الأربعاء 9 تموز / يوليو 2025
Close

الصراع السوري الإسرائيلي: من النكبة إلى ما بعد سقوط الأسد

الصراع السوري الإسرائيلي: من النكبة إلى ما بعد سقوط الأسد محدث 04 تموز 2025

شارك القصة

لا تزال جذور الصراع السوري الإسرائيلي تفرض نفسها على كل مسعى للسلام أو التفاوض - غيتي
لا تزال جذور الصراع السوري الإسرائيلي تفرض نفسها على كل مسعى للسلام أو التفاوض - غيتي
الخط
تحليل تاريخي شامل للصراع السوري – الإسرائيلي من النكبة وحتى ما بعد سقوط الأسد، يشمل الجولان، والتدخل الإيراني، وتحوّلات ما بعد 2024.

على مدى أكثر من سبعة عقود، شكّل الصراع السوري - الإسرائيلي أحد أبرز أوجه الصراع العربي - الإسرائيلي، وتحوّل مع الوقت إلى نزاع طويل الأمد لم تنجح الحروب ولا المفاوضات في طيّ صفحته.

فمنذ عام 1948، وقفت سوريا في الصفوف الأمامية الرافضة لشرعية "دولة إسرائيل"، وشاركت في أولى الحروب العربية ضدها، لتدخل العلاقة بين البلدين في مسار عدائي لم يهدأ إلا ظاهريًا.

ثم جاءت حرب يونيو/ حزيران 1967 لتُحدث تحوّلًا جذريًا في طبيعة النزاع، مع احتلال إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية، التي لا تزال حتى اليوم تمثّل ورقة تفاوضية ذات أبعاد جغرافية وسياسية عميقة.

ورغم توقيع اتفاق فكّ الاشتباك عام 1974، لم تُبرم معاهدة سلام بين الجانبين، وبقي الجولان عنوانًا لصراع جيوسياسي حاد تقاطعت فيه الحسابات الإقليمية والدولية.

ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، التي حوّلها النظام السابق إلى حرب دموية، دخل الصراع مرحلة جديدة أكثر تعقيدًا، مع تصاعد الضربات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية واستغلال تل أبيب لحالة التفكك الداخلي، بذريعة الحدّ من النفوذ الإيراني.

وبينما لا يزال الجولان السوري المحتل خاضعًا للسيطرة الإسرائيلية بحكم الأمر الواقع، تواصل دمشق تمسّكها باستعادته، رافضةً أي تسوية لا تتضمّن ذلك.

بدايات الصراع السوري-الإسرائيلي

حرب النكبة (1948)

عندما أُعلن قيام دولة إسرائيل في 14 مايو/ أيار 1948، تحرّكت الجيوش العربية نحو فلسطين، وبدأ التدخل السوري ميدانيًا في الشمال الشرقي، حيث توجّهت وحدات الجيش نحو بحيرة طبريا، وتمكّنت من دخول بلدة سمخ والسيطرة عليها في الساعات الأولى من المعارك. إلا أن القوات السورية اصطدمت لاحقًا بمقاومة إسرائيلية شديدة قرب جسر بنات يعقوب، وهو موقع استراتيجي مهم كان يحمي الطريق المؤدي إلى الجليل الأعلى، فاضطرت إلى التراجع والتمركز في مرتفعات الجولان.

أدّت هذه التطورات إلى إعلان هدنة أولى في 11 يونيو/ حزيران 1948، بضغط من الأمم المتحدة، فتوقّف القتال لأربعة أسابيع، قبل أن تُستأنف المعارك لاحقًا فيما عُرف بـ"المرحلة الثانية من الحرب".

دخلت هدنة ثانية حيّز التنفيذ في 18 يوليو/ تموز 1948، واستمرت نحو شهرين. أما الهدنة الثالثة، التي أنهت القتال رسميًا، فقد بدأت في يناير/ كانون الثاني 1949، وشملت اتفاقيات هدنة منفصلة بين إسرائيل وكل من مصر ولبنان وسوريا والأردن.

