في ستينيات القرن الماضي، استُخدم مصطلح "مثلث برمودا" لأول مرة في مجلة "أرغوسي". ومنذ ذلك الحين، أسرت أسطورته العالم.
إلا أنّ تاريخه الحافل بحالات الاختفاء المُحيّرة والظواهر الغريبة الأخرى أقدم بكثير، حتى أنّ المستكشف كريستوفر كولومبوس أبلغ عن بعض الوقائع المقلقة أثناء مروره عبر "مثلث برمودا" في طريقه إلى الأميركتين.
ففي عام 1881 مثلاً، كانت سفينة "إلين أوستن" تُبحر من ليفربول إلى الولايات المتحدة، عندما صادفت سفينة أخرى، لكنّها كانت مهجورة. فقرّر القبطان إنقاذها وحمولتها، وأرسل فرقة صغيرة من الرجال للاستيلاء عليها.
خلال الليل، ابتعدت السفينتان عن بعض. وفي الصباح، وجد القبطان السفينة مهجورة من جديد، حتى من دون أي أثر لرجاله.
كانت هذه مجرد واحدة من القصص الغريبة العديدة التي ظهرت في منطقة المحيط المعروفة باسم "مثلث برمودا". فما هو مثلث برمودا تحديدًا؟ وهل هو حقيقي؟ وإن كان كذلك، هل هو خطير؟
ما هو مثلث برمودا وأين يقع؟
الإجابة على سؤال "ما هو مثلث برمودا" يجب أن نبدأ بـ "أين يقع مثلث برمودا".
ولكن كما هو الحال مع العديد من الأمور المتعلّقة بهذا الامتداد الغريب من المحيط، فإن المعالم الدقيقة للمنطقة غامضة إلى حد ما.
وفي هذا السياق، يوضح الكاتب فينسنت غاديس الذي صاغ المصطلح في مقالته "مثلث برمودا القاتل" لمجلة أرغوسي في فبراير/ شباط 1964، أنّ المثلث نفسه يتشكّل بين نقطتين في برمودا بولاية فلوريدا وسان خوان في بورتوريكو، وهي منطقة تُغطّي مساحة شاسعة تبلغ حوالي 1294995 كيلومتر مربّع (500000 ميل مربع) في المحيط الأطلسي..
لكنّ آخرين وصفوا "مثلث برمودا" بأنّه أكبر بكثير. ووفقًا لسلطة التاريخ والتراث البحري الأميركية، تصل مساحته إلى أكثر من 3884980 كيلومتر مربّع (1.5 مليون ميل مربع).
وكتب غاديس: "هذه المنطقة ليست معزولة بأي حال من الأحوال. فسواحل فلوريدا وكارولينا مكتظّة بالسكان، وكذلك الجزر المعنية. كما أنّ المسافات البحرية قصيرة نسبيًا. ليلًا ونهارًا، هناك حركة مرور عبر الممرات البحرية والجوية. والمياه خاضعة لدوريات مكثّفة من قبل خفر السواحل والبحرية والقوات الجوية. ومع ذلك، فإن هذه المنطقة المحدودة نسبيًا هي مسرح لحالات اختفاء تتجاوز بكثير قوانين الصدفة".
وأضاف غاديس: "يؤكد مثلث برمودا حقيقة أنه على الرغم من الأجنحة السريعة وصوت الراديو، لا يزال لدينا عالم كبير بما يكفي بحيث يمكن للرجال وآلاتهم وسفنهم أن يختفوا من دون أن يتركوا أثرًا".
تاريخ قديم من حوادث الاختفاء
ويعود تاريخ الأحداث الغريبة في هذا الجزء من المحيط الأطلسي إلى زمن كريستوفر كولومبوس. فقد وصف المستكشف رؤيته لكرة نارية غريبة تسقط في البحر أثناء سفره عبر مثلث برمودا في القرن الخامس عشر. ودوّن في سجل سفينته قراءات غير منتظمة للبوصلة في المنطقة.
منذ ذلك الحين، اختفى كثيرون مع سفنهم أو طائراتهم في مثلث برمودا، الذي يُعرف أيضًا، وفقًا لصحيفة "نيويورك تايمز"، بأسماء مثل "مثلث الشيطان"، و"ليمبو الضائعين"، و"منطقة الشفق"، و"بحر هودو".
وبالفعل، اختفت في هذه المساحة البحرية بغضّ النظر عن مساحتها، أكثر من 50 سفينة و20 طائرة؛ والكثير منها في ظروف غريبة للغاية.
