لا يُعرف مقر إقامة السفير السوري السابق لدى موسكو، بشار الجعفري، بعد استدعائه من قبل الخارجية السورية إلى المركز، ورفضه العودة إلى دمشق، وحصوله وأفراد عائلته على اللجوء في روسيا، لكن ما يُعرف أن موسكو، إذا صح خبر لجوء الجعفري، أصبحت تستضيف واحدًا من أوائل الانقلابيين على الرئيس السابق بشار الأسد فور فراره من سوريا فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي إلى موسكو التي منحته لجوءًا إنسانيًا.
وبهذا يتجاور الرئيس السابق مع من كان من أشد مؤيديه قبل أن ينقلب عليه، في مدينة واحدة، وربما في حي واحد.
وبحسب وسائل إعلام غربية فإن الأسد يقيم مع عائلته في شقة فاخرة في إحدى ناطحات السحاب في منطقة "موسكو سيتي"، غربي العاصمة الروسية، والشقة كما أوردت صحيفة "ذا تايمز" البريطانية من ضمن نحو 20 شقة فاخرة تمتلكها عائلة الأسد هناك.
وما ينطبق على الأسد (بشار) من رفاه عيش وثروات ضخمة قالت وسائل إعلام إنه نقلها إلى روسيا قبل فراره، قد لا ينطبق على الجعفري (بشار) الذي قد يختار حيًا آخر أقل تكلفة لإقامته وعائلته، ما يجعل من احتمال أن يلتقي البشّاران في أحد شوارع منطقة موسكو سيتي ضئيلًا، إضافة إلى أسباب أمنية قد تحول دون ذلك حتى لو أقاما في حي واحد.
معارضة الأسد بعد سقوطه
يشار إلى أن الجعفري ظل على رأس عمله سفيرًا لنظام الأسد لدى موسكو حتى تاريخ السابع من أبريل/ نيسان الجاري، حين أصدرت الخارجية السورية قرارًا يقضي بنقل سفيريها لدى روسيا والسعودية (بشار الجعفري، وأيمن سوسان) إلى الإدارة المركزية.
وشغل قبل ذلك منصب نائب وزير الخارجية عام 2020، ومنصب المندوب الدائم لسوريا في الأمم المتحدة بين عامي 2006 و2020.
وقبل سقوط نظام الأسد لم تُعرف عن الجعفري معارضة من أي نوع للنظام، بل إنه اُشتهر بأداء دور "الشرطي السيئ" للنظام، إن صحّ التعبير، على خلاف كثيرين ممن انخرطوا في السلك الدبلوماسي السوري في عهد بشار الأسد وآثروا الصمت، وهو الدور نفسه الذي قام به أيضًا سفير دمشق السابق لدى العاصمة الأردنية عمّان بهجت سليمان (1949-2021) الذي اتهم نجله حيدرة، بعد سقوط النظام، الرئيس السابق بشار الأسد بتصفيته.
الجعفري وصراع "النساء على الأسد"
ويُعتقد أن صراعات داخل أروقة القصر الرئاسي السوري في السنوات الأخيرة لحكم الأسد، كانت وراء نقل الجعفري من منصب نائب وزير الخارجية فيصل مقداد إلى سفارة بلاده موسكو، إضافة إلى طموح الرجل الذي أثار حفيظة كثيرين في الخارجية السورية.
وكان القصر الرئاسي السوري يعجّ بصراعات المقربين من الأسد قبل فراره، ولعبت مستشارته لونة الشبل للشؤون الإعلامية التي لقيت حتفها في حادث سير غامض في دمشق في يوليو/ تموز 2024، دورًا كبيرًا في بروز ظاهرة أطلق عليها معارضون مسمى "نساء حول الأسد"، وصراعهن على السلطة والنفوذ في الدوائر المقربة بالرئيس السابق.
ولم تكن تربط الشبل علاقة جيدة مع شهرزاد، ابنة بشار الجعفري، التي التحقت بالقصر الرئاسي في الفترة نفسها التي التحقت به الشبل، ونشب صراع شبه معلن بين السيدتين في أواخر عام 2011 ومطلع 2012 على خلفية ترتيب لقاءات صحافية للأسد مع الإعلام الغربي، قبل أن تغادر ابنة الجعفري سوريا وتقيم في نيويورك.
على أن ذلك وإن كان يضيء جزءًا من صراعات المقربين من الأسد التي ازدادت حدّة في سنواته الأخيرة قد لا يصلح لتفسير ما يسميه السوريون "تكويعات" المقربين من الرئيس السابق، في وصف مواقف هؤلاء التي حرصت على النأي بهم عن الأسد، وإظهارهم في صورة من كان يعارض دون أن يجرؤ على الجهر بمواقفه خلال حكم الأسد خشية من الانتقام، ومن هؤلاء يشار الجعفري وآخرون.
الجعفري: فرار بائس ومهين
فقد كان لافتًا أن سفارة دمشق في موسكو، أصدرت في يوم سقوط النظام في 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي بيانًا احتفلت فيه برحيل الأسد، وقالت إن صفحة جديدة تكتب في تاريخ سوريا تدشّن عهدًا وميثاقًا وطنيًا يجمع كلمة السوريين، يوحدهم ولا يفرقهم.
في اليوم نفسه نشر الجعفري تدوينة على صفحة تحمل اسمه على موقع فيسبوك، قال فيها إن "سوريا اليوم أصبحت لكل أبنائها السوريين، ترنو بعيون واعدة إلى مستقبلها ومستقبل أبنائها الصابرين".
واستعان الجعفري في تدوينته بقاموس من الكلمات القاسية في وصف نظام الأسد الذي كان جزءًا منه، واصفًا إياه بالمافيا ومنظومة الفساد:
" لقد عانى الكثير من السوريين الوطنيين المخلصين من كل أفانين الأذى والظلم والتهميش ونكران الجميل، من جانب مافيا الفساد التي عاثت خرابًا بالبلاد وباعت مقدراتها ودمّرت مؤسساتها، وأرغمت شعبها على سلوك طريق اليأس والمهانة باتجاه النزوح واللجوء والفرار نحو المجهول المؤلم في البر والبحر"
كما انتقد الجعفري بشدة ما قال إنه فرار بائس ومهين لرأس النظام تحت جنح الظلام، وقال إن انهيار "منظومة الفساد" خلال أيام يشهد على عدم شعبية هذه المنظومة، وعدم وجود حاضنة مؤيدة لها في المجتمع وفي صفوف الجيش والقوات المسلحة:
"فرار رأس هذه المنظومة بهذا الشكل البائس والمهين تحت جنح الظلام وبعيدًا عن الإحساس بالمسؤولية الوطنية، يؤكد صوابية التغيير والأمل بفجر جديد، وإعادة إعمار الإنسان والحجر وإصلاح الخراب والدمار الذي لحق بسوريا، التي ابتليت بسقط المتاع من تجّار الأوطان وهواة التضليل والشعارات، ومحترفي الكذب ممن امتهنوا بيع كرامات الناس على مدى عقود".
وفي 23 ديسمبر/كانون الأول 2024 دعا الجعفري الجالية السورية للاحتفال بالتغيير، وقال خلال لقائه أفرادًا من الجالية إنه لم يكن هناك نظام في سوريا، ولو كان موجودًا لدافع عن نفسه، معتبرًا أن ما كان موجودًا هو منظومة فساد رهنت مصالح البلد لخدمة مآربها الشخصية، ولذا سقطت هذه المنظومة بهذه الظروف وهذه السرعة.
كما أعرب عن تأييده للحوار الوطني في سوريا، قائلًا إن "الإدارة الجديدة" تقدّم وعودًا جيدة ومغرية وجذابة لكثير من شرائح المجتمع السوري.
وقبل ذلك كان الجعفري قد نشر في الـ16 من الشهر نفسه مقالًا في مجلة "الشراع" اللبنانية على الإنترنت، اتسم بالانفعالية المفرطة في وصفه الرئيس السابق بشار الأسد، وألمح فيه إلى علاقات نسائية له، وإلى فساد عقيلته أسماء الأسد، وجاء في المقال:
"عندما تكون رئيسًا بالاسم، وفاجرًا متنقلًا بين نسوة سلّمت مقاليد البلد، لا تطلب مدد".
"حين تحطّ من قيمة العائلات المحترمة ذات الإرث التاريخي والوطني والحضاري والثقافي، وتذلّ الكبير وتقوّي الصعاليك وترفعهم ليذلّوا كبار الناس لا تطلب مدد".
"حين يجوع الجيش والشرطة ويُذلّ الضابط للجندي ويعتمد التفييش والتعفيش ليعيش، لا تطلب مدد".
"حين تشتري سيدتك الأولى، "سيدة الياسمين"، آلاف العقارات والاراضي والمشاريع وتتشدق علينا بالصبر والصمود بينما أقرباؤها يتملكون البلد، لا تطلب مدد".
"لمّا يكون الجبن والنذالة بدمك لدرجة الهروب بلا أي كلمة تعتذر فيها للشعب، من أمهات الشهداء، من جرحى الحرب، اللي ياما باعت فيهم واشترت "مدامتك" على الشاشات وكبّوهن بعد التصوير بدقيقة وكأنهم حشرات، بلا أي تصريح، اعفِ فيه الشعب اللي وقف معك من خبثك وتكبّرك ومحورية الكون حولك، وأنك الفيلسوف الوحيد (....) العروبي الوحيد والجبل العنيد والحصن العتيد".
