السينما حين تدق ناقوس الخطر.. زواج عتريس من فؤادة باطل
تبدو الفنانة المصرية شادية في أحد ملصقات الفيلم الشهير "شيء من الخوف" الذي أُنتج عام 1969، أقرب ما تكون إلى "فؤادة" كما وصفها الكاتب والروائي ثروت أباظة في روايته القصيرة (نوفيلا) التي تحمل الاسم نفسه، وصدرت عام 1960.
كانت فؤادة، في سرد أباظة، "سمراءَ سُمرةً لا تكاد تُلحَظ، سوداءَ الشعر، غزيرتَه، ذاتَ عينين واسعتين نفّاذتين تخترقان الحياة في فهمٍ وذكاء".
وهو ما ينطبق تمامًا على الصور "الثابتة" لشادية بالأبيض والأسود، التي أُخذت من الفيلم واستُخدمت في أكثر من ملصق ترويجي للشريط السينمائي الذي تحوّل لاحقًا إلى ما يشبه البيان السياسي أو الشعار العابر للحقب السياسية وعهود الحكم في التاريخ المصري المعاصر.
تظهر شادية في بعض الملصقات وهي تدير ظهرها لمحمود مرسي، الذي أدّى أحد أبرز أدواره السينمائية على الإطلاق في هذا الفيلم، وكلاهما ينظر في اتجاهٍ معاكسٍ للآخر، أو تتقدمه في ملصقاتٍ أخرى بعينيها الواسعتين وجبهتها المرتفعة، وهي ترتدي ثوبًا أسود.
فؤادة في الرواية.. عتريس في الفيلم
في كل الملصقات تبدو نظرات فؤادة مشبعةً بالتحدي والعناد، على خلاف نظرات "عتريس" الذي نُظر إليه منذ عرض الفيلم في نهاية ستينيات القرن الماضي باعتباره رمزًا للحكام الديكتاتوريين في المنطقة، ومصر تحديدًا. فالنظرات التي تطل من عينيه تبدو مضطربة، بهشاشةٍ تتناقض تمامًا مع صلابته المفترضة وجبروت قوته في الفيلم.
ورغم أن الوصف الخارجي لفؤادة في الرواية لا ينطبق عليها تمامًا في الفيلم، فبشرتها أقرب إلى البياض منها إلى السُمرة، إلا أن الوصف النفسي يبدو ثاقبًا، ومتناقضًا في الوقت نفسه مع سيكولوجيا عتريس. فالمرأة التي تبدو أقرب إلى الهشاشة والأنوثة الطاغية، ينعكس عنادها في قوة نظرات عينيها الواسعتين الكحيلتين، الأقرب إلى عيون الجداريات الفرعونية.
أما عتريس، فتظهر نظراته مترددةً وضعيفةً ومتطلّبةً للحب والاعتراف، خاصة أمام فؤادة، رغم فائض بطشه وقوته الجسدية.
وهذا الفرق بين الصورتين نجده في الفرق بين مقاربتي الرواية والفيلم.
نُشرت رواية "شيء من الخوف" عام 1960 بعد أن صدرت على حلقات في مجلة صباح الخير المصرية خلال تولي الروائي فتحي غانم رئاسة تحريرها.
وكاتبها، ثروت أباظة، هو غير وزير الثقافة المصري في عهد جمال عبد الناصر الذي يحمل اسم ثروت عكاشة، والمعروف كمؤرخٍ للفنون المصرية والشرقية ومترجمٍ بارزٍ، ومن بين ترجماته كتاب "مسخ الكائنات" لأوفيد.
وُلد أباظة (1927 – 2002) لعائلةٍ سياسيةٍ عريقة اشتهرت باهتمامها بالثقافة والفنون، وكان والدُه وزيرًا للأوقاف.
درس الحقوق في أواخر الأربعينيات، وبدأ حياته محاميًا قبل أن يتفرّغ للعمل الثقافي والإعلامي، فترأّس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون عام 1974، وتولّى رئاسة القسم الأدبي في الأهرام بين عامي 1975 و1988، كما شغل منصب رئيس اتحاد الكتّاب ووكيل مجلس الشورى.