ومن بين كل السفن التي اختفت في مثلث برمودا، استحوذت سفينة واحدة على خيال العامة منذ فترة طويلة، وهي سفينة "يو إس إس سايكلوبس" (USS Cyclops) التي اختفت عام 1918.
كانت سفينة "سايكلوبس" تُسافر بين البرازيل والولايات المتحدة، وعلى متنها حمولة 10800 طن من خام المنغنيز، وعلى متنها حوالي 300 شخص بين ركاب وأفراد الطاقم. في مارس/ آذار 1918، اختفت السفينة فجأة دون أن تُرسل نداء استغاثة أو ترد على أي من الرسائل اللاسلكية الواردة من السفن القريبة.
وفي وصفها للحادث، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أنّ "الطقس في المنطقة التي كان من المقرر أن تعبرها سفينة سايكلوبس، لم يكن سيئًا بما يكفي لتبرير الاعتقاد بأنّ سفينة الفحم غرقت في عاصفة".
وأضافت: "لو حاصرتها عاصفة، لكان من الممكن إرسال نداءات استغاثة لاسلكية، إلا إذا توقّف برج اللاسلكي فجأة".

وحتى الآن، لا أحد يعلم بالضبط ما حدث لسفينة "سايكلوبس". وتفاوتت التحليلات بين أنّها دُمّرت بهجوم ألماني، أو أغرقها أخطبوط عملاق، أو تحطّمت خلال تمرّد فاشل ضد قبطان السفينة.
ولم يُعثر على حطام السفينة العملاقة "سايكلوبس" أبدًا.
"الرحلة 19" وحرّاس منارة
غير أنّ حوادث الاختفاء الغامضة لم تقتصر على السفن فقط.
ففي ديسمبر/ كانون الأول 1945، حلّقت خمس طائرات تابعة للبحرية الأميركية من فورت لودرديل إلى مثلث برمودا في مهمة تدريبية عُرفت بـ"الرحلة 19". لكنّها اختفت على الفور.
وما زاد الأمر غرابة، اختفاء إحدى طائرات الإنقاذ التي أُرسلت للبحث عنهم. وحينها، أفاد مسؤولون في البحرية أنّ الأمر "كان كما لو أنّهم طاروا إلى المريخ".

في حادثة أخرى مُرعبة، جنح المركب الشراعي "كارول أ. ديرينغ" (Caroll A. Deering) في ولاية كارولاينا الشمالية عام 1921 من دون طاقمه. ومن المُثير للدهشة أنّهم تركوا وراءهم وجبة طعام مُجهّزة بالكامل في المطبخ، كما لو أنّهم كانوا على وشك تناول الطعام قبل اختفائهم.
ولعلّ إحدى أغرب حالات الاختفاء في مثلث برمودا حدثت عام 1969، عندما اختفى فجأة اثنان من حرّاس منارة "إسحاق العظيم" في جزر الباهاما من دون أن يتركا أثرًا.
وعلى الرغم من أن البعض عزوا اختفاءهما إلى عاصفة مرت بالمنطقة، إلا أنّ آخرين يعتقدون أنّ القوى الغامضة المزعومة لـ"مثلث برمودا" مسؤولة عن اختفائهم، ما جعل هذه "الدوامة الخارقة للطبيعة" نقطة محورية لرهاب البحر في جميع أنحاء العالم لعقود من الزمن.
لماذا يُعتبر "مثلث برمودا" خطيرًا؟
طُرحت العديد من النظريات لتفسير سبب اختفاء العديد من السفن والطائرات وحتى حراس المنارات، في هذا الجزء من المحيط الأطلسي خلال السنوات الـ500 الماضية.
وتُشير الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA)، إلى أنّ معظم العواصف الاستوائية والأعاصير في المحيط الأطلسي تمرّ عبر "مثلث برمودا"، ما يجعله منطقة خطرة للغاية على السفن (خاصةً قبل ظهور التنبؤات الجوية الحديثة). علاوة على ذلك، يُمكن لتيار الخليج المتقلّب أن يُسبب تغيرات عنيفة في الأحوال الجوية.

وتفترض نظرية أخرى أنّ "الأمواج المارقة" وهي أمواج هائلة قد يصل ارتفاعها إلى 31 مترًا، يُمكن أن تبتلع سفنًا مثل "سايكلوبس" بسهولة. وكما ذكرت موسوعة "بريتانيكا"، فإن العواصف في "مثلث برمودا" تأتي من اتجاهات متعدّدة، ما يزيد من احتمالية حدوث هذه الأمواج.