"كنت ريّحنا من 2011 واطلع واحقن هالدم كلو.. بالنهاية ما في شعب بموت ليعيش رئيس. الرئيس بموت ليعيش شعب، بس وينك أنت من هالشي".
قفزات مهنية متسارعة
ولد بشار الجعفري في دمشق عام 1956 بحسب البيانات الرسمية، لكنّ بعض المصادر تشكّك في مكان ولادته، وتقول إنه أصفهان (جنوبي طهران)، وهو متزوج من سيدة إيرانية ويتقن اللغة الفارسية أيضًا.
ولا يُعرف متى وأين تعلّم الجعفري الفارسية خاصة أنّ سيرته الرسمية تخلو من أي إشارة إلى أصول إيرانية محتملة، كما ترجّح مصادر في المعارضة، لكن تحليلات ترى أنه ربما تعلّم الفارسية من زوجته.
يتقن الجعفري إضافة إلى العربية والفارسية اللغتين الفرنسية والإنكليزية، ولا تُذكر إيران أبدًا في سيرته العلمية التي اقتصرت على بلاده سوريا وفرنسا وإندونيسيا، حيث درس وحاز على الماجستير والدكتوراه.
وفي سيرته أنه حصل على ماجستير في الترجمة والتعريب عام 1978 من جامعة دمشق، والماجستير في العلاقات الدولية السياسية عام 1982 من المعهد الدولي للإدارة العامة في باريس، والدكتوراه في العلوم السياسية من باريس أيضًا، إضافة إلى دكتوراه في تاريخ الحضارة الإسلامية في جنوب شرق آسيا عام 1989 من إحدى جامعات إندونيسيا.
يمثّل الجعفري سيرة نجاح بالمعنى التقليدي، فقد شهدت سيرته المهنية قفزات كبرى، وتبوأ مناصب رفيعة الشأن خلال أكثر من ثلاثة عقود عمل فيها في الخارجية السورية، فقد عمل سكرتيرًا أول ومستشارًا في البعثة السورية لدى الأمم المتحدة ما بين عامي 1991 و1994، ومستشارًا في السفارة السورية في باريس بين عامي 1997 و1998 وقائمًا بالأعمال في سفارة دمشق بإندونيسيا ما بين عامي 1998 و2002،
كما تولى إدارة المنظمات الدولية بوزارة الخارجية السورية، قبل أن يصبح مندوبًا لسوريا لدى مقر الأمم المتحدة الأوروبي في جنيف عام 2004، فمندوبًا دائمًا لبلاده لدى الأمم المتحدة عام 2006 حتى عام 2020، ونائبًا لوزير الخارجية في العام نفسه، وسفيرًا لدى موسكو في 2022.
وترأس الجعفري الوفد الرسمي إلى مفاوضات جنيف مع المعارضة السورية، ووفد النظام إلى الاجتماع التشاوري السوري في موسكو.
وعُرف عن الجعفري تبنيه الكامل لمواقف النظام في المفاوضات التي رعتها الأمم المتحدة، وفي الجلسات المخصصة لسوريا في مجلس الأمن الدولي والاجتماعات الأخرى التي رعتها المنظمة الدولية، ونفيه مجازر ارتكبها النظام بالسلاح الكيميائي، مثل مجزرة الغوطة عام 2013.
استشهادات شعرية وتعبيرات نابية
وكثيرًا ما لجأ الدبلوماسي السوري طويل القامة إلى ذخيرته الثقافية في كلماته في الأمم المتحدة، وبالاستشهادات الشعرية من نزار قباني إلى شكسبير.
ورغم ذلك لم يتورع الجعفري عن استخدام تعبيرات نابية أو بذيئة في سجالاته مع بعض مندوبي الدول، مثلما فعل في ردّه على المندوبة للأميركية لدى المنظمة الدولية سامانثا باور عام 2016، قائلًا إن جماعات مثل تنظيم الدولة وجبهة النصرة يسبون النساء ثم يقومون ببيعهن حسب الفئة العمرية لهن، وإن بعض النساء اللواتي تم بيعهن وكن في عمر "الزميلات الموجودات هنا" في جلسة مجلس الأمن، في إشارة إلى المندوبة الأميركية، يصل سعرهن إلى أربعين دولارًا فقط.
الأمر نفسه فعله الجعفري مرارًا في رده على المندوب السعودي عبد الله العليمي لدى الأمم المتحدة، ما كان يضطر الأخير للرد عليه إما بتصحيح بيت شعري استشهد به الجعفري أو أحيانًا اتهامه علنًا بقلة الأدب، حيث رد العليمي ذات مرة على الجعفري قائلًا إنه يقدّر المواهب الأدبية التي يتمتع بها المندوب السوري، لكنه لا يستطيع مجاراته حين يتعلق الأمر بعبارات مثل "الزعرنة" و"الدناءة" و"قلة الأدب".
