الثلاثاء 18 مارس / مارس 2025
Close

القصّة الكاملة للأكراد في سوريا.. من زمن الانتداب إلى ما بعد سقوط الأسد

القصّة الكاملة للأكراد في سوريا.. من زمن الانتداب إلى ما بعد سقوط الأسد محدث 12 مارس 2025

شارك القصة

عانى الأكراد السوريون من سياسات التهميش والإقصاء طيلة عقود الحكم البعثي، لأسباب أيديولوجية وأمنية - غيتي
عانى الأكراد السوريون من سياسات التهميش والإقصاء طيلة عقود الحكم البعثي، لأسباب أيديولوجية وأمنية - غيتي
الخط
يحاول هذا المقال تسليط الضوء بصورة مكثّفة على مسألة الأكراد في سوريا، من فترة الانتداب الفرنسي وحتى توقيع اتفاق دمج قوات سوريا الديمقراطية ومؤسساتها بالدولة السورية.

يُعَدّ الأكراد في سوريا، أو الكُرد، من أكبر الجماعات القومية في سوريا، يأتون في المرتبة الثانية من حيث العدد بعد العرب، ويشكّلون جزءًا أساسيًا من المشهد السياسي والاجتماعي السوري، حيث شكّلت المسألة الكردية منذ ظهورها إحدى بؤر التوتر وصراع المصالح بين قوى دولية وإقليمية مختلفة في الشرق الأوسط.

وإذ عانى الأكراد السوريون من سياسات التهميش والإقصاء طيلة عقود الحكم البعثي، لأسباب أيديولوجية وأمنية، إلا أنهم استطاعوا ترسيخ حضورهم السياسي والعسكري بعد الثورة السورية عام 2011، فأسسوا سلطة حكم ذاتي شملت محافظات الجزيرة السورية (الرقة والحسكة ودير الزور)، بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD، ما أثار حفيظة الجارة الشمالية تركيا، التي وجدت في ذلك تهديدًا لأمنها القومي، نظرًا لصراعها المديد مع حزب العمال الكردستاني PKK، والذي لا تخفى علاقة حزب الاتحاد الديمقراطي به.

وبعد سقوط نظام بشار الأسد، وسعي الإدارة الجديدة إلى بسط سيطرتها على كامل الأراضي السورية، عاد الملف الكردي بقوّة إلى الواجهة، بوصفه أحد أبرز التحدّيات التي كان عليها التعامل معها.

يحاول هذا المقال تسليط الضوء بصورة مكثّفة على المسألة الكردية في سوريا، من فترة الانتداب الفرنسي وحتى توقيع اتفاق دمج قوات سوريا الديمقراطية ومؤسساتها بالدولة السورية.

نشوء المسألة الكردية

تعود جذور المسألة الكردية إلى نهاية الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما تلاها من اتفاقيات عقدها الحلفاء المنتصرون، وفي مقدمتهم بريطانيا وفرنسا، بين بعضهم البعض لتقاسم مناطق النفوذ وتركة الدولة العثمانية المنهارة، ثم مع الجمهورية التركية الناشئة لترسيم حدودها الجديدة. فبعد هزيمة الدولة العثمانية، احتلت قوات الحلفاء أجزاء واسعة منها، بما يتماشى مع اتفاقية سايكس- بيكو (1916) التي قسّمت بعض الولايات العثمانية السابقة بين بريطانيا وفرنسا.

تأكّدت التقسيمات مع بعض التعديل في مؤتمر سان ريمو (1920)، وفي أغسطس/ آب من العام نفسه، جرى التوقيع على معاهدة سيفر بين العثمانيين والحلفاء، والتي قضت بتقليص الدولة العثمانية وحصرها في الأناضول، والاعتراف باستقلال بعض المناطق مثل الحجاز، وقيام دولة للأرمن شرق الأناضول، وإمكانية إنشاء دولة كردية مستقلة في مناطق من جنوب شرق تركيا الحالية بعد عام من الحكم الذاتي الكردي، بشرط استفتاء السكان وموافقة عصبة الأمم، وأصبحت المضائق البحرية العثمانية تحت سيطرة دولية[1].

ورغم توقيع الدولة العثمانية على معاهدة سيفر إلا أنّ بنودها لم تُنفّذ، بسب رفضها من القوميين الأتراك بقيادة الضابط مصطفى كمال (أتاتورك)، إذ وجدوا أنها تهدّد استقلال تركيا. ونتيجة المعارك التي قادها أتاتورك (1919-1922) ضد الحلفاء، وعرفت بـ"حرب الاستقلال"، استعاد الأتراك أجزاء واسعة من الأراضي التي خسروها، فأنهوا الوجود اليوناني في الأناضول، وأجبروا الحلفاء على إعادة النظر في معاهدة سيفر.

جرت مفاوضات جديدة على شروط السلام بين الحلفاء وممثلي الجمهورية التركية الوليدة، أفضت إلى التوقيع على معاهدة لوزان في 24 يوليو/ تموز 1923، وألغيت البنود التي تضمنتها معاهدة سيفر بشأن قيام دولة كردية أو أرمنية، وتم الاعتراف رسميًا بالجمهورية التركية بحدودها الحالية، وأصبح الكُرد موزّعين بين أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسوريا.

ومنذ ذلك الحين لم يتوقف نضال الأكراد لتحقيق أهدافهم القومية، متخذًا أشكالاً مختلفة، سياسية وعسكرية ودبلوماسية، مع فارق في الأساليب والتحالفات والمصالح، وفق ما تفرضه الظروف في كل من "أجزاء كردستان الأربعة"، وفق تعبير شائع لدى الكتاب الكرد.

عاد الملف الكردي بقوّة إلى الواجهة بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا - غيتي
عاد الملف الكردي بقوّة إلى الواجهة بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا - غيتي

سلطة الانتداب الفرنسي في سوريا والأكراد (1920-1946)

لم تخرج سياسة فرنسا في سوريا عن المبدأ الاستعماري الشهير "فرّق تسُد"، فقسّمت البلاد إلى دويلات ومناطق حكم ذاتي، وتعاملت مع الأقليات القومية والدينية والمذهبية كجماعات أو كيانات منفصلة عن الشعب السوري، معتمدةً سياسة تمزج الاستيعاب وكسب الولاء، مع الاستخدام السياسي والعسكري لهذه الجماعات في مواجهة عموم السوريين، لاسيما ذوي التوجّه العروبي والمناهض للانتداب.

وينطبق هذا على الأكراد أيضًا، حيث شجّعتهم فرنسا على التمايز عن بقية السوريين، واستقطبت شبابهم، شأن غيرهم من أبناء الأقليات، للتجنيد في قواتها العسكرية والأمنية، مثل قوات الشرق الخاصة التي شكّلتها لقمع الثورات الوطنية، ومنحت امتيازات لبعض زعماء العشائر الكردية لمساعدتها في ضبط الأمن. وعند فشل ثورة الشيخ سعيد بيران المسلّحة في تركيا عام 1925، سمحت فرنسا للأكراد الذين نزحوا إلى سوريا بالاستقرار في منطقة الجزيرة، لكنها فرضت رقابة عليهم كي لا يقوموا بأي نشاط يفسد علاقاتها مع تركيا.

عانى الأكراد السوريون من سياسات التهميش والإقصاء طيلة عقود الحكم البعثي، لأسباب أيديولوجية وأمنية، إلا أنهم استطاعوا ترسيخ حضورهم السياسي والعسكري بعد الثورة السورية عام 2011، فأسسوا سلطة حكم ذاتي شملت محافظات الجزيرة السورية (الرقة والحسكة ودير الزور)، بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD

أسّس الفرنسيون مركزًا إداريًا وعسكريًا رئيسيًا في القامشلي، لتكون قاعدة رئيسية لهم في منطقة الجزيرة السورية، فاجتذبت المدينة الجديدة أعدادًا كبيرة من الأكراد والأقليات القومية الأخرى في المنطقة. وبعد توقيع معاهدة عام 1936 السورية الفرنسية التي تمهّد للاستقلال، وقعت اضطرابات في "إقليم الجزيرة" على خلفية حراك محلّي قاده سياسيون ومثقفون كرد ومسيحيون، يدعمهم بعض ممثلي سلطة الانتداب، لإعاقة عملية دمج الجزيرة إداريًا بحكومة دمشق[2]، ذلك أنّ الجزيرة السورية الكبرى (الرقة ودير الزور والحسكة) كانت "محل مشاريع إثنية فرنسية لتشكيل كيانات بدوية وكردية وكلدو – آشورية"، ودمجتها فرنسا ضمن مشروع واحد في أواسط الثلاثينات "لتقويض الحكم الوطني (1936-1946) الذي انبثق عن المعاهدة الفرنسية - السورية"[3].

ونتيجة الظروف الدولية وجهود القوى الوطنية، والتي ضمّت في صفوفها شخصيات سياسية كردية، استقلّت سوريا موحّدة، باسم الجمهورية السورية، في أبريل/ نيسان 1946.

المسألة الكردية بين مرحلة الاستقلال وحكم البعث

هيمنت القومية العربية على تفكير رجالات الاستقلال والطبقة السياسية السورية عمومًا، واتجهوا نحو إسباغ هوية قومية عربية على البلاد، تتجاهل التنوّع القومي في المجتمع السوري. لم تعترف الحكومات الوطنية المتعاقبة بالأكراد أو غيرهم كجماعات قومية، بل عدّت الشعب السوري بأسره "جزءًا من الأمة العربية"، وثُبّتت العبارة في مواد دستورية. ومع ذلك، واصل الأكراد نضالهم السياسي، وتشكّل أول حزب كردي في سوريا عام 1957، هو الحزب الديمقراطي الكردي، لكنّه حُلّ كغيره من الأحزاب، وتعرّض قادته للاعتقال والمحاكمة، بعد وحدة سوريا ومصر وقيام الجمهورية العربية المتحدة (1958 - 1961) برئاسة جمال عبد الناصر.

ضيّقت السياسات العروبية والقمعية لدولة الوحدة على النشاط السياسي والثقافي الكردي، واستمرّ ذلك بعد الانفصال. والضباط "الانفصاليون" الذين أنهوا الوحدة، واتهمتهم الدعاية الناصرية بالعداء للعروبة هم من أدخل صفة "العربية" على "الجمهورية السورية"، الاسم الرسمي للبلد منذ استقلالها، فأصبحت "الجمهورية العربية السورية"، وفق الدستور المؤقت الذي أصدروه سنة 1961، وحافظت الدساتير اللاحقة على التسمية من دون تعديل. وحكومتهم هي المسؤولة عن "الإحصاء الاستثنائي" الذي أسّس لمظلومية إضافية عانى منها أكراد سوريا، وهي مشكلة "أجانب الحسكة" أو الأكراد المكتومين. ففي أغسطس/ آب 1962، "أجرت الحكومة تعدادًا سكّانيًا في محافظة الجزيرة، في ظروف مثيرة للجدل، جُرّد بموجبه، وفقًا لبعض التقديرات، 120 ألف كردي من الجنسية السورية. وبعد أكثر من أربعة عقود، قُدّر أنّ أكثر من 300000 من الأكراد من أصل سوري يعانون آثار هذا التعداد التمييزي"[4].

نظام البعث/ الأسد والمسألة الكردية

في مارس/ آذار 1963 وصل حزب البعث العربي الإشتراكي إلى السلطة بانقلاب عسكري. وفي العام التالي صدر دستور مؤقّت عزّز الصبغة العروبية لسوريا وفق إيديولوجيا البعث، فجاء في المادة الأولى "القطر العربي السوري جمهورية ديمقراطية شعبية اشتراكية ذات سيادة وهو جزء من الوطن العربي. الشعب العربي في سورية جزء من الأمة العربية يؤمن بالوحدة ويناضل في سبيل تحقيقها".