شكّلت هذه الاتفاقيات نهاية رسمية لحرب 1948، وحدّدت خطوط وقف إطلاق النار التي بقيت على حالها حتى اندلاع حرب 1967. (1)

انتهت حرب 1948 باتفاقيات هدنة منفصلة بين إسرائيل وكل من مصر ولبنان وسوريا والأردن - غيتي
انتهت حرب 1948 باتفاقيات هدنة منفصلة بين إسرائيل وكل من مصر ولبنان وسوريا والأردن - غيتي

الفترة بين 1949 و1967

بعد توقيع اتفاقيات الهدنة، دخلت سوريا وإسرائيل في فترة توتر مستمر على طول حدودهما المشتركة، خصوصًا في مرتفعات الجولان ومناطق القنيطرة. ورغم أن الجولان بقي تحت السيطرة السورية، فإن الخطوط الحدودية ظلت غير ثابتة، وشهدت خروقات متكررة من الطرفين.

على مدى ثمانية عشر عامًا، لم يهدأ التوتر بين الجانبين. كانت عمليات التسلل من الجولان باتجاه الأراضي الإسرائيلية تتكرر، وكان الجيش الإسرائيلي يردّ عليها بهجمات انتقامية دقيقة، مستخدمًا سلاح الجو والمدفعية الثقيلة. في المقابل، كانت سوريا تقصف القرى الإسرائيلية الحدودية، في محاولة لفرض ضغط عسكري وسياسي.

ومن أبرز سمات هذه الفترة ما عُرف بـ"حرب الاستنزاف على الحدود"، حيث لم تكن المعارك الكبرى حاضرة، لكن الاشتباكات الصغيرة والمتوسطة الحجم كانت مستمرة، وراح ضحيتها مئات الجنود والمدنيين من كلا الطرفين.

سياسيًا، تمسّكت دمشق بموقف عدائي صارم تجاه إسرائيل. فإلى جانب الدفاع عن أراضيها، دعمت الحكومة السورية آنذاك الفصائل الفلسطينية في عملياتها المسلحة، ووفّرت أراضيها لانطلاق عمليات ضد إسرائيل.

خلال هذه الفترة، تلقت سوريا دعمًا عسكريًا متزايدًا من الاتحاد السوفيتي، في حين استمرت إسرائيل في تقوية جيشها بدعم غربي تقوده الولايات المتحدة. التسلل والكمائن كانت من التكتيكات المتكررة، إلى جانب استخدام الهجمات الليلية من كلا الجانبين.

أزمة السويس

بلغت التوترات في المنطقة ذروتها خلال أزمة السويس عام 1956، حين وقفت سوريا إلى جانب مصر في مواجهة العدوان الثلاثي - وهو التحالف السري والعسكري الذي جمع بين إسرائيل وفرنسا وبريطانيا ضد القاهرة.

ورغم أن سوريا لم تشارك بشكل مباشر في القتال، فقد وردت تقارير عن تنسيق استخباراتي مع مصر خلال العدوان، كما وُضِعت بعض الوحدات العسكرية السورية في حالة تأهب على الجبهة الشمالية مع إسرائيل، بهدف تشتيت انتباهها ومنعها من التفرغ الكامل للهجوم على سيناء. (2)

بعد انتهاء العدوان، أعادت سوريا تموضعها ضمن مشروع عربي أوسع لمواجهة إسرائيل، لكن سرعان ما اشتعلت جبهة أخرى: المياه.

نزاع المياه

في أوائل الستينيات، شرعت إسرائيل في تنفيذ مشروع "الناقل القطري" لتحويل مياه نهر الأردن جنوبًا نحو صحراء النقب، مرورًا ببحيرة طبريا. وقد اعتبرت الدول العربية، وعلى رأسها سوريا، هذا المشروع تهديدًا مباشرًا للثروة المائية المشتركة.

في قمة القاهرة عام 1964، اقترحت دمشق تحويل روافد نهر الأردن (الحاصباني واللدان) داخل الأراضي اللبنانية والسورية، بهدف منع وصول المياه إلى إسرائيل. وبالفعل، أطلقت سوريا تنفيذ المشروع تحت إشراف عسكري مباشر، مع إدراكها المسبق بأن الرد الإسرائيلي قادم.

