاقتصادي لتسهيل تجنيد الشبان الدروز للخدمة العسكرية، في ظل مصادرة مساحات واسعة من أراضي القرى الدرزية. إذ تشير إحصائية إلى أنّ مساحة الأراضي التابعة لها قبل النكبة كانت أكثر من 325 ألف دونم، وأنّ المساحة تقلّصت بعد قيام إسرائيل إلى نحو 116 ألف دونم فقط، أي خسرت نحو 210 آلاف دونم، وهو ما سلب الطائفة مصدر رزقها الأساسي لعقود طويلة في الزراعة (25).

ماذا نقرأ من هذا التاريخ؟

كان تأثّر دروز فلسطين بـ"المفاهيم الوطنية والقومية" التي تصاعدت الخطابات بين المثقفين العرب حولها في مرحلة نهايات الدولة العثمانية وما بعدها، أقلّ من أبناء الطائفة في سوريا ولبنان، نظرًا لطبيعة التجمعات الدرزية في فلسطين الاجتماعية والاقتصادية التي اعتمدت في الغالب على الزراعة، وأعداد المتعلمين فيها قليلة، والسيطرة لوجهاء العائلات.

شارك أبناء الطائفة الدرزية في مختلف مراحل النضال الفلسطيني والعربي، رغم أنّ خيار القيادات التقليدية كان هو "الحياد" باستخدام ركيزة في العقيدة الدرزية هي "حفظ الإخوان".

استخدمت الحركة الصهيونية خلال فترة الاحتلال البريطاني وما بعد النكبة الخلافاتِ العربية وداخل المجتمع الفلسطيني لتحقيق أهدافها. وقياسًا على الصراع في السويداء خلال الأسابيع الماضية، استغلّت دولة الاحتلال الخلاف بين الدروز وأديب الشيشكلي لتخويف الطائفة الدرزية في فلسطين، وكتم الأصوات المعارضة للتجنيد الإجباري في الجيش بعد صدور قانون 1956.

أسهمت التغييرات الاقتصادية بين أبناء الطائفة، التي ركيزتها الأساسية الانتقال من النمط الزراعي، بعد مصادرة إسرائيل لمساحات واسعة من أراضي القرى الدرزية، نحو الخدمة الأمنية والعسكرية، في تثبيت التجنيد الإجباري، مقابل المعارضين والرافضين الذين تواصلت حراكاتهم داخل الطائفة.

مثّل المنهاج التربوي الذي وضعته الأجهزة الإسرائيلية لفصل الدروز عن العرب والمجتمع الفلسطيني إحدى أدوات تكريس الخدمة العسكرية في جيش الاحتلال، وقطعًا إجباريًا لجذور الثقافة العربية والإسلامية بين أبناء الطائفة. إلا أنّ استطلاعات الرأي خلال السنوات الماضية تشير إلى تشوّشٍ في الهوية بين الشبان الدروز في فلسطين، وعدم الحسم لصالح التعريف بـ«الهوية الإسرائيلية» بشكلٍ حاسم أو مطلق (26).


المصادر والهوامش:

  1. يعيش الدروز في فلسطين في دالية الكرمل، وعسفيا، وشفا عمرو، والمغار، وكسرا، والرامة، وساجور، ويركا، ودير الأسد، وعين الأسد، وجولس، وأبو سنان، والبقيعة، وبيت جن، وجت، وحرفيش، وكفر سميع، ويانوح.
  2. قيس فرو، إعادة صوغ الخصوصية الدرزية في فلسطين، دراسة، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2001.
  3. تعريف "التقية" عند الفرق الإسلامية، خاصة الشيعية: "إخفاء الرأي أو المعتقد في أوقات الخطر حفاظًا على النفس والمال والعرض ودفع الضرر الديني والدنيوي".
  4. عبد الحميد محمود أبو النصر، ثورة الكف الأخضر.
  5. سعيد نفاع، العرب الدروز والحركة الوطنية الفلسطينية حتى 1948، ص105.
  6. مقتطفات من أفكار سلطان باشا الأطرش، رابط.
  7. عن رفض الأمير شكيب أرسلان لقاء قادة في الحركة الصهيونية، رابط.
  8. قيس فرو، دروز في زمن الغفلة… من المحراث الفلسطيني إلى البندقية الإسرائيلية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص41.
  9. فرو، دروز في زمن الغفلة، مرجع سابق.
  10. سعيد نفاع، العرب الدروز والحركة الوطنية الفلسطينية حتى 1948، مرجع سابق.
  11. فرو، مرجع سابق.
  12. فرو، مرجع سابق.
  13. عن محاولات تفتيت المجتمع الفلسطيني لتحقيق التهجير وفصل المكونات، رابط.
  14. عارف العارف، النكبة؛ وأيضًا: سعيد نفاع، العرب الدروز والحركة الوطنية الفلسطينية…، مرجع سابق.
  15. لقاء مع غيورا زايد حول أدواره وعلاقاته: גיורא זייד: "הלכנו יחד יהודים ודרוזים" | פורטל הכרמל והצפון.
  16. فرو، دروز في زمن الغفلة، مرجع سابق، ص189–191.
  17. إسرائيل بن دور، دمج الدروز في جيش الدفاع الإسرائيلي خلال الثلاثين عامًا الأولى (שילוב הדרוזים בצה"ל: שלושים השנים הראשונות)، قسم التاريخ في الجيش الإسرائيلي.
  18. فرو، مرجع سابق.
  19. رباح حلبي، "الجهاز التربوي بصفته منظومة تشكيل الهوية الدرزية–الإسرائيلية والسيطرة عليها"، مجلة جيلوي داعت، منشور على موقع المكتبة الوطنية الإسرائيلية، رابط.
  20. حلبي، مرجع سابق.
  21. أمل جمال، "عقلية البقاء والقطيعة الأخلاقية في سلوكيات المجموعات الصغيرة – الدروز في إسرائيل مثالًا"، ضمن: العرب الدروز في إسرائيل: مقاربات وقراءات نظرية وسياسية ناقدة، مركز مدى الكرمل، 2018.
  22. حلبي، مرجع سابق.
  23. جمال، مرجع سابق.
المصادر:
خاص موقع التلفزيون العربي
شارك القصة