اصطبغت سياسات الحكم البعثي بأيديولوجيته العروبية، واتخذ إجراءات تمييزية ضدّ الأكراد ترجمةً لهذه السياسة، بعضها ينسجم مع توصيات تضمّنتها وثيقة صدرت في الأشهر الأولى من حكم البعث، بعنوان "دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الاجتماعية، السياسية"، أعدها الضابط محمد طلب هلال، مسؤول شعبة الأمن السياسي في الجزيرة آنذاك، وشملت جوانب أمنية وثقافية واقتصادية، بهدف التضييق على السكان الأكراد. كان من أشهر تجلياتها ما بات يعرف لاحقاً بـ"الحزام العربي"، وهدفه، حسب الوثيقة، "جعل الشريط الشمالي للجزيرة منطقة عسكرية كمنطقة الجبهة، بحيث توضع فيها قطعات عسكرية مهمتها إسكان العرب، وإجلاء الأكراد، وفق ما ترسم الدولة من خطة. وإنشاء مزارع جماعية للعرب الذين تُسكِنهم الدولة في الشريط الشمالي"[5].

عيّنت القيادة البعثية الضابط هلال محافظًا للحسكة عام 1965، وبدأت التفكير في تطبيق فكرة الحزام العربي بالتزامن مع البدء بمشروع سدّ الفرات. وبين أواخر الستينات وبداية السبعينات جرى نقل آلاف الأسر العربية التي غمرت بحيرة سد الفرات قراها وأراضيها، وعُرفوا باسم "فلاحي الغمر"، للسكن في المناطق الشمالية من الجزيرة. وبلغ عدد قرى "الحزام العربي" أكثر من أربعين قرية، "وروعي في قراه وضع قرية عربية بين كل قريتين كرديتين أو ثلاث"[6].

على الصعيد السياسي، ظهرت أحزاب كردية جديدة في سوريا، نشأ معظمها نتيجة انشقاقات عن الحزب الديمقراطي الكردي، وذلك نتيجة تطور العلاقات السياسية والحزبية مع أكراد العراق، وتأثر الأكراد السوريين بالانقسامات التي طالت الحركة القومية الكردية في العراق، وكذلك نتيجة التنافس الداخلي. ويرى باحثون أنّ الأحزاب الكردية السورية، على اختلاف برامجها، تطمح عمومًا "في حل المسألة الكردية بالطرق الديمقراطية في إطار سيادة الدولة السورية. وانفرد عنها تيار المستقبل بالمطالبة في برنامجه السياسي بدولة مستقلة للأكراد، أو بإلحاق المناطق الكردية في سوريا بكردستان الكبرى"[7]. لكنها بقيت أحزابًا سرية، شأن الأحزاب السورية المعارضة التي لم تنضم إلى الجبهة الوطنية التقدمية، بقيادة حافظ الأسد وحزب البعث. وتعرّض النشطاء السياسيون الكرد للملاحقة والاعتقال على أيدي المخابرات. رغم ذلك، حافظ الأكراد على هويتهم الثقافية واللغوية وتسييس مجتمعهم من خلال النشاطات غير الرسمية.

اتخذت علاقة الأسد بالمسألة الكردية بعدًا إقليميًا جديدًا في الثمانينات، لأنّ عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني (PKK) الذي تأسس في تركيا أواخر السبعينيات، وأعلن سنة 1984 "الكفاح المسلح" في تركيا، انتقل إلى سوريا، وقاد منها عمليات حزبه ضدّ الأتراك الذين تشكّل المسألة الكردية عندهم أحد أهم محدّدات الأمن القومي في الداخل والخارج. وعمل نظام الأسد على توظيف علاقته مع حزب العمال في صراعه مع أنقرة، إذ لم تمنع سياسات النظام السوري التعريبية والقمعية تجاه الكُرد في سوريا أوجلانَ من التحالف مع النظام، الذي كان يصفه بالنظام التقدمي.

