الأربعاء 9 تموز / يوليو 2025
Close

الساحر رضوان الكاشف.. سينما بمشهديات باذخة ومرموزات أسطورية

الساحر رضوان الكاشف.. سينما بمشهديات باذخة ومرموزات أسطورية محدث 05 تموز 2025

شارك القصة

رضوان الكاشف.. ثلاثة افلام فقط أدخلته تاريخ السينما المصرية-فيسبوك
رضوان الكاشف.. ثلاثة افلام فقط أدخلته تاريخ السينما المصرية-فيسبوك
الخط
رضوان الكاشف، مخرج مصري استثنائي، ترك بصمته في السينما بأسلوب بصري شعري وأبعاد أسطورية رغم قلة إنتاجه الروائي.

يمثّل رضوان الكاشف (1952-2002) حالة نادرة في السينما المصرية، فقد دخل تاريخها بثلاثة أفلام روائية طويلة وحسب، باعتباره واحدًا من أبرز مخرجي جيله على الإطلاق، مكرّسًا أسلوبه وتاركًا بصمته التي أصبح التعرّف إليها ميسورًا رغم قلة إنتاجه.

وشكّل فيلمه الروائي الأول "ليه يا بنفسج" عام 1993 صدمة "جمالية" لجمهور السينما ومنتجيها الكبار في الوقت نفسه، ففيه تجاوز الكاشف عثرات البدايات التي غالبًا ما ترافق الإنتاج الأول، وقدّمه مخرجًا كبيرًا حقّق ما يمكن وصفه بـ"ضربته الكبرى" التي حكمت بأسلوبها وجمالياتها مسيرته السينمائية القصيرة.

تدور أحداث الفيلم حول ثلاثة شبان في حارة شعبية تتجاذبهم قسوة الحياة والرغبة في "عيشها" والتمتّع بها رغم ذلك، باحثين عن أفراحهم الصغيرة والخاصة، وسط بيئة بالغة الفقر.

رضوان الكاشف من دراسة الفلسفة الى السينما -فيسبوك
رضوان الكاشف من دراسة الفلسفة الى السينما -فيسبوك

تبدأ الأحداث مع أحمد (فاروق الفيشاوي) الذي يعود إلى حارته الفقيرة بعد أن عرف رغد العيش خارجها خلال عمله في بيت أحد الأثرياء، مطرودًا ومكسورًا، لينضم إلى رفيقي صباه: سيد وعبّاس، اللذين يعيشان في بيت عمته.

يتجاور الموت مع الرغبة القاهرة بالفرح أو السعادة في الفيلم منذ مشاهده الأولى. الحب والصداقة مع الخيانة. قسوة الواقع وإكراهاته مع الانفلات منه بمجانية متهتكة لا تحفل سوى باللذة. وقد تكون هذه اللذة الخمر أو المرأة، ما يجد تمثّله الأكبر في عنوان الفيلم "ليه يا بنفسج"، الذي يحيل إلى أغنية قدّمها صالح عبد الحي في ثلاثينيات القرن الماضي.

كتب كلمات الأغنية الشاعر بيرم التونسي ولحّنها رياض السنباطي، والبنفسج فيها "يُبهج" رغم أنه "حزين"، وحُسنه كامنٌ في كونه، بلونه، "يبهج المقهور".

من الفلسفة إلى "ليه يا بنفسج" 

قد يبدو تحليل الفيلم استنادًا إلى دلالات زهرة "البنفسج" مغامرة تُخرج الفيلم من حيز السينما إلى الفلسفة والأساطير، لولا أن مخرجه رضوان الكاشف، من دارسي الفلسفة أصلًا قبل السينما، وله كتابان في الفلسفة، هما: "الحرية والعدالة في فكر عبد الله النديم"، و"قضية تجديد الفكر عند زكي نجيب محمود".

ولعلّ هذا الأمر هو الذي يرجّح وعيه بالأبعاد التي قد تكون رمزية في شريطه السينمائي. فالبنفسج من الورود التي ارتبطت بالأساطير وبعبادة الإله "آتيس" في آسيا الصغرى، ونظرائه: تموز في حضارة ما بين النهرين، وأدونيس لدى الفينيقيين، وأورفيوس لدى اليونانيين وسواهم في حضارات أخرى.

وهو إله أو نبي يقتله خنزير بري، فتنبت من دمائه زهرة البنفسج، وفي روايات أخرى شقائق النعمان، في رحلته إلى الموت ثم عودته إلى الحياة في الربيع. فإذا هو إله الخصب والبعث في الحضارات القديمة.

ليه يا بنفسج والبحث عن الصحبة والحب والخيانة-فيسبوك
ليه يا بنفسج والبحث عن الصحبة والحب والخيانة-فيسبوك

وفي الثقافة العربية، يحيل ارتباط القتيل بالزهور إلى قصة ملك الحيرة النعمان بن المنذر، الذي قُتل على أيدي الفرس، ونبتت من دمائه زهور "شقائق النعمان"، التي تُعرف في بلاد الشام والعراق باسم "الدحنون".

في هذا، يختزل البنفسج سيرة الإله القتيل، فهو يرمز للفرح بعودة القتيل إلى الحياة، وبالحزن لمقتله. أما الحزن فأساسي في حقل الرموز التي يتحرك في فضائها البنفسج، لأن نشوءه مرتبط من الأساس بالموت ونتيجة له.

وفي الفيلم "ليه يا بنفسج" ثمة حزن مقيم ومتأصل في شخصية بطله أحمد، ومحاولات لا تستسلم لليأس للتمتّع بالحياة، وقدرة على إبهاج الآخرين رغم آلامه الخاصة وخيباته. والظن أن الكاشف كان يعي العلاقة الغامضة ما بين الواقعي (الحاضر) ولا وعيه الأسطوري.

الواقعي والأسطوري في "عرق البلح"

يمكن ملاحظة ذلك في فيلمه الثاني "عرق البلح" (1999) من بطولة شيريهان، حيث يتكرر ما يمكن وصفه بالنمط الأسلوبي. فكما اُفتتح فيلمه الأول "ليه يا بنفسج" بعودة بطله إلى حارته ورفاق صباه، يبدأ "عرق البلح" بعودة أحد أبناء القرية إليها في مشهدية تتقصد المسرحة، كأن الفيلم حكاية داخل حكاية، وكأن الحوار بالفصحى في مشاهده الأولى تمهيد للا وعي اللغة والمجتمعات وغرائزها، حيث تُروى حكاية داخل أخرى، أقرب إلى أسطورة أو ميثولوجيا الريف.

رضوان الكاشف خلال تصوير فيلم "عرق البلح"-فيسبوك
رضوان الكاشف خلال تصوير فيلم "عرق البلح"-فيسبوك

ويتكرر هذا النمط أيضًا في فيلمه الثالث "الساحر" (2001)، من بطولة محمود عبد العزيز، من خلال عودة الساحر وابنته إلى بيتهما ليلًا.

هناك دومًا عودة من مكان إلى آخر تتغيّر بموجبها المصائر، وتُمتَحن، وتنكشف الجواهر رغم قسوة الظرف. ففي "عرق البلح"، تبدو القرية للوهلة الأولى خارج الزمن. إنها في الصحراء، لا تعرف أدوات الإنتاج الحديثة أو رفاهية العصر، وتقتات على البلح، وتدور حياة سكانها حوله. وثمة جدّ صامت يبدو حارسًا لوجودها.

لكن كل شيء يتغيّر مع وصول حافلة تشبه عربات المسرح لدى غجر أوروبا أو الفرق المسرحية المتنقلة في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، التي كانت تجوب القرى والبلدات النائية.

هذه الحافلة تقترح نموذجًا في الإمتاع والتغيير، ويتمثل نموذجها في الفيلم بنقل رجال القرية إلى بلاد الثراء والذهب والياقوت، على وعد بتغيير الحياة. وتبدو العربة التي يُرمون فيها أشبه بثلاجة موتى، ونداء الثراء بأغاني الموت أو أوامر الاعتقال.

عرق البلح والواقعية حين تذهب الى حواف الميثولوجيا-فيسبوك
عرق البلح والواقعية حين تذهب الى حواف الميثولوجيا-فيسبوك

وبغياب رجال القرية – باستثناء واحد منهم – يبدأ لا وعي القرية بالانبعاث فالانفجار: رجل واحد (عدا الجد) وسط مجتمع نسائي متكامل، بأشواقه إلى الرفقة وغرائزه التي لم يعد ممكنًا كبتها.

لا يعبّر الكاشف عن بدائية هذا اللاوعي بأحداث متسلسلة أو متصاعدة، بل يسرد حالات تعكس تشظي القرية وذوات نسائها. ويبقى الثابت الوحيد هو الجذر الأسطوري للقرية: أشجار النخيل، مصدر الغذاء، ومصدر الهوية الميثولوجية، ومنها يأتي الخمر الذي يذهب بعقول بعض نسائها، والإغواء الذي يدفع بعضهن إلى ما يُعد خطيئة وفق الأعراف الأخلاقية التقليدية.

مشهديات باذخة الجمال

بمشهديات أخّاذة بالغة الجمال، وإن كانت مثقلة بالرموز التي تُثقل البناء السردي للفيلم وهو ليس خيطيًا في كل الأحوال، تتسلل الأغاني إلى الحدث عنصرًا بنيويًا لا ترفيهيًا. فهي حقل رموز قائم بحد ذاته، وبسببها تحبل امرأة من رجل غريب عن القرية.

مشهديات باذخة الجمال في عرق البلح لرضوان الكاشف-فيسبوك
مشهديات باذخة الجمال في عرق البلح لرضوان الكاشف-فيسبوك

وبسبب الأغاني، وعلى هامش ديناميتها داخل الفيلم، تُقدم امرأة لاحقًا على إحراق نفسها. فالأغاني كانت نداء غواية لا يُقاوم، ما يتناقض ومحرمات القرية ومنظومتها الأخلاقية.

بهذا التصادم، يصبح الموت حرقًا هو حلّ القرى حين تخفق في الحفاظ على هويتها في مراحل الانتقال الاجتماعي. ويحدث هذا كلّه برهافة وشعرية نادرة، لكنها شعرية تُثقل البناء وتربك إيقاع الفيلم، رغم جمالها الأخّاذ إذا أُخذت منفصلة.

وهذه كانت معضلة الفيلم، الذي يُذكّر – كما سبقه "ليه يا بنفسج" – بيوسف شاهين وداود عبد السيد، ولا سيّما في فيلميهما: "الاختيار" (1970)، و"الصعاليك" (1985)، ولا غرابة، فقد عمل الكاشف مساعدًا لهما ولسواهما في نحو 20 فيلمًا قبل إخراجه فيلمه الروائي الأول.

ما بعد الواقعية الجديدة

يُعدّ رضوان الكاشف من جيل ما بعد موجة الواقعية الجديدة التي ظهرت في ثمانينات القرن الماضي، والتي كان من أبرز رموزها: عاطف الطيب، ومحمد خان، وداود عبد السيد، وعلي عبد الخالق، وخيري بشارة. هذا الجيل ورث واقعية يوسف شاهين وصلاح أبو سيف، رغم اختلاف أسلوبي الرجلين، وتدرّج مفهوم الواقعية وما بعدها لديهما.

شيريهان في عرق البلح-فيسبوك
شيريهان في عرق البلح-فيسبوك

غير أنّ واقعية رضوان الكاشف، كما في "عرق البلح"، لا تعني المفهوم الحرفي أو المدرسي للواقعية. فهي، كما في "الطوق والإسورة" لخيري بشارة، تتجاوز ذلك إلى تخوم الفانتازيا والمقاربات الميثولوجية للراهن، ما يجعلها خارج التصنيفات المدرسية المألوفة.

وُلد الكاشف في حي السيدة زينب بالقاهرة عام 1952، لعائلة تعود أصولها إلى سوهاج في صعيد مصر. درس الفلسفة في جامعة القاهرة وتخرّج منها عام 1977، قبل أن يلتحق بمعهد السينما ويتخرّج عام 1984.

خلال دراسته الجامعية الأولى، عُرف عنه ميله إلى اليسار، ومعارضته لسياسات الرئيس الراحل أنور السادات، ما عرّضه للسجن بسبب مشاركته في "انتفاضة الخبز" يومي 18 و19 يناير/ كانون الثاني 1977.

كما عُرفت عنه علاقته الوثيقة بالأدب، وتحديدًا بجيل ما بعد نجيب محفوظ في الرواية المصرية، إلى حد إهدائه فيلمه الأول إلى "جيل كتّاب الستينيات.. والفرح بالكتابة"، وفيلمه الثاني "عرق البلح" إلى "الجنوبي المطارد بخبيئته.. سلامٌ إليك يوم تموت ويوم تُبعث حيًّا". أما فيلمه الثالث فأهداه إلى سعاد حسني وصلاح جاهين.

رضوان الكاشف خلال محاكمة المشاركين بانتفاضة الخبز عام 1977-فيسبوك
رضوان الكاشف خلال محاكمة المشاركين بانتفاضة الخبز عام 1977-فيسبوك

بدأ الكاشف مسيرته السينمائية بفيلم "الجنوبية"، مشروع تخرّجه من معهد السينما، الذي يتناول عودة مخرج إلى قريته لإنتاج فيلم تسجيلي عنها.

كما أخرج ثلاثة أفلام تسجيلية هي: "الحياة اليومية لبائع متجوّل"، و"الورشة"، و"نساء من الزمن الصعب"، إضافة إلى عمله مساعد مخرج في نحو 20 فيلمًا، قبل أن يخرج فيلمه الروائي الأول "ليه يا بنفسج" (1993)، الذي يحتل المرتبة 55 في قائمة أفضل مئة فيلم مصري الصادرة عام 1996.

ورغم أن أفلام الكاشف لم تعرف انتشارًا جماهيريًا واسعًا – ففيلم "عرق البلح" لم يستمر في صالات السينما المصرية أكثر من أسبوع – إلا أنها حظيت باحتفاء نقدي كبير، وبجوائز رفيعة، واهتمام بارز في المهرجانات الدولية.

تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي