استعادت المنارة الحدباء التي يشتهر بها جامع النوري الكبير شكلها الأول شامخة بحجارتها الأصلية في سماء الموصل كما كانت على مدى قرون قبل تدميرها خلال سيطرة تنظيم الدولة على المدينة.
وتُعتبر هذه المئذنة جزءًا من الجامع الذي أعلن منه الزعيم السابق للتنظيم المتطرف أبو بكر البغدادي في يوليو/ تموز 2014 إقامة "الخلافة الإسلامية" على مساحات واسعة من العراق وسوريا.
وعقب إعلان القوات العراقية في نهاية 2017 دحر التنظيم؛ عملت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة "يونسكو" على مدى خمسة أعوام على ترميم المعالم الأثرية في المدينة الواقعة بشمال العراق والتي اتخذها المسلحون لسنوات عاصمة لهم.
ومن بين هذه المعالم جامع النوري الكبير ومنارته الحدباء التي عادت اليوم "نسخة أصلية عن القديمة بحجارتها الأصلية"، حسبما يقول مشرف الهيئة العامة للآثار والتراث على أعمال ترميم المسجد عبدالله محمود.
ويضيف: "نحن الموصليون نعتبر أن الحدباء هويتنا، وبإعادتها تعود هوية المدينة".
"عودة لتاريخ المدينة"
من جهتها، أشادت مديرة اليونسكو أودري أزولاي الأربعاء بعد زيارة الجامع النوري الكبير بأعمال الترميم. وقالت في باحة المسجد: "أنا سعيدة جدًا لوقوفي أمامكم وأمام المئذنة التي يزيد عمرها عن 850 عامًا... أن تكون واقفة هنا خلفي بمثابة عودة لتاريخ المدينة وهويتها"، مشيرة إلى أن أعمال الترميم تضمّنت استخدام "طرق تقليدية" للحفاظ على الطابع التاريخي للمعالم الأثرية.
وتم الحفاظ على ميل المنارة تمامًا كما كان عليه في الستينيات. غير أن المهندسين دعموا أساساتها لئلّا يزداد ميلانها تدريجيًا مثلما حصل منذ بنائها في القرن الثاني عشر.
ويقول محمود: "احتاج بدَن المئذنة من الداخل إلى 96 ألف طابوقة جديدة. أمّا بالنسبة للخارج، فاستخدمنا 26 ألف طابوقة قديمة" للحفاظ على الطابع التراثي للمئذنة التاريخية.
ولا يزال مئات العمّال يضعون اللمسات الأخيرة على أعمدة جامع النوري الكبير وقبّته، في وقت تتطلع السلطات العراقية إلى افتتاح المعالم المرممة بشكل رسمي في الأسابيع المقبلة.

ويشير محمود إلى أن ترميم المحراب تم إلى حد كبير بأحجاره الأصلية، فيما فقد المنبر معظم قطعه الأصلية.
في الجانب الآخر من الشارع، يقول المؤذن السابق في جامع النوري الكبير السيد عماد زكي: "أقف هنا كل يوم لمدة ساعة وأتأمل عملية إعادة إعمار (الجامع والمنارة) إلى ما كانا عليه سابقًا على الطراز القديم".
ويضيف: "نشعر بروحانية وبأن نفسيتنا ترتاح عندما نرى المئذنة تعانق السماء وأصبح بإمكان أهل الموصل أن يروها مجددًا".
"إحياء الموصل"
ودُمّر الجامع ومنارته الحدباء في يونيو/ حزيران 2017 خلال معارك بين القوات العراقية وتنظيم الدولة بفعل متفجّرات وضعها المسلحون داخل المسجد، حسبما يقول الجيش العراقي.
ودُمّر 80% من المدينة القديمة في الموصل، وأُزيل أكثر من 12 ألف طنّ من الأنقاض من المواقع الرئيسية لمشروع اليونسكو، بما فيها كنيسة الطاهرة وكنيسة سيدة الساعة و124 منزلًا تراثيًا.
وكنيسة الطاهرة التي دُشنت عام 1862، أُعيد بناؤها بأروقتها وأعمدتها المزخرفة ونوافذها ذات الزجاج الملون.

وخلال ترميمها، اكتشف العمال قبوًا وجرارًا كبيرة كانت تُستخدم لحفظ النبيذ، فركّبوا سقفًا زجاجيًا فوقها لتكون بادية للعيان من داخل الكنيسة.
وتقول ماريا أسيتوسو وهي مديرة مشاريع في العراق لدى منظمة اليونسكو، إن هدف المشروع كان "في آن واحد العمل على المعالم الأثرية التي تحمل معنى للمدينة، وإحياء" الموصل.
وتضيف: "حين وصلت إلى هنا عام 2019، كانت (الموصل) تشبه مدينة أشباح. لذلك فإنّ التغيير الذي حدث خلال خمس سنوات ونيّف هو تغيير هائل".
أماكن آمنة
وعادت الحياة تدريجيًا إلى شوارع الموصل بعد هزيمة تنظيم الدولة، فصار سكّانها يتجمّعون في المقاهي وأحاديثهم تختلط بضجيج أعمال البناء في المسجد.
لكن مع ذلك، لا تزال الندوب التي تركتها المعارك ضد تنظيم الدولة، مرئية في الأزقّة الضيقة في المدينة القديمة وبيوتها المدمّرة.
وعلى جدرانها المتضررة كُتبت بالأحمر كلمة "آمن" للإشارة إلى أن المنازل خالية من المتفجرات والألغام.
لكن هذه الجدران نفسها والنوافذ المحطّمة تحكي حكايات النزوح، فأصحابها الأصليون ومعظمهم من المسيحيين، لم يعودوا بعد.
ومن بين مَن عادوا إلى المدينة القديمة محمد قاسم (59 عامًا) الذي انتقل قبل بضعة أعوام إلى منزل جديد بعدما دُمّر منزله الأساسي بالكامل.
ويرى محمد أنه لا بد من أن يعود السكان السابقون والمسيحيون، فـ"هُنا بيوتهم ومناطقهم".
ويضيف أنه قبل سيطرة المسلحين "كان الناس يأتون من كل مكان خلال شهر رمضان من أجل التراويح، ما كان يعطي روحًا للمكان".
وعلى بعد أمتار من جامع النوري الكبير، يأمل سعد محمد (65 عامًا) بأن تجذب أعمال إعادة الإعمار زوار المدينة، على الرغم من أنه ما زال في حالة حزن على كل ما فقدته المدينة.
لكن كلّما نظر من متجره إلى الأعلى ورأى المنارة، ترتسم ابتسامة على وجهه.
ويقول الرجل الذي لزم المدينة حتى في ذروة المعارك: "كنّا كلّما فتحنا الشباك نرى علم داعش على المنارة وبقينا ننتظر إزالته، حتى فتحنا الشباك في أحد الأيام ولم نرَ المنارة".
ويضيف: "عادت اليوم الحدباء والنوري والكنائس وعاد الأمان، لكنني شخصيًا لم أتحرر طالما بيتي لم يعد بعد".