قاد عبد الله أوجلان عمليات حزبه ضدّ الأتراك من سوريا التي انتقل إليها في الثمانينات - غيتي
قاد عبد الله أوجلان عمليات حزبه ضدّ الأتراك من سوريا التي انتقل إليها في الثمانينيات - غيتي

في عام 1990 قرّر الأسد زيادة عدد مقاعد "مجلس الشعب" من 195 إلى 250 مقعدًا "لتوسيع تمثيل المستقلّين"، في إطار إصلاحات سياسية شكلية، وكان من المجموعات الفرعية ضمن المستقلين "ممثلو الأكراد القريبون من حزب العمال الكردستاني، المتحالف مع السلطة[8]، من دون تغيير يذكر في أوضاع أكراد سوريا. وبعد سنوات خضع الأسد لضغوط الأتراك، فأبعد أوجلان عن سوريا أواخر عام 1998، وانتهى به المطاف بعد أشهر معتقلاً في السجون التركية.

بعد موت حافظ الأسد وتوريث بشار الحكم لم يتغيّر واقع الأكراد. لكنّ حزبًا كرديًا جديدًا تأسس عام 2003، باسم حزب الاتحاد الديمقراطي/ PYD، شكّل امتدادًا لحزب العمال الكردستاني، بأدبياته التي تتبنى أفكار أوجلان، واستقطابه أنصار حزب العمال بين أكراد سوريا وتنظيمهم، حتى إنّ من مهام أعضاء الحزب، وفق نظامه الداخلي "النضال من أجل حرية القائد عبد الله أوجلان"[9].

استمرت علاقة الأكراد ونظام بشار الأسد متوترة، لا سيما في ظل حالة الترقّب والاحتقان المتنامية في الشارع السوري بعد الغزو الأميركي للعراق، وموقف أكراد العراق المرحّب به، وإسقاط نظام صدام حسين سنة 2003. وبلغت الأمور ذروتها في انتفاضة القامشلي، التي اندلعت يوم 12 مارس/ آذار 2004، وكانت شرارتها أحداث شغب في مباراة كرة قدم، بين جمهور نادي الفتوة القادم من دير الزور، وهم من أبناء العشائر العربية، وجمهور نادي الجهاد، ومعظمهم أكراد، على خلفية هتافات استفزازية ترتبط بالتطورات في العراق.

سرعان ما تحوّل شغب الملعب إلى أعمال عنف ومواجهات مع أجهزة الأمن، أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى، وامتدت الأحداث في الأيام التالية، فعمّت المظاهرات المناهضة للسلطة معظم مدن محافظة الحسكة، وامتدت لتشمل الأحياء والمناطق الكردية في حلب وريفها، وبعض أحياء دمشق، قوبلت جميعها من قوى الأمن بالرصاص الحي وحملات اعتقال عشوائية، وصدرت عشرات البيانات والنداءات من الأحزاب الكردية، والمعارضة السورية، والمنظمات الحقوقية، تركّز على إطلاق سراح المعتقلين، ووقف القمع الذي تمارسه أجهزة السلطة، وتدعوها إلى حل الأزمة سلميًا[10].

كان لحزب الاتحاد الديمقراطي دور فاعل في تلك الأحداث، حيث اعتُقِل بعض قادته، وبينهم من قضى تحت التعذيب. وفي العام التالي نظّم الحزب سلسلة احتجاجات، أسفرت عن مزيد من الاعتقالات، وهو ما تكرر في إثر مظاهرة نظّمها في القامشلي بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 2007، في إطار تفاعله مع المستجدات الأمنية بين الحكومة والأكراد في تركيا، والاحتجاج على تطوّر علاقات بشار الأسد مع الجانب التركي، وإطلاقه تصريحات مناهضة لتطلعات الأكراد، بعد زيارته الرسمية إلى تركيا[11].

الأكراد في الثورة السورية

تنامى دور "حزب الاتحاد الديمقراطي (ومن ورائه PKK) في المشهد السوري بعد الثورة. وكان من بين أسباب الهدوء النسبي الذي شهدته حلب في بدايات الثورة، قياسًا على دمشق، أن مشاركة أكراد المدينة بقيت محدودة لأسباب سياسية ترتبط بقوّة حزب العمال الكردستاني فيها[12]. في يونيو/ حزيران 2011، شارك الحزب في تأسيس "هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي"، قبل أن ينسحب منها لاحقًا، ويبتعد في خطه السياسي ومشروعه عن المعارضة السورية بشكل عام، ويواجه بعض فصائلها المسلحة لاحقًا.