كتب خلال مسيرته الإبداعية عشرات القصص والروايات، كان أولها ابن عمّار، ومنها هارب من الأيام وأحلام في الظهيرة والضباب وسواها، غير أنّ شيء من الخوف تظلّ أكثر أعماله الروائية شهرةً وتأثيرًا على الإطلاق.
فؤادة ومحنة الشرعيات
تدور الرواية حول فؤادة، ابنة أحد أعيان كفر الدهاشنة، وكل أحداثها، وإن سردت بعض ما قبل ولادتها، تمهّد لموضعتها في قلب النسيج الروائي.
فهي فتاة تأسر القلوب كما توصف في النص، تعيش في بيئةٍ ريفيةٍ يتسيّدها الخوف من شابٍ خارجٍ عن القانون هو عتريس، الذي يمتهن فرض الأتاوات على أبناء القرية. وتجد عائلتها، ولاحقًا القرية بأكملها، نفسها في محنةٍ كبرى بعد طلبه يدها من والدها.
ترفض فؤادة توكيل أبيها، فتنشأ محنة الشرعية المدّعاة بتواطؤ والدها ومأذون القرية والشاهدين، خوفًا من بطش عتريس.
وتزداد المحنة تأزمًا وشدّة حين يأخذها عتريس مكرهةً إلى بيته، بينما تصرّ هي على أن زواجها منه باطل شرعًا لأنها لم توافق أصلًا. وسرعان ما تتحوّل المحنة الفردية إلى أزمة ضميرٍ جمعي، حين يعلم أحد أعيان القرية (الشيخ إبراهيم) بأن فؤادة لم توافق على الزواج، فيعتبره حرامًا ويطالب بإعادتها إلى بيت أهلها.
تتصاعد الأحداث مع انتقام عتريس من كل من يشكّك في زواجه، فيغرق أراضيهم الزراعية ويقتل بهائمهم ويضاعف الأتاوات عليهم. وعندما يصرّ الشيخ إبراهيم على موقفه، يأمر عتريس بقتل أحد أبنائه، لكن الأخير لا يتراجع بل يزداد إصرارًا على أن "زواج عتريس من فؤادة باطل"، وهو الشعار الذي يتحوّل إلى هتاف القرية بأسرها، فتتجاوز خوفها وتحاصر عتريس في بيته في نهاية الرواية.
الإخضاع وقانون الخوف
تقوم الرواية على العلاقة بين ثلاثة ركائز: الشعب والسلطة السياسية ورأس المال. أما في الدلالات الرمزية، فتمثل فؤادة الوطنَ نفسه، الذي يتصارع عليه الجميع، متمسكةً باستقلاليتها وحقها في اختيار من تمنحه نفسها.
لكن هذا التوازن يخرقه عتريس، حفيد أحد مجرمي كفر الدهاشنة (قرية)، الذي يغتصب السلطة فعليًا ويسعى لإخضاع المجتمع وفؤادة معًا استنادًا إلى قانون الخوف، مؤمنًا بأن شيئًا قليلًا منه كافٍ لإخضاع الآخرين. وكلما خضعوا، ازداد هو عسفًا وجبروتًا.
غير أن سلطة عتريس تتفكك بتفكك قانون الخوف نفسه، وهو ما تفعله فؤادة حين ترفض الاعتراف بشرعيته. فهي، في المعنى الرمزي، من تمنح الجسدَ كأنثى والشرعيةَ كوطن، غير أن العصيان الفردي يظل رمزيًا ما لم يتحوّل إلى فعلٍ جماعي، وهو ما يحدث في النهاية.
وإذا كانت فؤادة بؤرة الرواية، فإن عتريس هو بؤرة الفيلم. ففي حين كان وجوده في الرواية شبهَ شبحيٍّ، بالكاد يظهر في الجزء الأخير منها، فإنه في الفيلم حاضرٌ بقوة منذ البداية، إذ يُفتتح العمل بمشهد غرق أحد أبناء القرية، الذي يُفهم سريعًا أنه قُتل على يد عتريس.
