الجمعة 14 تشرين الثاني / نوفمبر 2025
Close

العشائر العربية في سوريا.. حليف للسلطة أم قوة فوضى؟

العشائر العربية في سوريا.. حليف للسلطة أم قوة فوضى؟ محدث 17 أيلول 2025

شارك القصة

مقاتلون من العشائر البدوية يتنقلون بدراجة نارية في قرية المزرعة بريف السويداء الجنوبي – 18 يوليو 2025 - غيتي
مقاتلون من العشائر البدوية يتنقلون بدراجة نارية في قرية المزرعة بريف السويداء الجنوبي – 18 يوليو 2025 - غيتي
الخط
تتنامى قوة العشائر العربية في سوريا لتصبح لاعبًا أساسيًا في ميدان الصراع، بين دورٍ يهدد استقرارًا هشًّا وتحالف محتمل مع السلطة. فما مستقبل هذه القوة العشائرية بين الفوضى والتنظيم؟

في الثامن عشر من يوليو/ تموز الماضي، حط موسيقي مغترب بشكل طارئ في مطار مدينته دمشق، عازمًا على التوجه إلى السويداء لإخراج زوجته الدرزية العالقة داخل المدينة المنكوبة، إثر زيارة غير موفقة التوقيت للأهل، قادتها إلى الاحتجاز مع مئات الآلاف الآخرين بين نيران جهات عدة.

يروي الشاب أنه رأى يومها سوريا مختلفة عمّا عرفها خلال عقود حياته الثلاثة، وفي كل زياراته السابقة، بما فيها تلك التي أعقبت سقوط نظام الأسد. كانت ساحة الأمويين وسط المدينة، وطريق الجمارك المتجه نحو درعا والسويداء، مليئتين بسيارات الدفع الرباعي والشاحنات الصغيرة المحملة بالمقاتلين البدو، ببيارق غريبة وأخرى باتت مألوفة فقط خلال سنوات الحرب الأهلية. علت صيحات الجهاد، وارتفعت البنادق الرشاشة في الهواء، وأُطلق الرصاص الحماسي، وصدحت أصوات التكبير طوال المسافة القصيرة التي استطاع المغترب الدمشقي قطعها باتجاه درعا، قبل أن يعيده حاجز من المقاتلين الملتحين إلى العاصمة، قائلين له بهدوء مبطن: "إن أردت العيش".

على الطرف الآخر، كانت أعلام الدروز ترفرف بطبيعة الحال، ولاحقًا رُفعت أيضًا أعلام إسرائيل. وتخلّل الهجوم على السويداء رفع رايات "جبهة النصرة" و"تنظيم الدولة" دون أي حرج. مشهد مركّب ومتكرّر في سوريا ما بعد الثامن من ديسمبر، لا يحتاج تفسيره إلى قدرات تحليلية استثنائية، إذ لم يخرج من توازنات الصراع سوى طرف واحد فعليًا، هو النظام، فيما بقي الآخرون على سلاحهم، المعلن أو المخفي، "المدموج" أو المستقل، ينتظرون تحت مظلة هشة البنيان، مضطربة التوازن، قد تعصف بها الرياح في أي لحظة بعيدًا.

العشائر.. قوة فوضوية موحّدة

يتّضح ضمن التوازنات الراهنة أن قوة العشائر العربية باتت عاملًا أكثر حضورًا وتأثيرًا، من خلال ظهورها بمظهر القوة الموحَّدة، سواء في اتحادها أو في استجابتها السريعة، بأسلحة خفيفة ومتوسطة، لقتال مكوّن داخلي صريح، وبموافقة ضمنية من الحكم، وتحت أنظار الجميع. فقد قدمت نفسها كقوة قادرة على التوحّد خلف هدف واضح، وبذل الدم - الكثير من الدم - من أجله. فما الذي يمكن استخلاصه من "فزعة العشائر" الثانية، خلال ثمانية أشهر فقط من عمر السلطة الانتقالية؟

ويطرح هنا سؤال جوهري يستحق التوقف عنده: هل يمكن لسوريا أن تتحول إلى دولة مدنية معاصرة في ظل وجود نماذج، أو نموذج من هذه التجمعات البشرية القائمة على ولاء الدم والقربى، لعشرات الآلاف من المسلّحين، من دون خضوع لأي قانون رادع، أم أن من الممكن تنظيمها وتحويلها إلى "قوى صحوات"، عبر قانون مشابه لقانون "الحشد الشعبي" في العراق، ما يعني الاعتراف بها ككيان اجتماعي - سياسي ذي طابع طائفي، يكون رديفًا لـ"الجيش الوطني" في الدفاع عن السلطة الحليفة؟

هذا الخيار، كما علمنا، يُهمَس به في كواليس السلطة في سوريا حاليًا، ويُرجّح أن يُطرَح على مجلس الشعب المرتقب، تمامًا كما جرى "نظريًا" حلّ الفصائل وتنظيم وجودها. ومن ثمّ، قد يجري اعتماد فزعات العشائر مستقبلًا ضمن أطر قانونية، ولكن دون ضمان لوضعها تحت السيطرة التامة للدولة، إذ لا يزال موضوع نزع السلاح، خصوصًا لدى القوى الحليفة، خارج إطار النقاش، ولا توجد رؤية رسمية معلَنة بهذا الشأن حتى اللحظة.

هذه الفرضيات، وغيرها، تستدعي إعادة النظر في دلالات استمرار العشائر على هذا النحو: بولاءات متفرقة، وانتماءات مذهبية وقبلية، وتسليح كثيف، بما يمثله ذلك من مصدر قلق إقليمي أيضًا، نتيجة امتداداتها العابرة للحدود، وليس داخل سوريا فقط، وما تتيحه من احتمالات فوضى في إقليم باتت الفوضى فيه محرّكًا ونتيجة في آن معًا.

ثلاثة أرباع الشعب السوري؟

في تصريح أدلى به في أغسطس/ آب 2025، قال مضر حماد الأسعد، رئيس المجلس الأعلى للعشائر العربية في سوريا، إن العشائر ومجلسها يُمثّلون ما يقارب 75% من الشعب السوري، وإنّ دور هذه العشائر هو "التصدّي للمؤامرات والدفاع عن الدولة في وجه أعداء الداخل والخارج"، مبرّرًا بذلك نداء "فزعة العشائر" الأخير نحو السويداء لقتال الفصائل الدرزية.

إلّا أنّ نسبة ثلاثة أرباع الشعب السوري للانتماء العشائري لا تبدو دقيقة، وخصوصًا أن قسمًا كبيرًا من السوريين لا يجد في نسبه القبلي أكثر من اسم العائلة، ولا يربطه بها سوى تقاليد سطحية متداولة، أو أحاديث الأجداد، على الأقل حتى العقد الأخير.

يُضاف إلى ذلك غياب الإحصاءات الرسمية بشأن عدد البدو في سوريا. وتُشير دراسة "القبائل والقبلية والهوية السياسية في سوريا المعاصرة"، الصادرة عن مركز عمران للدراسات (2016)، إلى أن تقديرات عام 1999 كانت تُقدّر نسبة البدو بما بين 5% و7% من إجمالي السكان. أما تقديرات لاحقة، لباحثين معنيين، فتُشير إلى أن مَن يعتبرون أنفسهم بدوًا يشكّلون نحو 10% إلى 12% من مجمل السوريين.

ويضيف البحث نفسه أن عشرة مقاعد من أصل 135 في برلمان عام 1943 (أي نحو 7%) خُصّصت لممثلي البدو، بوصفه إرثًا من سياسة الانتداب الفرنسي. وفي عام 2010، كان ثلاثون عضوًا من أصل 250 في مجلس الشعب (أي 12%) من أبناء البدو، وهو ما لا يُمثّل سياسة رسمية، بل يُعبّر عن حضور البدو السياسي والاجتماعي في البادية السورية.

نسبة ثلاثة أرباع الشعب السوري للانتماء العشائري لا تبدو دقيقة
نسبة ثلاثة أرباع الشعب السوري للانتماء العشائري لا تبدو دقيقة - غيتي

وفي تقرير نَشره موقع "جسور" بعنوان "خارطة أهم القبائل والعشائر العربية في سوريا"، تُبيّن المعطيات أن العشائر السورية تنتشر على مساحات داخلية واسعة، وخصوصًا في الشمال الشرقي على امتداد نهر الفرات، وفي أرياف حلب وحماة وحمص، وبشكل أساسي في المناطق التي يتفوّق فيها المكوّن السنّي عدديًا. في المقابل، يغيب تأثير العشائر عن مناطق الساحل، ويضعف في مناطق الدروز والمسيحيين، وفي الجنوب عمومًا، حيث حلّ الانتماء العائلي محلّ الانتماء العشائري، وفقًا للتقرير ذاته.

وتُحصي دراسات عدة وجود نحو 25 قبيلة في سوريا، تتفاوت في حجمها وولاءاتها، لكنها تتشابه في بنيتها الداخلية وعاداتها وتقاليدها. وبعض هذه القبائل يمتد على رقعة عربية إقليمية، فيما يبقى بعضها الآخر محدود الانتشار ومحلي الطابع، وتتفرّع عنها مئات العشائر المتفرّقة.

قبائل عابرة للحدود

من بين أبرز القبائل العابرة للحدود الحديثة، بعد اتفاقية سايكس–بيكو واحتلال فلسطين، تبرز العشائر الممتدة بين سوريا والعراق، وأبرزها:

  • العقيدات (أو العكيدات): من أكبر قبائل الفرات الأوسط والشرقي، تنتشر في دير الزور والبوكمال، ولها امتداد واسع في العراق، ولا سيما في محافظتي الأنبار ونينوى.

  • شمر: تنتشر في الجزيرة السورية، ولها وجود في العراق (الموصل وصلاح الدين) وكذلك في منطقة نجد بالسعودية.

  • الجبور: يتوزعون بين الحسكة ودير الزور، ويشكّلون كتلة بشرية معتبرة في الموصل العراقية.

  • العبيد: ينتشرون في ريف الحسكة، ولهم حضور في ريف الموصل.

  • البقارة: تمتدّ من سوريا إلى العراق والأردن ولبنان.

وينطبق الوضع ذاته على العشائر المشتركة بين سوريا والأردن، ومنها:

  • بنو خالد: ينتشرون في جنوب سوريا (حوران) وشمال الأردن (إربد والمفرق).

  • النعيمات (أو النعيم): لهم وجود في ريف دمشق والجولان، وفي شمال ووسط الأردن.

  • السرحان: ينتشرون في البادية السورية (السويداء والبادية الشرقية)، ويقيمون أيضًا في المفرق والبادية الأردنية.

أما العشائر الممتدة بين سوريا والسعودية، فأبرزها:

  • عنزة: من كبريات القبائل البدوية، تنتشر في بادية الشام (الرقة، الحسكة، دير الزور)، وتمتد إلى نجد والحجاز في السعودية.

  • شمر: وقد أُشير إليها سابقًا.

  • النعيم: موجودون في دمشق وريفها، ولهم حضور في لبنان والأردن أيضًا.

ويُضاف إلى هؤلاء البدو الرحّل من العشائر العربية، مثل:

  • الموالي والحديديين والفواعرة: هؤلاء ينتشرون بين سوريا والأردن وشمال السعودية.

  • الحويطات: يقطنون جنوب سوريا (درعا والسويداء)، ولهم امتداد واسع في جنوب الأردن وشمال الحجاز.

تاريخ متأصل.. حروب وتحالفات وهجرات

تتفق الدراسات المتخصصة على تصنيف العشائر إلى ثلاث فئات كبرى، وفقًا لدرجة ارتباطها بحياة البادية ونمط عيشها. ويفصّل تحقيق موسّع هذا التصنيف بحسب مستوى التحضّر، على النحو التالي:

  • عشائر متحضّرة: استقرت في القرى والحواضر منذ أجيال، واندمجت في الحياة الزراعية أو التجارية في المدن وضواحيها.

  • عشائر شبه متحضّرة: جمعت بين الاستقرار الجزئي في القرى والأرياف، وبين ممارسة بعض الأنشطة البدوية التقليدية، مثل تربية المواشي والتنقّل الموسمي.

  • عشائر بدوية: لا تزال مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بحياة البادية والترحال، وتعتمد على تربية الإبل والأغنام، والتنقّل الموسمي بحثًا عن الماء والكلأ، مع تمسّكها الصارم بقيم وأعراف البدو التقليدية.

ووفقًا للبحث نفسه، يعود الوجود القبلي في سوريا إلى عصور قديمة، حين هاجرت مجموعات عربية من اليمن وجنوب الجزيرة العربية وانتشرت في العراق وبلاد الشام، فيما عبرت قبائل أخرى صحراء سيناء باتجاه شمال إفريقيا.

أما في التاريخ الحديث، فقد وثّق باحثون نشوء علاقة "منفعة متبادلة" بين العشائر العربية والدولة العثمانية (1299 - 1923). فقد أوكل العثمانيون إلى تلك العشائر مهمة تأمين الصحراء وحماية الطرق التجارية، مقابل الدعم المالي (أموال وهدايا) والمعنوي (مناصب رمزية ومكانة اعتبارية لشيوخ العشائر). لكنّ الغالبية الساحقة من هذه العشائر وقفت لاحقًا إلى جانب "الثورة العربية" ضد العثمانيين في العقد الثاني من القرن العشرين.

لاحقًا، سعى الاستعمار الفرنسي لاستقطاب هذه القوى القبلية المنتشرة على امتداد سوريا (الكبرى)، عبر ما سُمِّي آنذاك بـ"وحدة تنظيم نشاط البدو"، ومنح ولاءاتهم من خلال توزيع الأراضي والامتيازات، والسماح لبعضهم بحمل السلاح الخفيف (بشروط ترخيص). وفي مرحلة لاحقة، صدر "قانون العشائر" قبل ست سنوات من الاستقلال، بهدف اجتذاب الزعامات العشائرية إلى صفّ الاحتلال ضد الكتل الوطنية. وقد أُلغِي هذا القانون بداية الخمسينات، وفق ما تذكره دراسة مركز عمران (2016)، واستُبدِل بمرسوم ينظّم شؤون البدو، بهدف دمجهم لاحقًا في البيئات الحضرية، مع الإبقاء على حمل السلاح في البادية فقط. غير أن هذه الخصوصية أُلغِيَت رسميًا خلال فترة الوحدة السورية-المصرية، ولا سيما بعد انكشاف دور بعض العشائر في محاولات انقلابيّة، ما جعلها بلا أي هوية قانونية، وهو ما مثّل نهاية التشريعات التي تعاملت مع العشائر البدوية وزعاماتها بشكل مباشر.

وقد أدى هذا التحوّل، بحسب الدراسة، إلى هجرة كثير من العشائر نحو دول الجوار، ولا سيما العراق والسعودية، وتضاعفت هذه الهجرات بعد وصول حزب البعث إلى السلطة، وتطبيقه سياسة إصلاح زراعي صارمة، صودرت بموجبها مساحات شاسعة من الإقطاعيات التي كانت في قبضة الزعامات العشائرية، بهدف تطوير القطاع الزراعي وتوزيع ثرواته. وقد قُدّرت الأراضي المصادَرة في نهاية الستينات بنحو 1.5 مليون هكتار، وُزّعت بين فلاحين معدمين أو أُسر بدوية.

في سبعينات القرن الماضي، تشير الدراسة ذاتها إلى أن الرئيس حافظ الأسد بنى علاقة "تكتيكية" مع عدد من زعماء العشائر، خوفًا من خروج سلطتهم عن السيطرة، فعمد إلى إقامة علاقات مع زعامات ثانوية، نظرًا إليهم كخصوم محتملين إذا اقتضت الحاجة في المستقبل. وبلغ هذا التقارب مستوى التعاون الأمني، إذ تذكر الدراسة أن بعض العشائر البدوية ساعدت النظام في عام 1982 على إقامة جدار أمني عازل حول مدينة حماة، ومراقبة التحركات، والتحقّق من تدفّق السلاح من الحدود العراقية. ويُقال إن بعض شيوخ العشائر، مثل الأمير طراد الملحم، شيخ قبيلة الحسنة، كانوا من أوائل من دخلوا لتقديم مساعدات إنسانية للناجين من المجزرة.

لاحقًا، طوّر النظام علاقته بهذه الزعامات من خلال منحهم منافع في مؤسسات الدولة، وتسهيل أعمالهم التجارية، وخصوصًا تجارة المواشي مع السعودية. كما اعتمد عليهم في مراقبة الحدود ومكافحة تهريب السلاح من نظام البعث العراقي إلى سوريا. ووسّع الأسد الأب تمثيلهم في البرلمان، من دون الاعتراف بهم كهيكل عشائري صريح. أما الأسد الابن، فقد واصل السياسة ذاتها، حتى اندلاع انتفاضة مارس/ آذار 2011، حين شاركت العشائر، لأسباب متداخلة، في الثورة ضد النظام، متأثرة بأجواء "الربيع العربي".

استجابت قوى المعارضة لهذا التحرك العشائري، وخصصت يوم 11 يونيو/ حزيران لـ"جمعة العشائر" كشعار تعبويّ للثورة. وردّ النظام بدعوة مئات من ممثلي العشائر العربية إلى التحالف معه، وأقام من أجل ذلك "خيم الوطن" في المدن ذات الغالبية العشائرية، محاولًا استمالة بعض الزعماء وترهيب آخرين، ما أدى إلى انقسامات حادة، أفقيًا بين العشائر، وعموديًا داخل العشيرة الواحدة، بين من قاتل مع النظام ومن حمل السلاح ضده، على مدى أكثر من عقد ونصف من الصراع الأهلي.

القبائل التي لا تُقهر ومشروع الدولة الآن

على امتداد التاريخ الطويل للقبائل العربية، من نشأة العرب وحتى اللحظة، سعت قوى عظمى إلى ضبط هذه البنية الاجتماعية أو التخلّص من تأثيرها، لما تمثّله من عنصر تفتيت أو توحيد قد يهدد استقرار المناطق التي تسكنها. وعلى الرغم من بدائية وسائل عيشها من الرعي والزراعة المحدودة، إلى حماية طرق التجارة والتهريب، فإن تأثيرها ظلّ حاضرًا ومربكًا للسلطات المركزية.

وتُشير دراسة "القبيلة والسلطة في سوريا.. التاريخ والثورة"، الصادرة عن مركز عمران للدراسات (2021)، إلى أن الإمبراطوريات المتلاحقة - الآشورية، البابلية، اليونانية، المصرية، الفارسية، والرومانية - حاولت قهر القبائل العربية دون جدوى. وقد اتفق جميعها، كما يُورد الباحثون، على أن هذه القبائل تُشكّل خطرًا على الحواضر المستقرة.

وكان هذا أيضًا رأي عدد من علماء الإسلام، إذ وضع المفكر عبد الرحمن بن خلدون البدو في مرتبة من "ينفر من العلوم والحِرف والاستقرار"، ويفضّل حياة البادية، والغزو، واستحصال الغنائم. وقد اعتبر أن حياة القبيلة ترتكز على العصبية، وتتعارض مع العمران المدني الذي يحتاج إلى سلطة مركزية وقانون مكتوب.

يعود الوجود القبلي في سوريا إلى عصور قديمة - غيتي
يعود الوجود القبلي في سوريا إلى عصور قديمة - غيتي

هذا الإدراك دفع الحكّام والقادة، على مرّ العصور، إلى كسب ودّ القبائل بدل مواجهتها، والاعتماد على سلاحها بدل استنزافها. فعلى سبيل المثال، لم يتمكن الإمبراطور الروماني أوريان من إخماد تمرد الملكة زنوبيا في تدمر عام 273 ق.م، إلا بمساعدة قبائل التنوخيين، حيث هزمها في معارك عدة بين أنطاكيا وحلب وحمص وتدمر. ومن هنا تبيّن للرومان أهمية التحالف مع القبائل، لا قتالها، لضمان السيطرة على المنطقة.

وتكرّر هذا النموذج لاحقًا، كما سبق ذكره، في علاقة المنفعة المتبادلة بين العثمانيين والعشائر، ثم في المصالح المشتركة مع الفرنسيين خلال الانتداب، فمحاولات تذويبهم في زمن الوحدة السورية - المصرية، ولاحقًا في علاقة النظام مع القبائل في عهدي الأسد الأب والابن.

أما اليوم، فقد تفرّقت العشائر فرقًا، ووقفت في تحالفات متضاربة، إلى أن ظهرت مؤخرًا كقوة مسلّحة شبه موحّدة، متحالفة تمامًا مع السلطة، تتصرّف بانسجام ميداني معها، وتؤدي دور القوة الضاربة: فوضوية الطابع، عنيفة التأثير، دموية النتائج، تستجيب لنداء الفزعة الشفهي، دون سياسة عامة أو إطار قانوني ناظم.

فهل تحتمل سوريا الهشّة هذه القوة الموحدة اليوم؟

والسؤال الأهم: هل تحتمل السلطة اشتباكًا معها؟

ما يبدو جليًا في هذه اللحظة أن العشائر أصبحت محور ارتكاز مزدوج: وجه يمثّل الفوضى العنيفة والتشتت، ووجه آخر يُسهم وإن مؤقتًا في موازنة قوى الاستقرار الهش.

... ذلك التوازن الهش رآه الموسيقي المغترب بعينيه، وهو يعود هاربًا مع زوجته من السويداء المنكوبة، في الحادي والثلاثين من يوليو/ تموز، بعد هدوء نسبي للمعارك. لاحظ حينها تراجع السيارات المحمّلة بالرشاشات الثقيلة إلى الطرق الخلفية، وتمترس المقاتلين في صناديق الشاحنات وخنادق الطرقات، فمرّ بينهم وسط الآليات المحترقة، رافعًا ساعديه للتفتيش على حواجز لا تُعدّ ولا تُحصى، تتبدّل لهجاتها وخلفياتها، لكنها تتّحد في حماية الدم والكلمات.

من السويداء إلى بصرى الشام، مرورًا بطريق درعا، وصولًا إلى دمشق... تلك المدينة التي، رغم وصوله إليها، بقي من الصعب عليه - وعلى زوجته، وهما السنّي والدرزية معًا - أن يتنفّسا الصعداء، أو يشعرا فعلًا بأنهما قد نجوا.


المراجع

 

  1. الجزيرةعشائر البدو في سوريا: جذور عميقة في التاريخ الرابط
  2. مركز عمران للدراساتالقبيلة والسلطة في سوريا: التاريخ والثورة الرابط
  3. مركز عمران للدراساتالقبائل والقبلية والهوية السياسية في سوريا المعاصرة الرابط
  4. مركز جسور للدراساتخارطة أهم القبائل والعشائر العربية في سوريا الرابط
  5. جريدة الشرق الأوسطتصريح رئيس المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية الرابط
  6. سكاي نيوز عربيةمقابلة مع مضر الأسعد الرابط

 

تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي
تغطية خاصة