خلال أزمة السويس وقفت سوريا إلى جانب مصر في مواجهة العدوان الثلاثي - غيتي
خلال أزمة السويس وقفت سوريا إلى جانب مصر في مواجهة العدوان الثلاثي - غيتي

وسرعان ما بدأت المدفعية الإسرائيلية بقصف معدات الحفر والأنابيب داخل الأراضي السورية، وردّت دمشق بقصف مماثل، ما حوّل جبهة الجولان إلى ساحة اشتباك شبه يومي.

وفي 7 أبريل/ نيسان 1967، بلغ التوتر ذروته، إذ دخلت الطائرات السورية والإسرائيلية في مواجهة جوية مباشرة فوق الجولان ودمشق، وانتهت المعركة بسقوط ستّ طائرات ميغ سورية، تحطّم بعضها داخل العاصمة.

حرب يونيو/ حزيران 1967 (النكسة)

في صباح الخامس من يونيو/ حزيران 1967، اندلعت حرب عُرفت رسميًا باسم "حرب الأيام الستة"، بينما أطلق عليها العرب اسم "النكسة".

شنّت إسرائيل هجومًا جويًا مباغتًا دمّر أكثر من 90% من سلاح الجو المصري وهو لا يزال على مدارج المطارات. وفي غضون ساعات، شُلّت القدرات الجوية لمصر وسوريا والأردن، بينما فرض الطيران الإسرائيلي سيطرة مطلقة على أجواء المعركة.

أتاح هذا التفوق الجوي لإسرائيل تنفيذ اجتياحات برية سريعة على عدة جبهات:

  • في الجنوب، اجتاحت سيناء وقطاع غزة؛

  • في الشرق، احتلت الضفة الغربية والقدس الشرقية؛

  • وفي الشمال، سيطرت على مرتفعات الجولان السورية في اليوم الأخير من الحرب.

من أبرز نتائج هذه الحرب: احتلال إسرائيل لأراضٍ تزيد بثلاثة أضعاف عن مساحتها الأصلية، شملت سيناء وغزة والضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان، فضلًا عن تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين. (3)

ما قبل حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973

بعد النكسة، دخل الصراع السوري - الإسرائيلي مرحلة جديدة اتسمت بالتوتر الدائم والاشتباكات المتكررة، من دون أن تتحوّل إلى حرب شاملة حتى عام 1973.

في الأيام الأخيرة من حرب 1967، تمكّنت القوات الإسرائيلية من السيطرة على كامل هضبة الجولان، ما فتح الباب أمام مرحلة من الاشتباكات والقصف المتبادل بين الطرفين.

شملت هذه الفترة أيضًا عمليات نوعية مثل إسقاط طائرات إسرائيلية أو استهداف مستوطنات في الجليل، بينما كثّفت إسرائيل غاراتها على العمق السوري، لا سيما خلال عامي 1968 و1969.

في الأيام الأخيرة من حرب 1967، تمكّنت القوات الإسرائيلية من السيطرة على كامل هضبة الجولان
تمكّنت القوات الإسرائيلية من السيطرة على كامل هضبة الجولان مع نهاية حرب 1967 - غيتي

لماذا التركيز على الجولان؟

تقع هضبة الجولان في جنوب غرب سوريا، وتتميّز بتضاريس مرتفعة تطلّ على مناطق حيوية مثل الجليل وسهل الحولة وبحيرة طبريا. وتتقاطع حدودها مع سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، ما أكسبها أهمية استراتيجية بالغة في سياق النزاع العربي - الإسرائيلي.

تبلغ مساحة الهضبة نحو 1800 كيلومتر مربع، خضع ثلثاها للاحتلال الإسرائيلي منذ حرب 1967، بينما بقي الجزء الشرقي تحت السيادة السورية.

