يحلّ معاوية بن أبي سفيان ضيفًا على مشاهدي الدراما الرمضانية هذا العام، بعد تأجيل لعامين كاملين شهدت خلالهما المنطقة تغيّرات عاصفة، مهّدت الطريق أمام الضيف الاستثنائي، المثير للجدل في حياته وخلال أربعة عشر قرنًا أعقبت وفاته.
وبحسب الإعلان الترويجي لمسلسل "معاوية" الذي أنتجته شبكة "إم. بي. سي" فإنه يتناول ما قالت الشبكة إنها "قصة الإمبراطورية التي كتبت تاريخًا لا يُنسى امتد من الشرق إلى الغرب"، وتركز أحداث المسلسل على أول الخلفاء الأمويين، ومن يوصف بمؤسس أول إمبراطورية عربية-إسلامية في التاريخ.
المسلسل من إخراج طارق العريان، وكتبه للتلفزيون الصحافي المصري خالد صلاح في أولى تجاربه في الكتابة الدرامية، وهو من بطولة لجين إسماعيل الذي يقوم بدور معاوية بن أبي سفيان، وإياد نصّار بدور علي بن أبي طالب، وعدد كبير من نجوم الدراما العربية.
أضخم ميزانية في تاريخ الدراما العربية
يعتبر "معاوية" من أكثر الأعمال الدرامية العربية تكلفة على الإطلاق، وتتباين تكلفة إنتاجه بحسب تقارير إخبارية لم تؤكدها شبكة إم.بي.سي، ولم تنفها، ما بين 75 مليون دولار إلى 100 مليون دولار، وهي تكلفة غير مسبوقة ولم تعرفها صناعة الدراما العربية في السينما والتلفزيون من قبل.
بدأ تصوير العمل في استوديوهات كارتاغو في مدينة الحمّامات السياحية في تونس، في يوليو/ تموز 2022، وكان يفترض أن ينتهي في ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، ليكون جاهزًا للبث في رمضان 2023 الذي وافق بدؤه في مارس/ آذار من ذلك العام.
لكنّ ظروفًا طرأت وضجة أُثيرت حول المسلسل حالت دون بثه، مرة بحاجته إلى مزيد من العمل لاستكماله، وأخرى بالقول: إنّ حسابات سياسية جرى التكتّم عنها تقف وراء تأجيل بث المسلسل، ما أنشأ مساحة من الغموض حول مصير المسلسل لم تحسم إلا في 23 مارس/ آذار 2023، وهو أول يوم من رمضان ذلك العام، بتعليق مقتضب أعلنته منصة شاهد على تويتر بأن المسلسل لن يُبث، وأنه أصبح "للأسف، خارج السباق الرمضاني".
على أن ذلك الإعلان ظل غير رسمي، ما ساهم في استمرار حالة الغموض التي اكتنفت مصير المسلسل، خاصة بعد إعلان الاتفاق بين السعودية وإيران على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما في 10 مارس/ آذار من العام نفسه بوساطة صينية، ما دفع مشاهدين وصناع دراما ونقادًا إلى نعي المسلسل، والقول إنه لن يُبث أيضًا في مقبل الأعوام.
واستمرت حالة الغموض هذه إلى ما قبل نحو أسبوعين من رمضان الحالي، قبل أن تُحسم بالإعلان الترويجي عن قرب بث المسلسل الذي بثته شبكة إم.بي.سي على منصة شاهد قبل أيام.
بين معاوية و"أبو لؤلؤة"
وشهد فبراير/ شباط 2023 جدلًا تصاعد حول المسلسل بعد إعلان شبكة إم.بي.سي أنه سيُبث في رمضان، وشاركت في هذا الجدل شخصيات دينية عراقية دعت إلى عدم بث المسلسل، بينما أعلنت قناة "الشعائر" العراقية أنها تعتزم إنتاج فيلم تاريخي قالت إنه سيكون ضخمًا، وبمشاركة ممثلين عرب وإيرانيين، عن "شجاعة أبو لؤلؤة".
وأبو لؤلؤة هو فيروز الفارسي الذي قتل ثاني الخلفاء المسلمين، عمر بن الخطاب، بخنجر خلال صلاة الفجر عام 644.
وأثار إعلان القناة العراقية مخاوف من نقل الجدل من خانة علاقة الدراما التلفزيونية بالشخصيات التاريخية ومدى الحرية التي يتمتع بها الفن في مقاربة هذه الشخصيات، إلى خانة تسييس الدراما و"تطييفها"، ما غذّى المخاوف من فتنة دينية محتملة في المنطقة العربية.
نصيحة مقتدى الصدر
في خضم ذلك الجدل أصدر رجل الدين العراقي مقتدى الصدر بيانًا على تويتر في 14 فبراير/ شباط 2023، قال فيه إنه يرى أن من "الأجدر والأفضل بل المُتعيّن أن تتراجع قناة "إم. بي. سي" عن بث مسلسل درامي بخصوص معاوية"، الذي وصفه بيان الصدر بأنه "رأس الفتنة الطائفية، وأول من سبّ الصحابة، وأول من خرج عن إمام زمانه وشق صف الوحدة الإسلامية، وأول من قتل الصحابة رضوان الله عليهم".
ورأى الصدر أن "بث مثل هذه المسلسلات مخالف للسياسات الجديدة المعتدلة التي انتهجتها السعودية الشقيقة، فلذلك نسترعي انتباهكم، فلا داعي لجرح مشاعر إخوتكم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وإني لكم من الناصحين".
ولم يكتف رجل الدين العراقي مقتدى الصدر ببيانه هذا بل أصدر عدة بيانات لاحقًا، قال في أحدها إن الجميع يعرف نبذه للطائفية "إلا أن ذلك لا يعني القبول بالمساواة" بين علي بن أبي طالب ومعاوية.
وبعد ذلك أصدر الصدر بيانًا رفض اعتزام قناة الشعائر إنتاج مسلسل عن أبي لؤلؤة، قاتل الخليفة عمر بن الخطّاب، ردًا على مسلسل "معاوية"، قال فيه: "كلا المسلسلين باطل ومثير للفتنة، فمعاوية لا يمثّل السُنّة ولا أبو لؤلؤة يمثّل الشيعة"، وطالب بمنع عرض المسلسلين.
وقد أعلنت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية عن منع بث المسلسلين، بعد تقارير صدرت عن قناة إم.بي.سي- العراق بأنها لن تبث "معاوية" على شاشتها، وهو ما أوضحت الشبكة لاحقًا أنه لا يمثلها، وأنها لم تصدر أي بيان رسمي حول الأمر باعتبارها الجهة الوحيدة المخوّلة الحديث عن مصير المسلسل.
مؤسس أول إمبراطورية إسلامية
بعيدًا عن الجدل الديني حول معاوية بن أبي سفيان فإنه يعتبر شخصية درامية بامتياز، فهو نجل واحد من أبرز رجالات قريش وأكثرهم ثراء، وامرأة (هند بنت عتبة) معتدة بنفسها ونسبها، وكلاهما (الأب والأم) لم يُسلما إلا بعد فتح مكة.
يعتبر معاوية شخصية استثنائية، فهو مؤسس أول إمبراطورية في التاريخ العربي والإسلامي، وهو من أصحاب النبي وأحد كتّاب الوحي، ومنشئ الدولة القائمة على السياسة بالمفهوم المعاصر، وإن كانت وراثية، ما جعل منه أول ملوك الدولة الإسلامية، وفقًا لبعض المؤرخين.
وبعيدًا عن دوره فيما تسمى بالفتنة التي نشأت وتوحشت في الحقبة الأولى من الإسلام، بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، فإن شخصية معاوية تكتنز بالتناقضات التي تندرج ضمن مفهوم الشخصية الدرامية التي تنتقل من طور إلى آخر، وهي محمّلة بتناقضات تتطور وتتغيّر دينامياتها بما يدفعها إلى اتخاذ قرارات صعبة، بعضها قد يكون ذا مسحة وجودية.
ومن اللافت أن أولى زوجاته كانت شاعرة وتنتمي إلى الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وأنه نُسب إليه الشيء ونقيضه، بفضل ما وصف بمكره، وإليه يعود توسّع انتشار الإسلام في حقبته الأولى.
مأزق الدراما التاريخية
ما سبق يكشف مأزق صناعة الدراما العربية في مقاربة التاريخ، فالأولوية تذهب غالبًا إلى الإكراهات السياسية والأيديولوجية التي تضغط على صنّاع الدراما لإقصاء الذروات الدرامية المرتبطة بالشخصيات التي تعاينها.
يحدث هذا إذا كانت هذه الشخصيات مثار جدل أو سببًا في الانقسام، ما يفرّغها من غناها الدرامي، والأحداث من شحنتها العالية، ويُضعف العمل الدرامي في نهاية المطاف، باعتباره وثيقة تاريخية لا عملًا فنيًا.
كما يتم إكراه العمل الدرامي على تبني وجهة النظر هذه أو تلك، أو التطابق مع السرد التاريخي للأحداث ودور الشخصيات الرئيسية فيه، ما يجعل من مهمة كتّاب هذا النمط من الأعمال الدرامية أكثر صعوبة، ومحفوفة بسوء الفهم، ما يدفعهم وشركات الإنتاج إلى البحث عن مظلة أمان توفر لهم بعض الحرية في مقاربة موضوعاتهم التاريخية، وتحفظ لهم مساحة تخيل ضرورية لتنتمي أعمالهم إلى الفن لا التوثيق والدعاية الفجة التي تتناقض مع العمل الدرامي جذريًا، وهو ما لم ينجُ منه كبار كتًاب الدراما العرب.
وليد سيف وحاتم علي
يعتبر وليد سيف، وهو أكاديمي وشاعر فلسطيني، من أهم كتّاب الدراما التاريخية، وشكّل مع المخرج السوري الراحل حاتم علي ثنائيًا نادرًا أغنى الدراما العربية بأعمال تاريخية ضخمة، حافظت على فنيتها العالية رغم إكراهات السياسة والأيديولوجيا، ومحاولات التوظيف التي سعت إليها جهات أو دول في المنطقة.
وكان مسلسل "عمر" الذي عرض عام 2012 آخر أعمالهما المشتركة في الدراما التاريخية.
ورغم إبداعهما المشهود له وثقافة سيف الكبيرة، إلا أن مسلسلهما لم يمر دون مراجعة من لجنة تتكون من عدد من رجال الدين المشهود لهم بالمرونة وسعة الخيال، ومن بينهم الشيخ الراحل يوسف القرضاوي، لإجازة العمل الدرامي قبل بثه.
يذكر أن حاتم علي ووليد سيف أنتجا قبل مسلسل "عمر"، عدة مسلسلات تاريخية تعتبر استثنائية في تاريخ الدراما العربية، منها صلاح الدين وثلاثية الأندلس (صقر قريش، وربيع قرطبة، وملوك الطوائف).
