تُعتبر وحدات القياس جزءًا لا غنى عنه من الحياة اليومية، من الساعة لتحديد الوقت، إلى الملابس المصمّمة لتُناسب أبعادنا الجسدية، أو حتى الكوب لوصفتنا المفضّلة، فالميل أثناء قياس مسافة الطرقات؛ ناهيك عن قياس عمر بطارية الهاتف او الحاسوب أو السيارات او حتى الأجهزة الامنزلية الالكترونية.
فمن الصعب أن نتخيّل الحياة بدون أنظمة القياس هذه، من أجل تنظيم أعمالنا.
ولعلّ توحيد القياسات المتباينة داخل المجتمعات والقرى البشرية الأولى، هو الذي مكّن إلى حد كبير من ظهور أولى المدن والدول الكبرى في العالم.
ما هي وحدات القياس الأولى؟
من "المينا" البابلية إلى "الذراع" المصرية، رصد موقع "هيستوري فاكتس" بعض أقدم وحدات القياس المعروفة.
1- أجهزة قياس بدائية في عصور ما قبل التاريخ
تُشير الأدلة التاريخية إلى أنّ أسلافنا في عصور ما قبل التاريخ، استخدموا أدوات لتصميم أنظمة قياس بدائية.
ومن الأمثلة على ذلك عظمة ليبومبو التي يبلغ عمرها 40 ألف عام، وعظمة "إيشانجو" التي يبلغ عمرها 20 ألف عام. وتمّ اكتشافهما في إفريقيا، وكلاهما مسنّن على فترات منتظمة للإشارة إلى وظيفته كمسطرة. ومن المرجّح أنّه تمّ استخدام عظمة "إيشانجو" أيضًا لتتبّع الدورات القمرية.
وبدأت بعض أنظمة القياس الأقدم تظهر عند شعب العصر الحجري الحديث الذي استقر في بلاد ما بين النهرين. وظهرت الرموز الطينية المستخدمة لتحديد الممتلكات والمعاملات منذ عام 7500 قبل الميلاد، وتحوّلت في النهاية إلى المسافات البادئة المسمارية التي ظهرت حوالي 3500 قبل الميلاد واستخدمت إلى حدّ كبير لأغراض المحاسبة.
وفي حين أنّ السومريين طوّروا نظامًا معقدًا للحساب، فقد تمّ تبسيطه بحلول عام 3100 قبل الميلاد تقريبًا إلى النظام الستيني الأساسي (60 ثانية في الدقيقة، و60 دقيقة في الساعة، و360 درجة في الدائرة، وما إلى ذلك) الذي استمرّ لتمكين التطوّرات في ضبط الوقت وعلم الفلك.
2- وحدة القياس "الذراع"
في كتاب "ما وراء القياس: التاريخ الخفي للقياس من الأذرع إلى الثوابت الكميّة"، يروي جيمس فنسنت أنّ بعض أشكال القياس المبكّرة تتضمن تلك المستوحاة من أجزاء الجسم.
وتمّ تبنّي مثل هذه الأنظمة من قبل الثقافات في جميع أنحاء العالم: كان لدى الأزتيك في أميركا الوسطى قياسات تشمل طرف الأصابع إلى الإبط والكتف، في حين كان لدى الماوري الأصليين في نيوزيلندا أحجام تتراوح من مفصل الإصبع إلى طول جسم الشخص مع رفع الذراعين فوق الرأس.
يُنسب إلى المصريين القدماء الفضل في تطوير ما قد يكون أقدم وأشهر قياسات الجسم: الذراع.
تمّ إنشاء هذه الوحدة الأساسية حوالي عام 3000 قبل الميلاد، وهي مشتقّة من طول الذراع من المرفق إلى طرف الإصبع الأوسط.
وكانت الوحدة الأساسية هي الرقم، حيث يُشكّل 4 منها كفًا واحدًا، و5 منها يدًا، و12 تمثّل شبرًا صغيرًا، و14 شبرًا كبيرًا، و16 تسمى "t’ser"، و24 تساوي ذراعًا صغيرة، و28 تمثّل مقدار الذراع الملكية.
وتمّ استخدام الذراع لقياس مياه فيضانات النيل، والتي يمكن من خلالها تحديد تقديرات إنتاج المحاصيل، وتوفير بناء متماثل للهرم الأكبر في الجيزة.
كان نظام الأوزان المصري يعتمد على "Kite"، والتي تراوحت أوزانها من 4.5 غرامات إلى ما يقرب من 30 غرامًا طوال تاريخها. وبناء على هذه الوحدة الأساسية، 10 "kite" تساوي 1 "deben"، و10 "deben" تساوي 1 "sep".
