يعتبر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024 تاريخًا مفصليًا في المنطقة، ففي فجر ذلك اليوم أُعلن عن فرار الرئيس السوري بشار الأسد إلى خارج البلاد، بينما كانت قوات المعارضة المسلحة تنتشر في العاصمة السورية دمشق لأول مرة، منهية حكم عائلة الأسد الذي امتد لنحو خمسة عقود.
قبل ذلك بنحو ثلاثة شهور، وتحديدًا في 27 سبتمبر/ أيلول، اغتالت إسرائيل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في قصف استهدفه في الضاحية الجنوبية لبيروت، وما هما إلا شهران حتى تم الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، ومن ضمن بنوده سحب سلاح الحزب، وألا يقوم هو أو أي حركة مسلحة أخرى في لبنان بأي عمل مسلح ضد إسرائيل.

ونصّ الاتفاق على انسحاب مقاتلي الحزب من المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني (على مسافة نحو 30 كيلومترًا من الحدود) وتفكيك بناه العسكرية، في مقابل تعزيز انتشار الجيش اللبناني وقوة الأمم المتحدة (اليونيفيل).
وفي التاسع من يناير/ كانون الثاني الماضي اُنتخب قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيسًا للبلاد، حيث تعهّد في كلمته بعد أداء اليمين الدستورية بأن تحتكر الدولة السلاح، وأن يمارس صلاحياته كاملة ببسط سلطة الدولة على كامل حدودها.
كلا الأسد ونصر الله كانا يشكّلان غطاء سياسيًا في بلديهما لتنظيمات فلسطينية تعمل في أراضي البلدين، ويستثمران ذلك في سياق أعرض يتعلق بما يسمى بمحور المقاومة، ومن بينها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي مرّت علاقاتها بنظام الأسد بتقلبات حادة بعد الثورة الشعبية على النظام هناك منذ عام 2011.
لم يعد مرغوبًا فيها
لكنّ الحركة التي كانت غير مرحّب فيها في دمشق في آخر سنوات حكم الأسد احتفظت بعلاقات دافئة مع حزب الله في لبنان، ضمن استراتيجيات إيرانية تقوم على التقرّب من حركات مقاومة سُنّية في المنطقة.
وبسقوط نظام بشار الأسد واغتيال نصر الله وتلقي حزبه ضربات ثقيلة أتت على العمود الفقري لبنيته العسكرية، واتفاق وقف النار الذي عُقد في منتصف يناير/ كانون الثاني بين إسرائيل وحماس، أصيبت علاقات القوة والنفوذ بين حركات المقاومة بوهن شديد.
وكان من نتائج ذلك سقوط أحد أطراف محور المقاومة (حماس) وتنظيمات فلسطينية لا تتمتع بثقل حقيقي على الأرض، من أولويات نظامي الحكم الجديدين في سوريا ولبنان، ما قلّص هامش حركتها هناك، تنفيذًا لترتيبات دولية وإقليمية لتأهيل نظام الحكم في سوريا، ومنح الغطاء للبنان لإعادة الإعمار وتأمين الانسحاب الإسرائيلي من أراضيه.

والجمعة الماضي، حذّر المجلس الأعلى للدفاع في لبنان في اجتماع ترأسه رئيس البلاد جوزيف عون، حركة حماس من استخدام الأراضي اللبنانية في "أي أعمال تمس بالأمن القومي" للبلاد، وقال إنه "سيتم اتخاذ أقصى التدابير والإجراءات اللازمة لوضع حد نهائي لأي عمل ينتهك السيادة اللبنانية".
وشدّد عون على "عدم التهاون تجاه تحويل لبنان منصة لزعزعة الاستقرار، وعدم توريط لبنان بحروب هو بغنى عنها"، بينما أكّد رئيس وزرائه نواف سلام على "ضرورة تسليم السلاح غير الشرعي، وعدم السماح لحماس أو غيرها من الفصائل زعزعة الاستقرار الأمني والقومي".
بيروت غاضبة وحماس تستجيب
وأعلن الجيش اللبناني في أبريل/ نيسان الماضي توقيف لبنانيين وفلسطينيين ضالعين في إطلاق الصواريخ باتجاه إسرائيل يومي 22 و28 مارس/ آذار، ولم يحدّد الجيش في حينه انتماء الموقوفين، لكنّ مصدرًا أمنيًا قال إن ثلاثة منهم ينتمون إلى حركة حماس.
والسبت استدعى المدير العام للأمن العام في لبنان، ممثل حركة حماس في البلاد أحمد عبد الهادي، لإبلاغه تحذير الدولة اللبنانية بشكل رسمي، طالبًا تسليم المطلوبين بأسرع وقت ممكن.
ونقلت تقارير صحافية عن ممثل حماس تجاوبه مع السلطات اللبنانية، وتأكيده أن المجموعة التي شاركت في إطلاق الصواريخ لم تتشاور مع قيادة الحركة أو تحصل على الإذن منها.
ويوما الأحد والإثنين الماضيين، سلّمت الحركة اثنين من المطلوبين في القضية للجيش اللبناني.
خطة عباس لسحب سلاح المخيمات
وتزامن هذا مع الإعلان عن زيارة مرتقبة للرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى بيروت في 19 من الشهر الجاري لبحث خطة تقضي بنزع سلاح المخيمات الفلسطينية في لبنان، تتضمن "استخدام القوة إذا لزم الأمر".
وبحسب موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، فإن الزيارة ستتم بالتنسيق مع السعودية، ونقل الموقع البريطاني عن مصدر فلسطيني أن عباس ينوي تشكيل لجنة أمنية مكلفة بالإشراف على عملية نزع السلاح، وفي حال عدم امتثال الفصائل لتوجيهات الدولة اللبنانية وقرار عباس، فإنها ستفقد كل الدعم التنظيمي والسياسي، مما قد يمهّد الطريق أمام عمل عسكري من القوات الأمنية اللبنانية لنزع سلاحها.
وكشفت المصادر للموقع البريطاني أن قرار عباس هذا جاء بناء على طلب الرياض، ونُقل عبر وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود.