في صيف 2012، سيطرت ميليشيا الحزب على المدن والبلدات ذات الثقل السكّاني الكردي بعد انسحاب قوات النظام منها، وشكّل جهازًا للشرطة (الأساييش)، وذراعًا عسكرية باسم "وحدات حماية الشعب" و"وحدات حماية المرأة". ورُفِعت صور أوجلان على المباني الحكومية، مكان صور الأسدَين (الأب والابن) ورموز نظام البعث. وبعد سلسلة خطوات تحضيرية، أعلن عن تأسيس "الإدارة الذاتية الديمقراطية" في 21 يناير/ كانون الثاني 2014، وشملت حينئذٍ ثلاث مقاطعات هي الجزيرة وكوباني وعفرين[13].

اصطبغت سياسات الحكم البعثي بأيديولوجيته العروبية، واتخذ إجراءات تمييزية ضدّ الأكراد ترجمةً لهذه السياسة، بعضها ينسجم مع توصيات تضمّنتها وثيقة صدرت في الأشهر الأولى من حكم البعث، بعنوان "دراسة عن محافظة الجزيرة من النواحي القومية، الاجتماعية، السياسية"

بدءًا من صيف العام 2014، اتسع نطاق الاعتماد الأميركي على المقاتلين الأكراد لمواجهة "تنظيم الدولة"، بدعم من التحالف الدولي الذي قادته واشنطن لمحاربة التنظيم المصنّف إرهابيًا. وتعاظمت أهمية دور الأكراد ومشروعهم الجديد في نظر الغرب بعد نجاحهم في قتال التنظيم، واستعادة المناطق التي كان يحتلها. يُشار إلى أنّ ذلك الجهد العسكري لم يقتصر على الأكراد، إذ انضمت إليهم مجموعات عسكرية من العرب والسريان وغيرهم، وشكّلوا في أكتوبر/ تشرين الأول 2015 "قوات سوريا الديمقراطية". وبعد نحو شهرين، عُقد المؤتمر التأسيسي لـ"مجلس سوريا الديمقراطية - مسد"، ونصت الوثيقة التأسيسية للمجلس أنه المرجعية والمظلة السياسية للإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية.

في المقابل، انتظمت مجموعة أخرى من الأحزاب الكردية ضمن المجلس الوطني الكردي، وتحالفت مع قوى المعارضة السورية الأخرى، ضمن ائتلاف قوى الثورة والمعارضة، وحظيت بدعم من تركيا وإقليم كردستان العراق. ومثلت أحزاب المجلس الوطني الكردي خطًا معارضًا لمشروع الإدارة الذاتية التي يقودها الاتحاد الديمقراطي المرتبط بحزب العمال، ولم تفلح محاولات توحيد الصف نظرًا لتباين المواقف بين فريقين كرديين، ترى تركيا في أحدهما خطرًا على أمنها القومي، في حين تدعم الفريق الآخر المنسجم مع سياساتها.

تعاظمت أهمية دور الأكراد ومشروعهم الجديد في نظر الغرب بعد نجاحهم في قتال تنظيم الدولة - غيتي
تعاظمت أهمية دور الأكراد ومشروعهم الجديد في نظر الغرب بعد نجاحهم في قتال تنظيم الدولة - غيتي

المسألة الكردية في سوريا الجديدة

بعد سقوط نظام الأسد، وتشكّل إدارة جديدة في دمشق، وسعيها إلى حل الفصائل المسلحة وفرض سلطتها على الأراضي السورية كافة، توجّهت الأنظار إلى مناطق الإدارة الذاتية وقسد، نظرًا لتعقّد هذا الملف بحكم علاقة قسد والولايات المتحدة، ودعم تركيا للسلطة السورية الجديدة، وتباين المقاربات في شأن المسألة الكردية بينهما.

وبعد نحو ثلاثة أشهر، تخللتها اشتباكات عسكرية محدودة، وجولات من المفاوضات، توصّل رئيس الجمهورية للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي، إلى اتفاق جرى توقيعه في قصر الشعب بدمشق، يوم 10 مارس/ آذار 2025.