واعتمدت قياسات السوائل على وحدة "hin" والتي كانت تُساوي حوالي 0.48 ليترًا؛ و10 "hin" تساوي 1 "heqat"، بينما تُساوي 10 "heqat" 1 "khar".
3- قياسات خاصة بالحضارات في آسيا
استخدمت "حضارة وادي السند" أو "حضارة هارابا" نظامًا للقياسات لرفع مستوى حضاراتهم في آسيا الوسطى. وعلى الرغم من أنه لا يزال هناك الكثير مما يجب تعلمه حول أساليبهم، فقد كشفت الاكتشافات عن نظام من الأوزان التي تزيد بنسب ثابتة، بالإضافة إلى علامات الطول التي تتوافق تقريبًا مع قياسات القدم الحديثة والذراع المصرية.
كما قام الصينيون بشكل مستقل بصياغة نظام للقياسات المعتمدة على الجسم، مماثل لتلك الموجودة في مصر، مع اختلاف ملحوظ في شكل العنصر السمعي.
بعد إنشاء النغمات الأساسية الـ 12 لوحدة القياس "أوكتاف" والمعروفة باسم " lü" في الألفية الثالثة قبل الميلاد، كان مطلوبًا من حاويات القياس إنتاج صوت معيّن عند ضربها، كدليل على المطابقة للحجم المعياري.
4- "المينا" و"الشيكل" في الحضارة البابلية
بعد أن برزوا كثقافة مهيمنة في بلاد ما بين النهرين بعد السومريين، طوّر البابليون تقويمًا يحتوي على مكوّنات مألوفة مكونة من 12 شهرًا و30 يومًا لكل منها بحلول عام 2000 قبل الميلاد. وساهموا بأشكال أخرى من القياس التي أصبحت معترف بها على نطاق واسع في جميع أنحاء المنطقة.
وكان أهمها "مينا"، وهي وحدة وزن ذات فروق معروفة تتراوح بين 640 غرامًا و978 غرامًا. وكانت ستين "مينا" تعادل 1 "talent"، في حين أنّ 1 "مينا" كانت تساوي 60 شيكل.
وكانت أصغر وحدة طول هي ذرة الشعير، أي ما يعادل حوالي عُشر البوصة. وتًساوي 6 حبات من ذرة الشعير 1 " shu-si" (أو إصبع)، في حين أنّ 30 "shu-si" تساوي الوحدة القياسية لـ "kush"، على غرار الذراع.
وشملت الأحجام الأكبر "12-cubit nindan" والتي تُساوي حوالي 20 قدمًا"، و"120-cubit cord " الذي يُساوي حوالي 200 قدم، و"180-cord league" الذي يُساوي حوالي 7 أميال.
كما امتلك البابليون أيضًا نظامًا لقياسات السوائل يضم "qa" والذي كان يساوي حوالي 100 ملليلتر. وكانت "300 qa" تُعادل 60 "gin" أو 1 "gur"، أي ما يُعادل حوالي 80 غالونًا.
5- اعتمد الإغريق والرومان على أنظمة القياس السابقة
تأثرًا بأسلافهم في منطقة البحر الأبيض المتوسط، قام اليونانيون بدمج العديد من نفس الوحدات، إن لم تكن نفس الأحجام بالضبط، في مجموعة قياساتهم. وشملت هذه الأطوال لمسافات صغيرة بما في ذلك الذراع والإصبع والكف.
كما أنشأ اليونانيون وحدات أكبر يمكن تطبيقها على مسافات أطول مثل "stadium" أي ما يُعادل حوالي 600 قدم.
ثم انتقل النظام اليوناني إلى الرومان، الذين وضعوا بصمتهم على عملية التصنيف هذه بأسماء وقياسات مألوفة حديثًا؛ على سبيل المثال، يبلغ قياس القدم لدى الرومان حوالي 11.65 بوصة، بينما يُساوي 5000 قدم ميلًا واحدًا.
وعند هذه المرحلة، وصلت البشرية إلى نقطة حيث يمكن لعشرات الملايين من الناس من جنسيات وأديان مختلفة أن يتعايشوا في ظل نظام من المعايير العددية التي يُطبّقها كيان حاكم.
وعلى الرغم من أنّ أشكال القياس الإقليمية المتميزة استمرت لعدة قرون في المناطق الأقل سكانًا وبين ثقافات السكان الأصليين، إلا أنّه لم يكن هناك تراجع عن الدفع نحو أنظمة شاملة ساعدت في توحيد مساحات كبيرة من العالم.