يجلس أبو فارس على قارعة الرصيف ليستريح بعدما انتظر ساعات في طابور أمام مصرف حكومي في دمشق، دون الحصول على جزء ولو يسير من راتبه، حاله كحال سوريين كثر يختبرون المشقة ذاتها يوميًا بسبب نقص في السيولة تعانيه البلاد.
ويقول الموظف المتقاعد لوكالة فرانس برس: "أنا هنا منذ نحو أربع ساعات، ولم أستطع استلام راتبي بعد".
طوابير طويلة ولا أموال كافية
ويضيف أبو فارس (77 عامًا) أثناء انتظاره تحت أشعة الشمس مع عشرات آخرين أمام فرع المصرف التجاري الحكومي السوري وسط دمشق "هناك طوابير طويلة من الناس المنتظِرة، ولا أموال كافية في الصرافات الآلية".
وفي بلد يعمل في قطاعه العام نحو مليون و250 ألف شخص بحسب السلطات، يُضطر هؤلاء الموظفون للوقوف ساعات في طوابير أمام فروع المصارف الحكومية أو أجهزة الصراف الآلي. ويأخذ بعضهم إجازة من عملهم لقضاء يوم كامل في محاولة لسحب جزء بسيط من رواتبهم، كما ينسحب ذلك على المودعين الراغبين في سحب بعض من مدّخراتهم بالليرة السورية.
ويوضح أبو فارس: "هناك مرضى وكبار في السن، ولا نستطيع أن نبقى على هذه الحالة".
وعمّم البنك المركزي على المصارف الحكومية والخاصة الالتزام بسقف يومي بسحب 200 ألف ليرة (نحو 20 دولارًا) للفرد، يمكن رفعها حين تتوفر السيولة، بحسب موظفة في مصرف خاص.
وتضيف الموظفة لفرانس برس -طالبةً عدم كشف هويتها- "هناك نقص واضح في السيولة، وليس لدينا تحكم بكامل إيداعات مصرفنا في البنك المركزي"، موضحةً أنه "بالتالي نتحرك يوميًا مع عملائنا ضمن ميزانية محددة لا يمكن تجاوزها، ولهذا السبب أيضًا نغلق الصرافات مع انتهاء الدوام الرسمي".
وأمام كوة المصرف التجاري الحكومي، وقف نحو 300 شخص في طوابير متداخلة تتقدم ببطء، ومنهم من جلس على الأرض بعدما أتعبه طول الوقوف.
وتؤكد الموظفة الحكومية عفراء جمعة (43 عامًا) أنها تنفق الأموال التي تتمكن من سحبها، لدفع أجرة الطريق.
وتقول: "الأوضاع صعبة ونحن بحاجة لقبض رواتبنا وسحب ودائعنا بأسرع وقت ممكن، وليس مقبولًا أن ننتظر أيامًا كي نسحب مبالغ زهيدة".
وتُضيف: "نضطر لتأخير التزاماتنا حتى نحصل على أموالنا، وهذا الأمر ليس متاحًا دائمًا، والناس تطالبنا بالإيجارات وإغلاق الديون المتراكمة علينا".
تجفيف السيولة بالليرة السورية
وعقب اندلاع النزاع وفي ظل العقوبات الاقتصادية على الحكم السابق، باتت طباعة الأوراق النقدية السورية تتمّ حصرًا في روسيا التي كانت حليفة للأسد، ولجأ إليها مع تقدم الفصائل المعارضة إلى دمشق أواخر العام الماضي.
وبعد الإطاحة بالرئيس السوري، تلقت دمشق شحنة واحدة معلنة على الأقل من الأموال النقدية المطبوعة في روسيا.
وأفاد المصرف المركزي السوري وكالة الأنباء الرسمية "سانا" في فبراير/ شباط بوصول "مبالغ مالية من فئة الليرة السورية قادمة من روسيا"، من دون أن يكشف عن كميتها أو حجمها.
ويعزو الخبير الاقتصادي جورج خزام نقص الكتلة النقدية المتداولة إلى تعمّد الصرافين "تجفيف السيولة بالليرة السورية بهدف إحداث تقلبات سريعة في السوق وتحقيق أرباح سريعة".
ويوضح لوكالة فرانس برس: "كلما كانت كمية الأموال المتداولة بالليرة السورية بالأسواق قليلة، كلما زادت قدرة الصرافين على إحداث التقلب المطلوب في سعر صرف الدولار" عبر خفض العملة المحلية في سوق القطع، وتاليًا رفع قيمتها إزاء العملة الخضراء.
ومن بين الواقفين خارج المصرف التجاري الموظفة الحكومية منتهى عباس (37 عامًا) التي تتقاضى راتبًا قدره 500 ألف ليرة، ما يعادل نحو 50 دولارًا.
ووفق قيود السحب، تحتاج عباس إلى ثلاث محاولات لأخذ راتبها الشهري كاملًا.
وبعدما انتظرت السيدة التي تضع حجابًا أبيض اللون خمس ساعات، تمكنت من الحصول على 200 ألف ليرة على أن تكرر محاولة أخذ ما تبقى في اليوم التالي.
"الحياة باتت عبارة عن طوابير"
وتقول عباس: "هناك الكثير من الصرافات في دمشق، لكن ما يعمل منها هو عدد قليل، والسبب برأيي عدم وجود كميات كافية من الأموال"، مضيفةً: "حياتنا باتت عبارة عن طوابير".
وفرض المصرف المركزي في فبراير قيودًا على سحب الأموال النقدية من المصارف والصرافات الآلية، ما وضع السوريين أمام أزمة نقدية تضاف إلى سلسلة من المشكلات الاقتصادية التي يعانونها، موروثة في غالبها من حكم الرئيس بشار الأسد الذي أطاحته فصائل معارضة في ديسمبر/ كانون الأول.
وأنهك النزاع في سوريا الذي امتد 14 عامًا الاقتصاد المحلي، وزادت أزماته حدة عقوبات فرضتها دول عدة خصوصًا الغربية منها، على النظام السابق.
وقام بعض الأطراف، ومنهم الاتحاد الأوروبي، بتخفيف العقوبات عن دمشق، لكن ذلك لم ينعكس بعد بشكل ملموس على واقع السوريين، ويعد تحسين سعر صرف الليرة من أبرز التحديات المالية في سوريا بعد تدهور قيمتها مقابل الدولار.
وضاعفت هذه الأزمة أعباء السوريين في بلد يعيش 90% من سكانه تحت خط الفقر، وفقًا للأمم المتحدة.
وقبل اندلاع النزاع عام 2011، كان الدولار يساوي نحو خمسين ليرة، قبل أن تتهاوى العملة المحلية بشكل تدريجي وتفقد أكثر من 90% من قيمتها.
ويناهز سعر الصرف الرسمي في الآونة الأخيرة 10 آلاف ليرة مقابل الدولار، بينما كان يراوح عند مستوى 15 ألفًا في الأشهر التي سبقت إسقاط الأسد.