يأتي هذا التطور السياسي والأمني الكبير على الصعيد الوطني في ظروف دقيقة تمرّ بها البلاد، إثر الفتنة التي أثارتها مجموعات من فلول النظام السابق، بالاعتداء على عناصر الأمن العام، والعملية العسكرية التي أطلقتها السلطة لملاحقة المعتدين، وما رافقها من فوضى أمنية، وجرائم طائفية ارتكبتها "فصائل غير منضبطة" في الساحل السوري، أثارت ردود فعل دولية مستنكرة، وتوعّدت الحكومة بمحاسبة مرتكبيها.

ويقضي الاتفاق بدمج المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا كافة ضمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز. ونصّ على وقف إطلاق النار على الأراضي السورية كافة، وعودة المهجرين السوريين كافة إلى بلداتهم وقراهم، ورفض دعوات التقسيم، وخطاب الكراهية، ومحاولة بث الفتنة بين مكونات المجتمع السوي كافة، وضمان جميع حقوق السوريين والمشاركة في العملية السياسية، ومؤسسات الدولة كافة بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية. وأكّد أنّ المجتمع الكردي مجتمع أصيل، وتضمن الدولة السورية حقه في المواطنة، وجميع حقوقه الدستورية". وأكد البيان أن اللجان التنفيذية ستعمل على تطبيق الاتفاق بما لا يتجاوز نهاية العام الحالي[14].

تعليقات السوريين على وسائل التواصل تشي بالارتياح لهذه الخطوة، والأمل بنجاح الإجراءات التنفيذية في جعل بنود هذا الاتفاق واقعًا ملموسًا، يؤسس لمرحلة جديدة من الشراكة الوطنية الحقيقية، بما يخدم تطلعات الشعب السوري في الاستقرار والازدهار والعيش الكريم.


المراجع


[1] تفاصيل  وافية عن مواقف الدول المعنية، وعن سير المفاوضات والاتفاقيات في: م.س. لازاريف، المسألة الكردية (1917-1923)، ترجمة د. عبدي حاجي، الطبعة الأولى (بيروت: دار الفارابي، 1981).
[2] للمزيد يُنظر: فيليب خوري، سوريا والانتداب الفرنسي، الطبعة العربية الأولى (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1997). ص 582 وحتى 591.
[3] فريق باحثين، مسألة أكراد سوريا الواقع – الأسطرة – التاريخ، الطبعة الأولى (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013). ص20
[4] كريم أتاسي، سوريا قوّة الفكرة المشروع الوطني والهندسات الدستورية للأنظمة السياسية، ترجمة معين رومية، الطبعة الأولى (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2022). ص245
[6] فريق باحثين، مسألة أكراد سوريا الواقع – الأسطرة – التاريخ. ص41
[7] المصدر نفسه، ص83
[8] محمد جمال باروت، العقد الأخير من تاريخ سوريا، الطبعة الأولى (بيروت: المركز العربي للدراسات وبحوث السياسات، 2012). ص162
[9]يمكن الاطّلاع على "النظام الداخلي" في الموقع الرسمي للحزب عبر الرابط.
[10] تفاصيل وافية في: ب. علي، أحداث القامشلي آذار 2004 من المؤامرة إلى الحركة الشعبية السلمية من منشورات لجنة الثقافة والإعلام لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا – يكيتي (دون رقم الطبعة وتاريخ ومكان النشر)، ويتضمن مئات الوثائق، من بيانات سياسية وتقارير حقوقية وإعلامية.
[11] المؤسسة الإعلامية في منظومة المجتمع الكردي في غرب كردستان: " 2007 عامٌ طويت صفحته بختم القتل و الاعتقال "، على الرابط
[12] محمد جمال باروت، العقد الأخير من تاريخ سوريا، ص 381
[13] في آذار (مارس) 2018خرجت عفرين عن سيطرة "الإدارة الذاتية" بعد "عملية غصن الزيتون" لتصبح بيد القوات التركية وميليشيات سورية تابعة لها.
تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي