للمرة الثانية خلال ولايتيه الرئاسيتين، يبدأ الرئيس الأميركي دونالد ترمب أولى زياراته الخارجية بالسعودية التي يصلها في 13 من الشهر الحالي، على أن يزور بعدها دولتي قطر والإمارات.
وتعتبر زيارة ترمب إلى الرياض الأولى "سياسيًا" رغم سفره إلى روما الشهر الماضي للمشاركة في جنازة البابا فرنسيس، في زيارة طارئة لم يكن مخططًا لها.
ويسعى ترمب إلى بحث عدد من الصفقات الضخمة مع القادة السعوديين، وقال بأن على الرياض "زيادة" حزمة استثماراتها في بلاده إلى تريليون دولار من 600 مليار دولار مبدئيًا.

وقبل نحو عشرة أيام من وصوله إلى الرياض (2 مايو/ أيار)، قالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إن وزارة الخارجية أقرت إمكانية بيع صواريخ جو-جو من طراز إيه.آي.إم-120سي-8 المتطورة متوسطة المدى للسعودية، بالإضافة إلى وسائل الدعم ذات الصلة مقابل 3.5 مليار دولار، كما تستعد واشنطن لتقديم حزمة أسلحة للسعودية بقيمة تزيد عن 100 مليار دولار خلال زيارة ترمب.
سلاح.. واستثمار تريليون دولار
وأكد ترمب مرارًا منذ مارس/ آذار، أن زيارة السعودية تهدف إلى توقيع اتفاقيات تتيح للرياض استثمار أكثر من تريليون دولار في الاقتصاد الأميركي، من ضمنها صفقات تشمل معدات عسكرية، مشيرًا إلى إمكانية توقيع اتفاقيات مشابهة مع قطر والإمارات، وقال إن تلك الشراكات قد تخلق "فرص عمل هائلة خلال هذين اليومين أو الثلاثة".
ولا تقتصر الزيارة على الاقتصاد الذي يوليه الرئيس الأميركي أولوية قصوى بل تشمل بحث قضايا إقليمية ودولية شائكة، من بينها الأوضاع في قطاع غزة وملف إيران النووي والحوثيين، إضافة إلى الصراع الروسي الأوكراني الذي باتت الرياض تلعب دورًا كبيرًا في جهود واشنطن لحل سياسي له، باستضافة مباحثات غير مباشرة تضم أوكرانيين وروسًا وأميركيين على أراضيها.
وكما لا تقتصر مباحثات ترمب على القضايا الثنائية مع الرياض، فإن زيارته لا تقتصر على لقاء قادة السعودية بل تشمل قمة مشتركة مع قادة دول مجلس التعاون الخليجي أيضًا.
زيارة ترمب عام 2017
وزار ترمب المملكة العربية السعودية في مايو/ أيار 2017، وكانت أول زياراته الخارجية في ولايته الأولى، ووقّع خلالها مع العاهل السعودي الملك سلمان صفقات تعاون عسكري ودفاعي وتجاري بنحو 460 مليار دولار.

ووُصف استقبال ترمب في الرياض آنذاك بأنه غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية، إذ كان العاهل السعودي في مقدمة مستقبلية عند باب الطائرة، وامتلأت شوارع العاصمة السعودية بالأعلام السعودية والأميركية، وبصور الملك سلمان وترمب وإلى جانبهما شعار الزيارة "العزم يجمعنا".
كما أطلقت المدافع نيرانها وقامت الطائرات بطلعات جوية احتفاء بالضيف الأميركي، واكتظ قصر اليمامة بالشخصيات السعودية الرفيعة التي كانت في استقبال ترمب وعقيلته ميلانيا وابنته إيفانكا وزوجها جاريد كوشنر، وفيها قلّد العاهل السعودي الرئيس ترمب، قلادة الملك عبد العزيز التي تُعدّ أهم الأوسمة في البلاد.
وعقد ترمب خلال زيارته تلك ثلاث قمم إحداها مع العاهل السعودي، والثانية مع زعماء دول مجلس التعاون الخليجي، والثالثة مع زعماء نحو خمسين دولة عربية وإسلامية.