الجيش يسيطر على 85% من جنوب لبنان
يأتي هذا في سياق أعرض يتعلق بسلاح المقاومة في لبنان تنفيذًا لاتفاق وقف إطلاق النار مع إسرائيل، وبموجبه قالت مصادر أمنية لبنانية إن حزب الله سحب قواته من جنوب نهر الليطاني، وفكّك معظم بنيته العسكرية في هذه المنطقة الحدودية مع إسرائيل.
وأكد الرئيس اللبناني جوزيف عون أن الجيش بات يسيطر على أكثر من 85% من مساحة جنوب لبنان، وقال عون في مقابلة صحافية: "في موضوع الجنوب، حصل اتفاق على وقف إطلاق النار برعاية الولايات المتحدة وفرنسا، وعلى كل من الطرفين احترام توقيعه. وبالنسبة الى الجيش اللبناني، أصبح مسيطرًا على أكثر من 85% من الجنوب، ونظّف الجنوب".
وأضاف: "يقوم الجيش بواجبه بدون أي مشاكل وبدون أي اعتراض"، موضحًا أن سبب عدم استكمال انتشاره جنوبًا "هو احتلال اسرائيل لخمس نقاط" حدودية، هذا في حين أكد مصدر أمني لبناني أن السلطات لن تسمح لأحد "بإعادة تأهيل البنية العسكرية في جنوب الليطاني".
شروط أميركية لرفع العقوبات عن سوريا
وتمتّعت الفصائل الفلسطينية المسلحة في لبنان وسوريا بغطاء سياسي من حزب الله ونظام الأسد لأكثر من عقدين، لكن المعادلة تغيّرت جذريًا باغتيال نصر الله وسقوط نظام الأسد، وسعي بيروت ودمشق لإعادة الإعمار وعلاقات أفضل مع المجتمع الدولي، وتحديدًا الولايات المتحدة.
والشهر الماضي زار وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني الولايات المتحدة لحضور اجتماعات في الأمم المتحدة، والتقى في 28 أبريل/ نيسان مسؤولين من وزارة الخارجية الأميركية في نيويورك.

وقبل ذلك سلّمت نتاشا فرانشيسكي، نائبة مساعد وزير الخارجية بمكتب شؤون الشرق الأدنى، الشيباني قائمة بثمانية شروط أميركية في اجتماع بينهما على هامش مؤتمر المانحين لسوريا في بروكسل في 18 مارس/ آذار الماضي، تتضمن تدمير ما تبقى من مخزونات الأسلحة الكيمائية، وضمان عدم تولي أجانب مناصب قيادية في الحكومة.
وكانت الولايات المتحدة أصدرت في يناير/ كانون الثاني الماضي، إعفاء لمدة ستة أشهر لبعض العقوبات المفروضة على سوريا لتشجيع وصول المساعدات إليها، لكن الإعفاء لم يكن له تأثير يُذكر. وقالت بعض المصادر في مارس/ آذار إنه في مقابل تلبية جميع المطالب الأميركية، ستمدّد واشنطن هذا الإعفاء لعامين وربما تصدر إعفاء آخر.
وفي ردها على المطالب الأميركية، تعهّدت سوريا بإنشاء مكتب اتصال في وزارة الخارجية للعثور على الصحفي الأميركي المفقود أوستن تايس، وتفصيل عملها للتعامل مع مخزونات الأسلحة الكيماوية، بما في ذلك توثيق العلاقات مع منظمة عالمية لمراقبة الأسلحة، ولكنها، بحسب الرسالة، لم تقل الكثير ردًا على مطالب رئيسية أخرى، مثل إبعاد المقاتلين الأجانب ومنح الولايات المتحدة الإذن بشن ضربات لمكافحة الإرهاب.
وحضّت الولايات المتحدة السلطات السورية مرارًا على القيام بخطوات عدة لرفع العقوبات، من بينها "نبذ الإرهاب وقمعه، ومنع إيران ووكلائها من استغلال الأراضي السورية".
اعتقال اثنين من قادة الجهاد
وقبل زيارة الشيباني إلى نيويورك بأيام، اعتقلت السلطات السورية اثنين من قادة حركة الجهاد الإسلامي، وكشفت سرايا القدس، الجناح العسكري للحركة، في 22 أبريل/ نيسان الماضي أن السلطات السورية اعتقلت "منذ أيام" اثنين من قادتها دون توضيح الأسباب.

