بيدرو سانشيز.. تضامن لا محدود مع غزة وحرب بلا هوادة على إسرائيل
من الرياضة إلى كواليس السياسة، تزداد العلاقات بين إسبانيا وإسرائيل سوءًا، ويتصدّر رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز مشهدًا تتزايد فيه عزلة تل أبيب على الساحة الدولية، في ظل عدوانها المتواصل على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وكان آخر فصول هذا التوتر احتجاجات متواصلة في الأراضي الإسبانية استمرت نحو ثلاثة أسابيع، رفضًا لمشاركة إسرائيل في المرحلة الحادية والعشرين والأخيرة من طواف إسبانيا للدراجات الهوائية.
وليلة الأحد الماضي، نجحت هذه الاحتجاجات في إلغاء المرحلة الأخيرة من السباق، قبل 56 كيلومترًا من خط النهاية في مدريد، إذ اقتحم المتظاهرون المسار الأخير للسباق، وأزالوا الحواجز المعدنية، ووقفوا في نقاط متعددة من المدينة، ما اضطر منظمي السباق إلى إلغائه.
واستهدفت الاحتجاجات فريق "إسرائيل-بريمر تيك" المملوك لرجل الأعمال الكندي الإسرائيلي سيلفان آدامز، المقرّب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وقالت نائبة رئيس الوزراء الإسباني اليسارية، يولاندا دياز، عبر منصة إنستغرام، إن إسرائيل "لا يمكنها المنافسة في أي حدث بينما تستمر في ارتكاب إبادة جماعية"، مضيفة أن "المجتمع الإسباني أعطى درسًا للعالم من خلال شلّ طواف إسبانيا".
سانشيز معجب بمظاهرت شعبه
وكان رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز قد أعرب عن إعجابه بالمظاهرات المؤيدة للفلسطينيين التي رافقت سباق الدراجات، وقال في تجمع للحزب الاشتراكي بمدينة ملقا (جنوب البلاد) إن بلاده تمثل "نموذجًا ومصدر فخر للمجتمع الدولي".
وأشار إلى أنّ مرور سباق "لا فويلتا" في مناطق مختلفة من إسبانيا منذ 27 أغسطس/ آب، تخللته احتجاجات مناهضة لإسرائيل، معتبرًا أن بلاده "خطت خطوة إلى الأمام في الدفاع عن حقوق الإنسان".
وأكد سانشيز فخره بالشعب الإسباني الذي احتشد دفاعًا عن "قضايا عادلة مثل القضية الفلسطينية"، مشددًا على أن مواطني بلدٍ متعدد الثقافات والمناطق مثل إسبانيا يجب أن يتوحدوا من أجل "قضية إنسانية عادلة، وهي الدفاع عن حقوق الإنسان".
ولا يُمثّل إلغاء سباق الدراجات سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد في علاقات بلدين تبادلا استدعاء السفراء مرارًا، بسبب ما ترتكبه إسرائيل من جرائم حرب، وصفها سانشيز بأنها "إبادة جماعية"، ليصبح بذلك أول مسؤول أوروبي رفيع المستوى يستخدم هذا المصطلح.
بين بوريل وسانشيز
في سبتمبر/ أيلول 2024، سُئل جوزيب بوريل، المسؤول السابق عن السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، عن كيفية ردع إسرائيل، التي كانت تشن آنذاك عدوانين متزامنين على غزة ولبنان، فأجاب: "يبدو أن لا أحد يملك القدرة على وقف نتنياهو، لا في غزة ولا في الضفة".
الأمر نفسه قاله سانشيز لكن بلغة مختلفة، وفي سياق من يرفض إعلان العجز عن كبح رئيس الوزراء الإسرائيلي، ففي الثامن من سبتمبر/ أيلول الجاري ألقى رئيس الوزراء الإسباني خطابًا يمكن اعتباره تاريخيًا، أعلن فيه إغلاق بلاده موانئها ومجالها الجوي أمام السفن والطائرات التي تحمل أسلحة إلى إسرائيل، قائلًا إن هذه الإجراءات تهدف إلى "وضع حد للإبادة الجماعية في غزة":
إسبانيا، كما تعلمون، لا تملك قنابل نووية، ولا تملك حاملات طائرات ولا احتياطات نفطية ضخمة. لا يمكنها بمفردها وقف الهجوم الإسرائيلي، لكن هذا لا يعني أننا سنتوقف عن المحاولة.
وردّت تل أبيب على الإجراءات العقابية الإسبانية الجديدة، وغير المسبوقة أوروبيًا، باستدعاء السفير الإسباني، وما هي إلا أيام حتى زاد نتنياهو على ذلك باتهام نظيره الإسباني بتهديد إسرائيل بالإبادة الجماعية.
وجاء ذلك في بيان نشره مكتب الأخير الخميس الماضي على منصة "إكس"، قال فيه:
صرّح رئيس الوزراء الإسباني سانشيز أن إسبانيا لا تستطيع وقف حرب إسرائيل ضد إرهابيي حماس لأن إسبانيا لا تملك أسلحة نووية. هذا تهديد صارخ بإبادة جماعية ضد الدولة اليهودية الوحيدة في العالم.
لم تترك مدريد التي تتخذ موقفًا متقدمًا في الاتحاد الأوروبي ضد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تعليق نتنياهو يمر دون رد سريع وحاسم، إذ بادرت وزيرة الدفاع الإسبانية مارغريتا روبليس لتوبيخ نتنياهو، وقالت لقناة "أنتينا 3" التلفزيونية إن "نتنياهو ليس الشخص الذي يحق له تقديم دروس لأي كان بينما يرتكب الفظائع التي يرتكبها في غزة".
وأصدرت الخارجية الإسبانية بيانًا وصفت فيه بيان نتنياهو بأنه "كاذب وتشهيري"، واستدعى وزير الخارجية القائمة بالأعمال الإسرائيلية في مدريد لإبلاغها "رفض التصريحات الكاذبة والمسيئة التي صدرت عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي رفضًا قاطعًا".
ساعر: سانشيز معاد للسامية
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر اتهم رئيس الوزراء الإسباني بمعاداة السامية بعد الإجراءات التي اتخذتها حكومته ضد تل أبيب، وقال إنها محاولة من سانشيز لصرف الانتباه عن فضائح الفساد الداخلي.
كما أعلن ساعر حظر دخول نائبة سانشيز يولاندا دياز ووزيرة الشباب سيرا ريجو إلى إسرائيل، وكلتاهما تنتميان إلى حزب سومار اليساري، الشريك الأصغر في حكومة سانتشيز.
وردّت مدريد باستدعاء سفيرها في تل أبيب للتشاور، وأكدت الخارجية الإسبانية أن بلادها "لن تذعن للترهيب في دفاعها عن السلام والقانون الدولي وحقوق الإنسان".
كما قررت مدريد منع وزيري الحكومة الإسرائيلية إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من دخول الأراضي الإسبانية، وقالت إن إجراءات سانشيز تعبّر عن الرأي العام الإسباني، وتعكس دعم مدريد للسلام وحقوق الإنسان.
وفي خطابه الذي أعلن فيه عن إجراءات عقابية ضد إسرائيل، قال رئيس الوزراء الاشتراكي إن ما بدأ ردًا على "هجمات حماس الوحشية" في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 لم يعد "دفاعًا عن النفس، ولا حتى هجومًا، بل هو إبادة لشعب أعزل وانتهاك صارخ لجميع القوانين الإنسانية".
ولهذا السبب، قال سانشيز إن هذه الإجراءات تهدف إلى ملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات، وتُسهم في زيادة الضغط على نتنياهو وحكومته "لتخفيف جزء من المعاناة التي يتكبدها الشعب الفلسطيني".
حظر سلاح وتقييدات لوجستية
تتضمّن العقوبات التي أعلن سانشيز فرضها على إسرائيل في الثامن من سبتمبر /أيلول الجاري تسعة إجراءات جديدة:
-
حظر دائم على بيع وشراء الأسلحة والمعدات العسكرية مع إسرائيل، بموجب مرسوم ملكي.
-
منع السفن التي تنقل وقودًا للجيش الإسرائيلي من دخول الموانئ الإسبانية.
-
منع الطائرات التي تحمل معدات دفاعية إلى إسرائيل من عبور الأجواء الإسبانية.
-
حظر دخول المتورطين في جرائم حرب وانتهاكات حقوق الإنسان في غزة.
-
حظر استيراد منتجات المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية.
-
تقليص الخدمات القنصلية لسكان المستوطنات.
-
تعزيز التعاون مع دولة فلسطين وزيادة عدد الموظفين في بعثة المساعدات الأوروبية عند معبر رفح.
-
رفع المساهمة في تمويل "الأونروا" بمقدار 10 ملايين يورو.