وتُشير نظرية أخرى إلى أنّ سبب جميع حالات الاختفاء يكمن في أعماق المحيط.
وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية أنّ بعض العلماء يعتقدون أن رواسب ضخمة من غاز الميثان قد تكون وراء ظاهرة "مثلث برمودا". وقد تُؤدي ثورات هذا الغاز إلى تحريك مياه البحر، ما يتسبّب في غرق السفن. ولأنّ هذا الغاز قابل للاشتعال، فقد يصطدم بطائرة في الجو ويتسبّب في انفجارها.
ومن ناحية أخرى، قد تكون حالات الاختفاء ناجمة عن شيء آخر تمامًا.
أجسام طائرة مجهولة ووحوش البحر
ونظرًا للعدد الغريب من حالات الاختفاء في "مثلث برمودا"، فربما لا يكون من المستغرب أن يقترح البعض أنّه قد يكون هناك تفسير خارق للطبيعة لهذه الظاهرة.
ويعتقد البعض أنّ الكائنات الفضائية ربما تكون قد اختطفت البحارة والطيارين المفقودين. وتُفيد هذه النظرية بأنّ الكائنات الفضائية استخدمت "مثلث برمودا" بوابة إلى الأرض، وأنّ الفضائيين يستخدمون المختطفين والسفن لفهم البشرية بشكل أفضل.
وتُشير نظرية مماثلة إلى أنّ هذا الجزء من المحيط قد يكون نوعًا من ثقب دودي، بينما افترض آخرون أنّ وحش البحر قد يكون مسؤولًا عن حالات الاختفاء غير القابلة للتفسير للسفن والطائرات.
وفي هذا الإطار، ذكرت مجلة "سانتا في" أنّه في العادة يُعثر على دلو خشبي أو سترة نجاة من الفلين بعد غرق سفينة مفقودة، لكنّ الأمر لم يكن كذلك مع سفينة "سايكلوبس"، مضيفة: "لقد اختفت فجأةً كما لو أن وحشًا بحريًا عملاقًا قد أمسك بها، بكل ما فيها من رجال، وألقى بها في أعماق المحيط".
ولعلّ أغرب النظريات هي أنّ مدينة "أتلانتس" المفقودة قد تكون لها علاقة بمثلث برمودا. وتقترح هذه النظرية أنّ المدينة الغارقة تستخدم "طاقات بلورية" لإسقاط السفن والطائرات.
لكنّ الخبراء رفضوا أفكارًا كهذه، واعتبروها "هراء".
هل مثلث برمودا حقيقي؟
وفقًا للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، لا يوجد أي شيء خارق للطبيعة في مثلث برمودا. في الواقع، تُشير الإدارة إلى أنّ مثلث برمودا غير موجود رسميًا.
وتقول الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي: "لا توجد خرائط رسمية تُحدّد حدود مثلث برمودا. ولا يعترف المجلس الأميركي المعني بالأسماء الجغرافية بمثلث برمودا كاسم رسمي، ولا يحتفظ بملف رسمي للمنطقة".
علاوة على ذلك، فإنّ ألغاز بعض السفن التي قيل إنّها اختفت في المنطقة، قد حُلّت مثل "سفينة إس إس كوتوباكسي" (SS Cotopaxi). وعُثر على حطام "كوتوباكسي" بعد قرابة قرن من اختفائها الغامض خارج مثلث برمودا. ويقول الخبراء إنّها غرقت ببساطة أثناء عاصفة، ولا علاقة لأي وحوش بحرية أو كائنات فضائية باختفائها.
ما هو مثلث برمودا إذًا؟
في نهاية المطاف، يبدو أنّ مثلث برمودا ليس أكثر من مساحة بحرية، لا يزيد خطرها عن أي مساحة أخرى.
فوفقًا للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي، "لطالما كان المحيط مكانًا غامضًا للبشر، وعندما يتعلّق الأمر بسوء الأحوال الجوية أو سوء الملاحة، فقد يكون مكانًا مميتًا للغاية".
وتضيف: "لا يوجد دليل على حدوث حالات اختفاء غامضة بتواتر أكبر في مثلث برمودا منه في أي منطقة أخرى واسعة ومأهولة بالسكان في المحيط".