ووصف ترمب اليوم الأول من زيارته للرياض بأنه "يوم رائع"، مضيفًا: "مئات مليارات الدولارات من الاستثمارات في الولايات المتحدة: ووظائف، وظائف، وظائف".
إسرائيل الغائبة
وعلى خلاف زيارته الأولى إلى السعودية عام 2017 التي أعقبتها زيارته إلى إسرائيل، فإنها تغيب (أقلّه حتى الآن) من محطات زيارته الحالية التي تأتي وسط تدهور خرج إلى العلن في علاقات ترمب مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وبحسب وسائل إعلام إسرائيلية فإن ترمب قطع الاتصالات مع نتنياهو بسبب شكوكه بأن الأخير "يتلاعب به".
وتحدثت صحيفة "يسرائيل هيوم" عن تراجع كبير في العلاقات الشخصية، وخيبة أمل متبادلة بين الطرفين، في حين أشارت إذاعة الجيش الإسرائيلي إلى عزم ترمب المضي قدمًا في خطوات متعلقة بالشرق الأوسط من دون انتظار نتنياهو، ما قد يساهم في خلق تباين بينهما.

واستبق ترمب زيارته إلى الرياض بإرسال عدة رسائل بالغة الوضوح على أن استثناء تل أبيب من زيارته يترافق مع تجاوزها أيضًا في الملفات التي سيبحثها في المنطقة.
ومن هذه الرسائل ما يتعلق بالسعودية نفسها التي كانت الإدارة الأميركية السابقة تربط أي تقدم قد يُحرز في محادثات التعاون النووي المدني مع الرياض بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وهو ما لم تعد تشترطه إدارة ترمب في تقارير حرصت واشنطن على تسريبها قبل وصوله إلى المنطقة.
والأمر نفسه فعله الرئيس الأميركي في ملف اليمن، حيث فاجأ إسرائيل بوقف استهداف جماعة الحوثي ما دامت لا تستهدف السفن الأميركية، وهو ما فعله سابقًا في مفاوضاته مع طهران، وفي تسريبات يمكن اعتبارها جسّ نبض في ملف العدوان على قطاع غزة، وآخرها فكرة قيام واشنطن بإدارة قطاع غزة.
تعاون نووي بدون تطبيع
وكانت وكالة رويترز نقلت الجمعة عن مصدرين وصفتهما بالمطلعين أن واشنطن لم تعد تطالب الرياض بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل كشرط لإحراز تقدم في محادثات التعاون النووي المدني.
ولا يُعرف ما إذا كان هذا للضغط على إسرائيل التي أصبحت إدارة ترمب تتذمر من عدم تجاوبها مع مقترحاتها للتوصل إلى حلول تتبناها بخصوص رفع الحصار عن غزة، أم أنها ستكون تدشينًا لفصل التعاون العسكري مع السعودية الذي يدرّ عشرات المليارات على الشركات الأميركية عن التطبيع مع إسرائيل.