الجولان كان ولا يزال ساحة توتر مزمن، لأسباب تتعلق بالمياه، والموقع العسكري المرتفع، وإمكانات المراقبة والسيطرة.

في عام 1981، أعلنت إسرائيل ضمّ الجولان من جانب واحد، وهو قرار رفضه المجتمع الدولي، وأكّد مجلس الأمن عدم شرعيته في قراره رقم 497.

ورغم مرور عقود، لا يزال سكان الجولان السوريون، وغالبيتهم من الطائفة الدرزية، يرفضون الجنسية الإسرائيلية، ويتمسّكون بهويتهم الوطنية.

تتمتع الهضبة أيضًا بأهمية اقتصادية وأمنية، كونها خزانًا مائيًا يغذّي بحيرة طبريا، كما استخدمتها إسرائيل كنقطة انطلاق عسكرية متقدمة في مواجهة سوريا ولبنان، وشهدت نشاطًا استيطانيًا واسعًا ضمن محاولات فرض الأمر الواقع.

ومع اندلاع الأزمة السورية بعيد عام 2011، اكتسبت الهضبة أهمية إضافية في الحسابات الإسرائيلية، خصوصًا بعد اقتراب إيران وحزب الله من حدودها، ما دفع تل أبيب إلى تنفيذ ضربات متكررة في العمق السوري، بذريعة منع "التموضع الإيراني".(4)

حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973 (حرب تشرين)

اندلعت حرب تشرين في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، بهجوم مفاجئ شنّته كل من مصر وسوريا على إسرائيل خلال عيد الغفران اليهودي.

على الجبهة السورية، سجّل الجيش السوري تقدّمًا أوليًا في الجولان واستعاد بعض المواقع، إلا أن الهجوم المضاد الإسرائيلي أعاد قلب المعادلة، وتميّزت المعارك بشراسة غير مسبوقة، وتكتيكات ميدانية جديدة.

لم تكن سوريا وحدها في هذه المواجهة؛ فقد تلقّت دعمًا عسكريًا مباشرًا من عدة دول عربية، أبرزها العراق، الذي أرسل وحدات قتالية إلى الجبهة السورية، إلى جانب مساهمات من الأردن ودول خليجية قدمت دعمًا لوجستيًا وماديًا.

وبرزت القمة العربية في الجزائر، المنعقدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1973، كمحطة سياسية هامة أظهرت الإجماع العربي على دعم سوريا ومصر في معركتهما ضد الاحتلال الإسرائيلي.

ورغم أن سوريا لم تتمكّن من استعادة الجولان بالكامل، فإن أداءها العسكري شكّل مفاجأة استراتيجية، ولاقى تقديرًا شعبيًا عربيًا واسعًا، بعد سنوات من الإحباط الذي خلّفته نكسة 1967.

اندلعت حرب تشرين في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973، بهجوم مفاجئ شنّته كل من مصر وسوريا على إسرائيل
اندلعت حرب 1973، بهجوم مفاجئ شنّته كل من مصر وسوريا على إسرائيل - غيتي

اتفاق فصل القوات (1974)

في أعقاب الحرب، أُبرم اتفاق فصل القوات بين سوريا وإسرائيل بوساطة أممية في مايو/ أيار 1974. شكّل الاتفاق إطارًا لوقف إطلاق النار، ونصّ على إنشاء منطقة عازلة بين الجانبين، تُشرف عليها قوات أممية للفصل والمراقبة.

ورغم وقف العمليات العسكرية المباشرة، فإن الاتفاق لم يُنهِ الاحتلال الإسرائيلي للجولان، بل كرّس واقعًا هشًّا حافظ على التوتر القائم، وأبقى النزاع مفتوحًا أمام جولات لاحقة من التفاوض والصراع. (5)

من 1974 حتى 2011: صراع دون حرب

تميّز الصراع السوري - الإسرائيلي بين عامي 1974 و2011 بجمود عسكري مباشر. فمنذ توقيع اتفاق فك الاشتباك، بقيت خطوط وقف إطلاق النار هادئة نسبيًا، وإن لم تخلُ من التوترات والاحتكاكات غير المباشرة.

عززت إسرائيل وجودها في الجولان، من خلال بناء قواعد ومراكز رصد، وتحصين خطوط الدفاع. في المقابل، ركّزت سوريا على تعزيز تمركزها العسكري في الجنوب، لا سيما الفرقة التاسعة في درعا، والفرقة الخامسة، إلى جانب تشكيلات مدرعة وصاروخية.

سادت في هذه المرحلة حالة من "الردع المتبادل"، إذ لم تُفتح جبهة حرب شاملة، لكن بقي الطرفان في حالة تأهّب دائم، خصوصًا مع دعم سوريا لحزب الله في لبنان سياسيًا ولوجستيًا، إلا أنّ الجبهة في الجولان بقيت على الدوام مغلقة عسكريًا، لكنها رفعت من مستوى الجهوزية والاستنفار.

لكن كل شيء تغيّر مع اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، حيث بدأ فصل جديد من الصراع.

مرحلة الثورة السورية (2011 – 2022): صراع بوجه جديد

منذ اندلاع الثورة السورية في مارس/ آذار 2011، دخل الصراع السوري – الإسرائيلي مرحلة جديدة اتّسمت بتحوّلات استراتيجية عميقة، على وقع تغيّر موازين القوى داخل سوريا، وتزايد تدخل الفاعلين الإقليميين والدوليين، وعلى رأسهم إيران، حزب الله، وروسيا.

في السنوات الأولى، انشغل النظام السوري بقمع الحراك الشعبي، وتراجعت قدرته على فتح جبهة مباشرة مع إسرائيل. واقتصر التوتر في تلك المرحلة على بعض الحوادث المحدودة في الجولان، فيما راقبت إسرائيل الوضع بحذر من دون تدخل كبير.

راقبت إسرائيل الوضع بحذر من دون تدخل كبير خلال السنوات الأولى من الثورة السورية - غيتي
راقبت إسرائيل الوضع بحذر من دون تدخل كبير خلال السنوات الأولى من الثورة السورية - غيتي

لكن مع تصاعد التدخّل الإيراني في سوريا، دعمًا لنظام الأسد، بدأت تل أبيب بتبنّي سياسة الضربات الجوية المحددة داخل الأراضي السورية، مستهدفةً شحنات أسلحة متطورة كانت في طريقها إلى حزب الله، ومواقع تابعة للحرس الثوري الإيراني.

من أبرز تلك الضربات: الهجمات التي طالت محيط العاصمة دمشق، ولا سيما في مايو/ أيار 2013، والتي مثّلت تحوّلًا في قواعد الاشتباك.

"المعركة بين الحروب": استراتيجية إسرائيل الجديدة

في هذه المرحلة، أطلقت إسرائيل ما بات يُعرف بـ"المعركة بين الحروب"؛ وهي استراتيجية عسكرية تقوم على توجيه ضربات دورية ومركّزة داخل سوريا، بهدف منع التموضع الإيراني، وإحباط عمليات نقل الأسلحة إلى حزب الله، من دون الانجرار إلى مواجهة شاملة.

ورغم التحالف الروسي مع النظام السوري، نجحت تل أبيب في إقامة قناة تنسيق مباشرة مع موسكو لتفادي التصادم في الأجواء السورية، خاصة بعد تدخل روسيا العسكري في خريف 2015.

وقد ساعد هذا التنسيق إسرائيل على تصعيد وتيرة غاراتها الجوية، مستهدفةً منشآت إيرانية حساسة مثل مطار "T4"، منطقة الكسوة، ومحيط مطار دمشق الدولي.

وبلغت هذه الحملة ذروتها في مايو/ أيار 2018، حين شنّت إسرائيل أكبر هجوم جوي على سوريا، ردًا على إطلاق صواريخ إيرانية باتجاه الجولان المحتل.