-
زيادة المساعدات الإنسانية إلى غزة لتصل إلى 150 مليون يورو.
وجاءت هذه العقوبات في وقت يشهد فيه الاتحاد الأوروبي انقسامًا بشأن كيفية التعامل مع إسرائيل، فعلى الرغم من أن حكومات أوروبية عديدة تندّد بما ترتكبه إسرائيل إلا أنها لم تتمكن من الاتفاق على اتخاذ إجراءات سياسية أو اقتصادية جماعية مؤثرة ضد تل أبيب.
وتدعو دول، مثل أيرلندا وإسبانيا والسويد وهولندا، إلى تعليق اتفاقية التجارة الحرة للاتحاد الأوروبي مع إسرائيل، لكن حلفاء تل أبيب التقليديين مثل ألمانيا والمجر وجمهورية التشيك، يرفضون ذلك.
والاتحاد الأوروبي هو أكبر شركاء إسرائيل التجاريين، وبلغت قيمة التبادل التجاري بين الجانبين 42.6 مليار يورو (49.9 مليار دولار) العام الماضي.
إبادة جماعية
تُعد إسبانيا من أوائل الدول التي اعترفت بدولة فلسطين في مايو/ أيار 2024، ويُعد سانشيز المسؤول الأوروبي الأرفع شأنًا الذي يستخدم مصطلح "إبادة جماعية" لوصف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وفي 15 مايو، استدعت الخارجية الإسرائيلية السفير الإسباني للاحتجاج على تصريحات وصفتها بالخطرة لسانشيز، فخلال جلسة للبرلمان سأله أحد النواب عمّا إذا كانت إسبانيا "تتعامل تجاريًا مع دولة إبادة جماعية مثل إسرائيل"، فأجاب سانشيز "نحن لا نتعامل تجاريًا مع دولة إبادة جماعية"، من دون أن يذكر إسرائيل بالاسم.
لكنه قرن الإبادة بإسرائيل بعد ذلك لأول مرة في 26 يونيو/ حزيران، خلال تصريحات له في بروكسل قبيل قمة للاتحاد الأوروبي، حيث وصف الوضع في قطاع غزة بأنه "إبادة جماعية"، ليصبح بذلك أول مسؤول أوروبي على هذا المستوى يستخدم التعبير.
وكانت مدريد أعلنت في 6 يونيو/ حزيران 2024 أنها ستنضم إلى قضية جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية التي تتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة، وقال وزير خارجيتها خوسيه مانويل ألباريس إن هدفها من ذلك "إنهاء الحرب والمضي قدمًا على طريق تطبيق حل الدولتين".
كما كانت مدريد من أوائل الدول التي ألغت عقود تسلّح مع شركات إسرائيلية، ففي 25 أبريل/نيسان الماضي ألغت من طرف واحد عقد أسلحة بقيمة 6,8 ملايين يورو مع شركة آي إم آي سيستمز الإسرائيلية، وبرّرت مصادر حكومية ذلك بالتأكيد على أن الحزب الاشتراكي الذي يتزعمه سانشيز وحليفه ائتلاف "سومار" اليساري الراديكالي "ملتزمان بالقضية الفلسطينية بقوة".
وندّدت إسرائيل بالقرار الإسباني، متّهمة حكومة سانشيز بأنها "لا تزال تقف في الجانب الخاطئ من التاريخ ضد الدولة اليهودية التي تدافع عن نفسها ضد الهجمات الإرهابية".
إلغاء عقود تسلّح
لم تكن هذه الصفقة الوحيدة التي تلغيها مدريد، ففي الرابع من يونيو الماضي ألغت صفقة شراء 168 قاذفة و1680 صاروخًا مضادة للدبابات من شركة رافائيل الإسرائيلية.
ونقلت صحيفة "إل باييس" اليومية عن مصادر حكومية قولها إن قيمة العقد المذكور بلغت 287,5 مليون يورو، وكان من المقرر تصنيع المعدات في إسبانيا بموجب ترخيص من الشركة الإسرائيلية.
وعلى الرغم من أن سانشيز أوقف صفقات التسلح مع إسرائيل بعد بدء العدوان على غزة إلا أن مركز "ديلاس"، وهو معهد أبحاث مقره برشلونة متخصص في الأمن والدفاع، قدّر في تقرير أصدره في أبريل/ نيسان الماضي أن مدريد منحت 46 عقدًا بقيمة 1,044 مليار دولار لشركات إسرائيلية منذ بداية العدوان.
إلا أن وزارة الداخلية الإسبانية أكدت أنها أوفت بالتزامها عدم بيع أو شراء أسلحة إسرائيلية، وإن التقرير تضمن عقودًا أعلنت الحكومة أنها ستنهيها، مضيفة أنه "تم إدراج شحنات معدات مخصصة للدفاع عن النفس، وهي لا تعتبر خاضعة للتعهد بعدم توقيع عقود شراء أسلحة مع شركات إسرائيلية".
وكان رئيسا وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز والبلجيكي ألكسندر دي كرو، زارا معبر رفح بين قطاع غزة ومصر في 24 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023. وفي مؤتمر صحافي قال سانشيز إن "قتل المدنيين الأبرياء بدون تمييز غير مقبول على الإطلاق". واعتبر "إن إيجاد حل لأزمة غزة لا يكفي".
وأصر على أن إسرائيل يجب أن تكون أول من يتخذ "نهجًا شاملًا" لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر منذ عقود بما "يشمل الضفة الغربية والقدس الشرقية"، كما دعا سانشيز إلى "اعتراف المجتمع الدولي وإسرائيل بدولة فلسطين".
من جانبه شدّد رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كرو على أن "مقتل المدنيين يجب أن يتوقف" وأن الرد الإسرائيلي في قطاع غزة يجب أن "يحترم القانون الإنساني الدولي".
واستدعى وزير الخارجية الإسرائيلي (في حينه) إيلي كوهين سفيري البلدين، وقال في بيان: "ندين المزاعم الكاذبة لرئيسي وزراء إسبانيا وبلجيكا اللتين تقدمان الدعم للإرهاب"، كما أعلن كوهين استدعاء سفيرة بلاده لدى مدريد بسبب ما وصفها "التصريحات المشينة" لسانشيز.
وخلال اجتماع للحزب الاشتراكي في مدريد أعقب زيارته إلى معبر رفح، قال رئيس الوزراء الإسباني إن "إدانة الهجمات المشينة التي تشنها جماعة إرهابية مثل حماس، وفي الوقت نفسه إدانة القتل العشوائي للفلسطينيين في غزة ليست مسألة سياسة أو أيديولوجية، إنها مسألة إنسانية".
وفي الثلاثين من نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 اعتبر سانشيز أنه "من مصلحة" الاتحاد الأوروبي الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وأكد في مقابلة مع محطة "آر إي تي في" العامة "من الواضح أن علينا إيجاد حل سياسي لإنهاء هذه الأزمة وهذا الحل يتضمن، في رأيي، الاعتراف بالدولة الفلسطينية".
وأوضح أن هذا الاعتراف "هو في مصلحة أوروبا لسبب أخلاقي، لأن ما نراه في غزة غير مقبول"، لكن أيضًا لسبب "جيوسياسي" لأنه يساهم في "استقرار" المنطقة.
أكاديمي في حزب العمّال
وُلد بيدرو سانشيز عام 1972، لأب رجل أعمال وأم موظفة في الضمان الاجتماعي.
درس سانشيز المعروف بممارسة الرياضة وخاصة كرة السلة، الاقتصاد وإدارة الأعمال في جامعة كومبلوتينسي في مدريد، ثم السياسة والاقتصاد في جامعة بروكسل الحرة، وحصل على دكتوراه في الفلسفة في إدارة الأعمال والاقتصاد عام 2012 عن أطروحة بعنوان "الدبلوماسية الاقتصادية الأوروبية الجديدة".
انضم إلى حزب العمال الاشتراكي بعد فوز فيليبي غونزاليز في التسعينيات، وعمل في البرلمان الأوروبي، ثم رئيسًا لموظفي الممثل الأعلى للأمم المتحدة في البوسنة خلال حرب كوسوفو، قبل أن يُنتخب عضوًا في مجلس مدينة مدريد ما بين عامي 2004 و2009، ثم في مجلس النواب عام 2009.
انتُخب أمينًا عامًا لحزب العمال الاشتراكي عام 2014، وقاد الحزب في انتخابات 2015 و2016، وفي عام 2019 قاده لتحقيق أول انتصار وطني منذ عام 2008، بحصوله على 38 مقعدًا في الانتخابات، وشكل حكومتين ائتلافيتين عامي 2018 و2020. وفي ديسمبر الماضي، أعيد انتخابه بالتزكية رئيسًا للحزب.