ورغم ذلك، لا يُعتقد أن ترمب سيتراجع عن مساعيه لضم السعودية للاتفاقيات الإبراهيمية، وإن كانت هذه الاتفاقيات تراجعت على سُلّم أولويات إدارته في هذه الفترة، فقد توقّع في مقابلة مع مجلة تايم في نهاية أبريل/ نيسان الماضي انضمام السعودية إلى الاتفاقيات التي توسطت فيها إدارته في ولايته الأولى.
وكانت المحادثات بشان التعاون النووي جزءًا من اتفاق أميركي سعودي أوسع نطاقًا جرى ربطه بالتطبيع في ولاية الرئيس السابق جو بايدن، مقابل إبرام الرياض معاهدة دفاعية مع واشنطن.
وكانت محادثات الرياض وواشنطن تتقدّم قبل أن تشنّ إسرائيل عدوانها غير المسبوق على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إذ أوقفت السعودية هذه المباحثات، وشدّدت على أنها لن تعترف بإسرائيل قبل الاعتراف بدولة فلسطينية، أو إيجاد مسار واضح يؤدي إلى قيامها.
ومع مجيء الإدارة الأميركية الجديدة، انتهجت واشنطن والرياض سبيلًا جديدًا ربما يكون من شأنه فصل تعاونهما النووي عن التطبيع مع إسرائيل.
وخلال زيارته إلى السعودية في أبريل/ نيسان الماضي صرّح وزير الطاقة الأميركي كريس رايت أن البلدين يمضيان في "مسار" نحو اتفاق نووي مدني، موضحًا أن الشراكة مع الرياض في هذا الأمر ستكون مرتبطة على نحو ما باتفاقية 123.
وتشير ما تُعرف باتفاقية 123 مع الرياض إلى المادة 123 من قانون الطاقة الذرية الأميركي عام 1954، وهي ضرورية للسماح للحكومة والشركات الأميركية بالعمل مع كيانات في السعودية لتطوير قطاع للطاقة النووية المدنية، وتحدّد المادة 123 معايير لمنع الانتشار من بينها تقييد عمليات تخصيب اليورانيوم.
وقال رايت إن السلطات السعودية لم توافق على المتطلبات التي يشترطها القانون الذي يحدّد تسعة معايير لمنع الانتشار النووي يجب على الدولة استيفاؤها، وتمنعها من استخدام التكنولوجيا لتطوير أسلحة نووية أو نقل مواد خطيرة إلى جهات أخرى.
وكان التقدم في المناقشات صعبًا في السابق لأن المملكة لم ترغب في توقيع اتفاق يستبعد إمكانية تخصيب اليورانيوم أو إعادة معالجة الوقود المستهلك، وهما مساران محتملان لصنع قنبلة نووية.
ولم يشر رايت إلى أي اتفاق أوسع نطاقًا مع المملكة، وهو ما كانت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن تسعى إليه ويتضمن اتفاقًا بشأن الطاقة النووية المدنية وضمانات أمنية على أمل أن يؤدي إلى تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل.
وبينما قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان إن بلاده ستسعى لتخصيب اليورانيوم وبيعه، شدّد وزير الطاقة الأميركي على أن توقيع اتفاقية بموجب المادة 123 سيكون شرطًا أساسيًا في أي اتفاق، ورغم ذلك فهناك عدة طرق لصياغة اتفاق يحقق أهداف البلدين، وقالت المصادر إن بين هذه الطرق اتفاقًا يُطلق عليه "الصندوق الأسود" لا يُتيح سوى لفريق أميركي الوصول إلى منشأة لتخصيب اليورانيوم على الأراضي السعودية.
مغازلة الخليج
وفي السياق حرص ترمب على ما يمكن وصفه بمغازلة دول الخليج قبل زيارة السعودية، قائلا إنه "سيتخذ قرارًا" بشأن التسمية الرسمية التي ستعتمدها الولايات المتّحدة للخليج، بعدما أفادت تقارير إعلامية بأنّه يعتزم إطلاق اسم "الخليج العربي" أو "خليج العرب" الذي تصرّ إيران على تسميته "الخليج الفارسي".
وردًّا على سؤال بشأن هذه التقارير الإعلامية، قال ترمب: "لا أريد أن أسيء لأحد. ولا أعلم إن كان هذا الأمر سيسيء لأحد". وأضاف: "سأحصل على إحاطة بهذا الشأن وسأتّخذ قرارًا"، مستذكرًا القرار الذي اتّخذه أخيرًا بتغيير اسم "خليج المكسيك" إلى "خليج أميركا".
مفاجآت أميركية وصدمات إسرائيلية
ثلاث مفاجآت كبرى صدمت رئيس الوزراء الإسرائيلي من الرئيس الأميركي تتعلق بالعدوان على غزة والاتفاق مع الحوثيين والمحادثات مع إيران، فقبل أيام قال ترمب إن بلاده ستوقف قصف الحوثيين بعد أن وافقوا على عدم تعطيل ممرات الشحن البحري.
وذكر ترمب في اجتماع مع رئيس الوزراء الكندي مارك كارني أن الحوثيين أعلنوا عدم رغبتهم في الاستمرار في القتال، مضيفًا: "قالوا: نرجوكم لا تقصفونا بعد الآن، ونحن لن نهاجم سفنكم. وسأقبل بوعدهم، وسنوقف قصف الحوثيين فورا".