بين عامي 2019 و2022: ضرب الشبكات الإيرانية

بين عامي 2019 و2022، تبنّت إسرائيل استراتيجية أكثر اتساعًا لضرب شبكة النفوذ الإيراني داخل سوريا، مع التركيز على:

  • مستودعات الأسلحة ومراكز القيادة التابعة للحرس الثوري؛

  • خطوط الإمداد الممتدة من طهران عبر العراق وصولًا إلى لبنان؛

  • المطارات المدنية، خاصة مطاري دمشق وحلب، كمراكز لوجستية لنقل السلاح؛

  • وحدات تمركز إيرانية في الجنوب السوري، قرب الحدود مع الجولان.

خلال هذه الفترة، باتت الغارات الإسرائيلية شبه أسبوعية، وتوزّعت على محافظات دمشق، حمص، حلب، دير الزور، وريف درعا.

كل ذلك شكّل مشهدًا جديدًا من الصراع السوري - الإسرائيلي، يعتمد على استنزاف مستمر، وتوازن ردع غير معلن، دون مواجهة عسكرية مباشرة.

مرحلة ما بعد 7 أكتوبر 2023: تصعيد مفتوح

منذ عملية "طوفان الأقصى" التي نفذتها حركة "حماس" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شهدت الساحة السورية تصعيدًا إسرائيليًا غير مسبوق، خصوصًا ضد مواقع مرتبطة بإيران و"حزب الله". (6)

تركّزت الضربات على مطاري دمشق وحلب الدوليين، إضافة إلى مواقع عسكرية وأمنية في العاصمة ومحيطها، حيث يتمركز الوجود الإيراني العسكري والدبلوماسي.

وفي 9 ديسمبر/ كانون الأول 2024، نفّذت إسرائيل أكثر من 100 غارة جوية خلال 24 ساعة، استهدفت مراكز حساسة أبرزها مركز البحوث العلمية في برزة بدمشق، ومناطق في الساحل السوري غرب البلاد. (7)

شهدت الساحة السورية تصعيدًا إسرائيليًا غير مسبوق في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى - غيتي
شهدت الساحة السورية تصعيدًا إسرائيليًا غير مسبوق في مرحلة ما بعد طوفان الأقصى - غيتي

سقوط الأسد وتحوّلات الصراع

في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، سقط نظام بشار الأسد رسميًا بعد سنوات من اندلاع الثورة الشعبيّة ضدّه، والانهيار الاقتصادي، وتراجع الدعم الروسي. شكّل هذا الحدث نقطة تحوّل جذرية في الصراع السوري – الإسرائيلي.

استغلّت إسرائيل الفراغ الأمني في الجنوب السوري لتوسيع نطاق سيطرتها، خاصة في المنطقة العازلة التي أُنشئت بموجب اتفاق فصل القوات عام 1974.

فبعد انسحاب الجيش السوري من تلك المنطقة، أعلنت إسرائيل أن الاتفاق قد انهار، وبدأت حملة عسكرية سيطرت خلالها على نحو 440 كيلومترًا مربعًا، شملت مواقع استراتيجية أبرزها قمة جبل الشيخ - أعلى نقطة في الجولان - ومناطق التلول الحمر، جباتا الخشب، والحميدية.

أنشأت القوات الإسرائيلية قواعد عسكرية ونقاط مراقبة في هذه المناطق، مستفيدة من انسحاب القوات الروسية من الجنوب، ومن الغياب شبه التام للجيش السوري.

موقف دمشق الجديدة وردود الفعل الدولية

عقب تسلّم أحمد الشرع رئاسة سوريا، قدّمت الحكومة الجديدة مذكرات احتجاج رسمية ضد التوسع الإسرائيلي، وطالبت الأمم المتحدة بالتدخل لوقف الانتهاكات. غير أن المواقف الدولية بقيت متباينة، بين تنديد لفظي وصمت عملي.

اقتصرت ردود الفعل على مراقبة التطورات، دون اتخاذ خطوات فعلية للحد من التوسع الإسرائيلي، ما عزّز من واقع "الهيمنة العسكرية" في الجنوب.

وفي مارس/ آذار 2025، أمرت الحكومة الإسرائيلية جيشها بالاستعداد للتدخل لحماية الدروز في منطقة جرمانا، محذّرة من أي تهديد قد يتعرضون له من قبل النظام السوري الجديد.

في السياق ذاته، اندلعت اشتباكات عنيفة في محافظة اللاذقية بين قوات الأمن ومسلحين موالين للنظام السابق، ما أدى إلى مقتل عشرات الأشخاص، بينهم مدنيون.

وبالتوازي، استمرت إسرائيل في تعزيز وجودها العسكري جنوب سوريا، خاصة في مناطق القنيطرة والسويداء، مؤكدة ضرورة إبقاء هذه المناطق خالية من "التهديدات المعادية". (8)(9)

ملف التطبيع: بين السرّية والتوجّس الشعبي

رغم التحوّلات السياسية والأمنية المتسارعة في سوريا، تبقى العلاقة مع إسرائيل محكومة بتوازنات شديدة الحساسية. فداخليًا، لا تزال النظرة الشعبية لأي خطوة باتجاه "تطبيع" العلاقات تتّسم برفض واسع، نظرًا لاعتبار الجولان المحتل خطًا أحمر لا يمكن تجاوزه، ولبقاء إسرائيل في الوعي السوري "عدوًا إستراتيجيًا". (10)

في المقابل، كشفت تقارير إعلامية في الآونة الأخيرة عن لقاءات غير معلنة بين مسؤولين إسرائيليين وشخصيات مقرّبة من النظام السوري الجديد. كما تحدثت وسائل إعلام إسرائيلية عن لقاءات أخرى جرت في عواصم أوروبية، في حين يكتفي النظام بالحديث عن مفاوضات غير مباشرة، تهدف إلى مناقشة ملفات حسّاسة، أبرزها:

  • مستقبل هضبة الجولان؛

  • وقف الأنشطة الإيرانية في جنوب سوريا؛

  • تنسيق أمني أولي لتفادي التصادم غير المقصود بين الجانبين. (11)

ورغم أن هذه الاتصالات لا تزال في مراحلها الأولية، إلا أنها تفتح بابًا جديدًا للتساؤلات حول اتجاه سوريا في ظل المتغيرات الجذرية التي شهدتها البلاد، وما إذا كانت دمشق الجديدة ستخوض مسارًا مختلفًا في التعامل مع إسرائيل مقارنةً بالعقود السابقة.

في الخلاصة..

يُعدّ الصراع السوري – الإسرائيلي واحدًا من أكثر النزاعات استعصاءً في تاريخ المنطقة، ليس فقط لطوله الزمني وتشعّب أطرافه، بل لأنه يمثل تلاقيًا بين قضايا الاحتلال والسيادة والمياه والهوية الوطنية.

وعلى مدى أكثر من سبعة عقود، تنقّل هذا الصراع بين المواجهة العسكرية، والمراوحة السياسية، والاستنزاف الميداني، دون أن يصل إلى تسوية نهائية أو حالة سلام مستقر.

وقد شكّلت هضبة الجولان محورًا لهذا الاشتباك المستمر، باعتبارها معادلة أمنية، وموقعًا استراتيجيًا، ورمزًا للسيادة المنتهكة، فيما أدّت الثورة السورية، ثم سقوط النظام، إلى إعادة تشكيل مشهد الصراع، بما بدّل بعض ملامحه دون أن يغيّر جوهره.

اليوم، وبينما تعيد سوريا ترتيب أولوياتها تحت قيادة جديدة، وتواصل إسرائيل فرض وقائع ميدانية في الجنوب، تتداخل الحسابات الإقليمية والدولية في مشهد أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى.

فهل يتّجه هذا الصراع إلى طور جديد من "السلام البارد" القائم على السيطرة الأمنية والتنسيق المحدود، أم أن جذور المسألة – وفي مقدمتها الاحتلال ورفض التطبيع – ستبقى عائقًا أمام أي تسوية فعلية؟ سؤال مفتوح على المستقبل، في منطقةٍ أثبتت أن الثبات فيها قد يكون مؤقتًا، والتغيّر حتميًا.

المراجع:

تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي
تغطية خاصة