غير أن الفيلم يستحضر عتريس الجدّ، في مشهدٍ يُقدَّم على الطريقة الإغريقية في المَسرَحة، بمزيجٍ من الكورال الغنائي والتعليق المسرحي، ما يمنحه طابعًا أسطوريًا يمهّد لرمزيته اللاحقة.
فائض ترميز وحذف شخصيات
في الفيلم، تُستبعَد ركيزة رأس المال التي تمثّلت في الرواية بشخصية فايز بك وابنه طلعت الذي تربطه بفؤادة علاقة حب، ويُختزل الصراع في البناء الدرامي على ثنائية فؤادة وعتريس: السلطة السياسية وقد تعسكرت، والوطن وقد تجسّد في امرأة.
وتسبّب هذا في نقل الأحداث من مستواها الواقعي المفترض، المحكوم بمقتضيات الدراما وانسجامها مع سيكلوجيا الأبطال ودوافعهم، إلى المستوى الرمزي دفعة واحدة، ما أثقل البناء الدرامي بمحمولاتٍ رمزيةٍ ودلاليةٍ زائدة ربما لا تحتملها.
وهذا ما خلق مشكلاتٍ فنية جرى التحايل عليها بخلق كورال غنائي، يعلّق أو يروي بعض الأحداث، بالإضافة إلى رسوم على الجدران (نفذها يوسف فرنسيس)، وهي لا يمكن أن توجد في بناء درامي حقيقي إلا في حال كانت القرية التي تدور فيها الأحداث سياحية.
ومع ذلك، يُحسب للفيلم أنه، وإن أخفق أحيانًا في تماسك البناء الدرامي، نجح في خلق شخصية درامية حقيقية مكتملة التناقضات هي عتريس نفسه، على خلاف فؤادة التي ظلت ثابتة لا تتطوّر لا في الرواية ولا الفيلم.
هشاشة القوة أمام جبروت الحب
يتصارع داخل عتريس الخير والشر معًا، فيظهر في البداية طفلًا مهووسًا بتربية الحمام، ميالًا إلى فؤادة ومحبًّا لها، على خلاف رغبة جده الذي يريده رجلًا ويعتبر الحب ضعفًا. لكن عتريس- الطفل يقاوم، مستعينًا بحبه لفؤادة، ليبدأ التحوّل القاسي في شخصيّته حين يقتل الجدّ حمامة الحفيد أمام عينيه.
بهذا يصبح عتريس- الطفل موضوعًا للتجاذب بين الشر (جده قاطع الطريق وفارض الأتاوات) والخير (فؤادة)، ولا يحدث الانقلاب الأكبر في شخصية عتريس- الحفيد إلا عندما يُقتل جده أمامه دفاعًا عنه.
لم يحدث الانقلاب لأن جده قُتل وحسب بل لأنه قُتل بأن تلقّى الرصاص نيابة عنه، وليس لهذا السبب وحسب بل لأن منطق عتريس- الجد انتصر داخل عتريس- الحفيد: "إذا لم تكن قويًا فسيفترسونك"، وهو ما سيحكم سلوكه لاحقًا حين يصبح جبارًا يسحق القرية ويبتعد عن فؤادة وعن ذاته القديمة.
ومع أن الصراع يبدو بينه وبين فؤادة، إلا أنه في جوهره صراعٌ داخل عتريس نفسه الذي يظهر بعيني الشرير المنتقم أمام أبناء القرية، وبعيني من يتسوّل الحب، الضعيف والهش أمام فؤادة، وهو يسعى لحسم هذا الصراع داخل فؤادة نفسها، بأن يكسرها من الداخل.
وربما هذا ما يفسّر أنه يطلبها للزواج من أبيها في الفيلم، وليس منها مباشرة، وتحت التهديد بالانتقام لا التودّد، فصراع الشر والخير في داخله يحتدم أكثر، ويريد الشر من خلاله تدمير كل خير داخله، وهو ما لا يتحقق إلا بإخضاع فؤادة داخله وخارجه، وهذا له صلة بالرموز لا مقتضيات البناء الدرامي نفسه، فهو في صراعه الداخلي يريد إخضاعها عبر المجتمع لمعرفته أنه ضعيف أمامها بغير ذلك.