وكان وقْع الإعلان ثقيلًا على تل أبيب لأن الاتفاق لا يشملها، وقال مهدي المشاط رئيس المجلس السياسي الأعلى للحوثيين: "لا تراجع عن إسناد غزة مهما كان الثمن"، في حين أكد محمد علي الحوثي عضو المجلس السياسي الأعلى للحركة إن وقف إطلاق النار مع واشنطن لا يشمل وقف الهجمات على إسرائيل.
وأمر ترمب في مارس/ آذار، وزارة الدفاع (البنتاغون) بتكثيف ضرباتها على الحوثيين، في عملية عُرفت باسم (رف رايدر) أو "الفارس الخشن"، ومنذ ذلك الحين، قال الجيش الأميركي إنه ضرب أكثر من ألف هدف، وقتل المئات من قوات الجماعة بالإضافة إلى بعض القادة العسكريين.
ولكن بعد ضربات أميركية مكثفة على مدى أسابيع، تمكّن الحوثيون من ضرب مطار بن غوريون في إسرائيل الأحد الماضي، ما أكد قدرتهم على الصمود.
ونفذت الجماعة أكثر من 100 هجوم على ممرات الشحن منذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
إدارة غزة وإدخال المساعدات
أما المفاجأة الثانية فتتعلق بالعدوان على قطاع غزة، مع تسريبات تتزايد عن استياء البيت الأبيض من عدم تجاوب نتنياهو مع خطط أميركية لتخفيف الحصار المضروب على القطاع وإدخال المساعدات الإنسانية، والمضي قدمًا في اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى مع حماس.
وكانت آخر هذه التسريبات الأربعاء الماضي، إذ قالت وكالة رويترز نقلًا عن خمسة أشخاص مطلعين إن الولايات المتحدة وإسرائيل ناقشتا إمكان قيادة واشنطن لإدارة مؤقتة في غزة بعد الحرب.

وأفادت المصادر بأن المشاورات "رفيعة المستوى" تركزت على تشكيل حكومة انتقالية برئاسة مسؤول أميركي، تشرف على غزة إلى أن يصبح القطاع منزوع السلاح ومستقرًا، وظهور إدارة فلسطينية قادرة على العمل.
وقالت المصادر إن المناقشات التي لا تزال أولية، تشير إلى أنه لن يكون هناك جدول زمني محدد لمدة بقاء إدارة من هذا القبيل بقيادة الولايات المتحدة، إذ سيعتمد الأمر على الوضع على الأرض، وشبّهت المصادر المقترح بسلطة التحالف المؤقتة في العراق التي أنشأتها واشنطن عام 2003، بعد وقت قصير من الغزو الذي قادته الولايات المتحدة والذي أطاح بصدام حسين.
وأضافت المصادر أن دولا أخرى ستُدعى للمشاركة في السلطة التي تقودها واشنطن في غزة، من دون تحديد هذه الدول، وقالت إن الإدارة ستستعين بتكنوقراط فلسطينيين، لكنها ستستبعد حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) والسلطة الفلسطينية.
المفاوضات مع إيران
كما فاجأ ترمب رئيس الوزراء الإسرائيلي بقراره الشهر الماضي الدخول في مفاوضات مع طهران. وكان التحوّل نحو المفاوضات مع إيران في أبريل/نيسان بمثابة صدمة لنتنياهو الذي سافر إلى واشنطن سعيًا للحصول على دعم ترمب لشن ضربات عسكرية على المنشآت النووية الإيرانية.
وذكرت المصادر أن نتنياهو علم قبل أقل من 24 ساعة من مؤتمر صحفي مشترك في البيت الأبيض أن المحادثات الأميركية مع إيران ستبدأ في غضون أيام.

ويقول كثيرون إن نتنياهو يرى أن هناك فرصة نادرة سانحة لضرب المواقع النووية الإيرانية، بعد أن أدت الحملات العسكرية العام الماضي إلى شلّ الدفاعات الجوية الإيرانية وتدمير ترسانة حزب الله الصاروخية، لكن واشنطن تعارض هذه الخطوة لعدة أسباب، أهمها مخاوف دول الخليج التي لا يمكن أن تتجاهلها واشنطن بسبب علاقاتها الاستراتيجية والاقتصادية الوثيقة في المنطقة.
ورغم ذلك أرسل الجيش الأميركي تعزيزات لقواته في الشرق الأوسط خلال الأسابيع القليلة الماضية، ونشرت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ست قاذفات من طراز (بي-2) في جزيرة دييغو غارسيا بالمحيط الهندي، كما أن للولايات المتحدة حاملتي طائرات في المنطقة.