وفي بيان موجّه إلى "أهلنا وأبناء جلدتنا وأشقائنا في سوريا الحبيبة"، قالت سرايا القدس: "ها قد مرّ اليوم الخامس ويقبع لديكم اثنان من خيرة كوادرنا"، هما "مسؤول الساحة السورية خالد خالد ومسؤول اللجنة التنظيمية ياسر الزفري".
وأوضحت أنهما أوقفا من "دون توضيح عن أسباب الاعتقال، وبطريقة لم نكن نتمنى أن نراها من إخوة لطالما كانت أرضهم حاضنة للمخلصين والأحرار، الذين لم يتركوا عبر التاريخ محتلًا أو طاغية إلا وأهلكوه بغيرتهم على دينهم وعرضهم".
توقيف طلال ناجي
ولم تقتصر الاعتقالات على حركة الجهاد الإسلامي، فقد أوقفت دمشق السبت الماضي (3 مايو/ أيار) الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة طلال ناجي قبل أن تفرج عنه في اليوم نفسه.
وقال قيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين-القيادة العامة إن ناجي بقي موقوفًا عشر ساعات، وإن إطلاقه أتى عقب "وساطات محلية ودولية"، وأكد مصدر آخر أنه تم إجراء "اتصالات مع (الرئيس الفلسطيني) محمود عباس و(القيادي في حركة حماس) خالد مشعل لطلب تدخلهم العاجل" مع دمشق.

واُنتخب ناجي أمينًا عامًا للجبهة عام 2021، خلفًا لأحمد جبريل الذي أنشأها عام 1968، وناصر جبريل الذي كان يحمل الجنسية السورية، وشارك فصيله في القتال إلى جانب القوات الحكومية، خصوصًا في معارك مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في دمشق.
لجنة لمراقبة الفصائل في سوريا
وكشفت وثيقة اطّلعت عليها "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سوريا"، وهي جماعة حقوقية إعلامية تتخذ من لندن مقرًا لها، الشهر الماضي عن ردّ الحكومة السورية على المطالب الأميركية الثمانية، حيث أبرزت تشكيل لجنة خاصة لمراقبة أنشطة الفصائل الفلسطينية المسلحة في سوريا، مع تأكيدها عدم السماح لأي جماعات خارجة عن سيطرة الدولة بالعمل أو استخدام الأراضي السورية لتهديد إسرائيل.
وجاء في الرسالة السورية، التي تم تسليمها إلى الجانب الأميركي في 14 أبريل/ نيسان، أن الرئيس السوري أحمد الشرع شكّل لجنة لمراقبة أنشطة الفصائل الفلسطينية، مشددة على أن دمشق "لن تسمح للفصائل المسلحة غير الخاضعة لسيطرة الدولة بالعمل"، وقد أُرسلت الرسالة قبل أيام قليلة من اعتقال دمشق قادة من حركة الجهاد الإسلامي.
وتضمن الرد السوري تعهدات بعدم تهديد المصالح الإسرائيلية، وتفصيلًا للإجراءات المتخذة بشأن ملف الأسلحة الكيميائية، بما في ذلك التعاون مع هيئة مراقبة الأسلحة الدولية، إلا أن التقدم ظلّ محدودًا في مطالب أخرى، مثل إبعاد المقاتلين الأجانب عن المناصب القيادية ومنح الولايات المتحدة صلاحية تنفيذ ضربات مضادة للإرهاب.
واختتمت الرسالة بتأكيد سوريا على "عدم السماح بأن تكون أراضيها مصدر تهديد لأي طرف"، في إشارة إلى إسرائيل، مع إبداء استعدادها لتوسيع التعاون الأمني مع واشنطن في مكافحة تنظيم الدولة.