لكن فؤادة لا تستسلم، وتذكّره في ذروة الصراع بالبديهية التي يصر على إغفالها، وهي أنها كانت ملكه من غير ترهيب أو تطبيق لقانون الخوف، فلماذا لجأ إلى كل ذلك القهر والعسف إذن؟
انهيار قانون الخوف
تنتهي الرواية بانهيار قانون الخوف، وينتهي الفيلم بهروب فؤادة من أسر عتريس واحتراقه بعد أن يحاصره متظاهرون كانوا يشيعون جنازة أحد ضحاياه، ويردّدون خلف الشيخ إبراهيم أن "جواز عتريس من فؤادة باطل".
شعار يعيد الأزمة إلى جذرها الحقيقيربما، وهو سؤال الشرعية، التي تقوم على التوافق لا الإكراه. وهكذا تحوّل الفيلم إلى أيقونة سينمائية رغم هناته الدرامية، بسبب الحرص على نقل الأحداث إلى مستوى الرموز، قبل أن تكتمل دلالاتها الأولية.
وتردّدت مرويات عن معارضة نظام عبد الناصر لإنتاج الفيلم وعرضه، واتهام كاتب الرواية والمخرج بأنهما يقصدان شخصه في تصوير عتريس.
ويذكر ثروت أباظة في كتابه ذكريات لا مذكرات أن أحد أصدقائه كتب تقريرًا لوزير الثقافة يفيد بأن المقصود بالرواية هو رئيس البلاد، وأن الوزير حوّل التقرير إلى الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ الذي كان يعمل مستشارًا للوزير آنذاك، فجاء رد الأخير مؤيدًا للرواية.
وبحسب محفوظ في حوارٍ مع الناقد رجاء النقاش، فإن عبد المنعم الصاوي الذي كان وكيل وزارة الثقافة آنذاك، هو من لفت أنظار السلطات إلى الرواية، محاولًا إقناع الوزير بأن عتريس يرمز لعبد الناصر، وأن زواجه من فؤادة التى تجسد (مصر)، باطل، لكن عبد الناصر، حين شاهد الفيلم، سمح بعرضه فورًا قائلاً: "إذا كنا بمثل هذه البشاعة، فنحن لا نستحق الحكم".
الزوجة الثانية.. أيضًا
أخرج فيلم "شيء من الخوف" حسين كمال عام 1969، بالأبيض والأسود، وليس بالألوان، وهو من بطولة شادية ومحمود مرسي ويحيى شاهين، وكتب السيناريو صبري عزت والحوار عبد الرحمن الأبنودي، ووضع الموسيقى بليغ حمدي.
يحتل الفيلم المرتبة رقم 19 في قائمة أفضل مئة فيلم مصري (1996)، والمرتبة 71 في قائمة أهم مئة فيلم عربي التي أعلنها مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2013.
ولم يكن "شيء من الخوف" الوحيد الذي تناول رمزيًا مفهوم شرعية الحكم في السينما المصرية، خصوصًا في الحقبة الناصرية. فقبل عامين من صدوره، قدّم صلاح أبو سيف عام 1967 تحفته السينمائية "الزوجة الثانية" التي أدّت فيها سعاد حسني أحد أفضل أدوارها.
وبدون إثقال فيلمه بالرموز أو تعمّد إنتاجها، يروي أبو سيف قصة عمدةٍ ريفيٍّ يرغب بالإنجاب، فيجبر أحد عمّاله على تطليق زوجته ليتزوّجها، في مشهدٍ يوازي اغتصاب البلاد بهدف تأبيد السلطة، بمباركة رجل الدين كما في "شيء من الخوف".
لكن العاملة البسيطة في "الزوجة الثانية" تنتصر في النهاية على قانون الخوف وعلاقات القوة، وينتهي الأمر بالعمدة إلى الشلل كما ينتهي عتريس في "شيء من الخوف" إلى الموت حرقًا.
وفي الفيلمين، تلعب المرأة دورًا حاسمًا في التمرّد والمواجهة، إذ يدور الصراع حولها رمزًا للوطن والكرامة، في زمنٍ خرجت فيه البلاد من أسوأ هزائمها، وهي ترزح تحت حكمٍ عسكريٍّ يهاب صوت الحرية.