تثير العلاقات اللبنانية السورية جدلاً واسعًا في ضوء المتغيّرات التي تشهدها دمشق، بعد إسقاط نظام بشار الأسد، ومعه حكم حزب البعث الذي استمرّ لنصف قرن، ورسم قصّة هيمنة طويلة، سُمّيت بـ"الوصاية السورية على لبنان"، وإن أخذت برأي كثيرين شكل "احتلال".
فقد دخل الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 بعد قرابة سنة على اندلاع الحرب الأهلية (1975-1990) وسرعان ما تحوّل الوجود السوري المؤقت إلى بقاءٍ دائم بحجة تأمين الاستقرار ودحر الاحتلال الإسرائيلي (1978-2000). وقد شهدت هذه الفترة تقلّبات للتحالفات السورية اللبنانية الداخلية وتكريسًا للهيمنة السورية على مجريات النزاع، خصوصًا بعد سقوط اتفاق 17 أيار بين لبنان وإسرائيل عام 1984.
فقد نجح نظام حافظ الأسد بعد ذلك بالتفاهم مع الولايات المتحدة الأميركية على شروط استمرار وجوده، وجاءت الترجمة الجليّة لهذا الاتفاق عام 1988، عندما تبّنت أميركا مرشح سوريا للانتخابات الرئاسية اللبنانية، حيث يذكر معظم اللبنانيين الجملة الشهيرة للمبعوث الرئاسي ريتشارد مورفي: "إما مخايل الضاهر وإما الفوضى".
وثبّت انهيار الاتحاد السوفياتي والعدوان العراقي على الكويت ومشاركة سوريا في التحالف ضد العراق عام 1990 التقارب السوري الأميركي، ما عزز النفوذ السوري على الساحة اللبنانية.
كما أتاحت هذه التغيّرات الدولية والإقليمية الفرصة أمام سوريا لبسط سيطرتها العسكرية على المناطق التي كانت لا تزال خارج قبضتها، حيث شنّت قواتها في 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990، هجومًا حاسمًا ضد جيش العماد ميشال عون، ما دفع الأخير إلى اللجوء إلى فرنسا. وفي النتيجة، أعلِنت نهاية الحرب، التي شكّلت بداية غير مُعلَنة لزمن الوصاية السورية على لبنان.
1991-2005: لبنان تحت الوصاية السورية
شكّلت نهاية الحرب الأهلية عام 1990 وإقرار قانون العفو العام سنة 1991 الذي سمح لزعماء الحرب بالعودة إلى الحكم كزعماء السلم ونزع سلاح الميليشيات باستثناء سلاح حزب الله الموجّه ضد الاحتلال الإسرائيلي المستمر للجنوب، بداية سيطرة النظام السوري شبه الكاملة على السياسة الداخلية والخارجية اللبنانية.
-
من الناحية القانونية
استند النظام السوري حينها إلى "القانون" لتكريس سيطرته من خلال توقيع سلسلة معاهدات رسمية بين الدولتين. ففي 22 مايو/ أيار 1991، تم توقيع "معاهدة الأخوة والتعاون والتنسيق"، التي شرّعت الوجود العسكري السوري في لبنان، وجعلت الجيش السوري مسؤولًا عن حماية لبنان من التهديدات الخارجية وأفضت إلى تأسيس المجلس الأعلى السوري اللبناني.
وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، تمّ توقيع ميثاق دفاع وأمن بين البلدين والذي نصّ على التنسيق والتعاون الشامل بين المؤسسات العسكرية والأمنية والاستخباراتية. ودخلت خلال تلك الفترة عبارة "العلاقات المميزة[1]" القاموس الرسمي للدولة اللبنانية.
ومنذ ذلك الحين، تمّ توقيع أكثر من أربعين اتفاقية في مجالات الأمن، والدفاع، وتقاسم المياه، والعبور، والاقتصاد، والتعليم والتربية وتجنب الازدواج الضريبي، والتمثيل الدبلوماسي، والعمل، والرياضة وغيرها.

بموازاة ذلك، قرر نظام الأسد تعليق تنفيذ وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي كانت قد أقرّت في مدينة الطائف في المملكة العربية السعودية عام 1989 وعُرِفت باتفاق الطائف، إذ كان أحد بنودها يضمن الانسحاب السوري من لبنان. نجحت دمشق في إحباط الاتفاق، مستعينة بحلفائها اللبنانيين، وربطت وجودها بردع الاحتلال الإسرائيلي، مستكملة سرديتها خلال الحرب الأهلية، حتى باتت أصابع الخيانة توجّه إلى كلّ من ينادي بتطبيق الاتفاق أو يجرؤ على ذكره.
-
على الصعيد السياسي
سياسيًا، عمل الأسد بمساعدة حلفائه في لبنان على تقويض معارضيه: تمّ ملاحقة وسجن مناصري العماد عون، سُجِن قائد "القوات" سمير جعجع عام 1994 بعد توقيفه بتهمة تفجير كنيسة، وانقلبت القيادة داخل حزب الكتائب فتوّلاها مقرّبون من سوريا.
بموازاة ذلك، أُعيد تنظيم هيكلية الجيش والقوى الأمنية بطريقة تخدم مصالح نظام الأسد، فتسلّم المقرّبون منه المناصب العليا في تلك الأجهزة، ما سمح بفرض رقابة محكمة على حياة اللبنانيين من الجامعات، إلى الإعلام والقضاء وغيرهم. و"بحلول عام 1995، ترّسخ ما سمّته المعارضة "النظام الأمني المشترك"، وهو الجهاز الأمني السوري-اللبناني الذي كان يسيطر على البلاد[2]".
بالإضافة إلى ذلك، كان النظام بواسطة ممثليه في لبنان، اللواء غازي كنعان ومن ثمّ رستم غزالة، يمدد ويسمّي رؤساء الجمهورية، ويشرف على تشكيل الحكومات، ويضع القوانين الانتخابية ويؤلف اللوائح في الانتخابات النيابية والبلدية. فعلى سبيل المثال، سمّيَ قانون الانتخابات النيابية عام 2000 بـ"قانون غازي كنعان" وقد قيل حينها إنه وضعه لتسهيل فوز حلفائه في الانتخابات النيابية.
وكان قد تمّ "تكريم" كنعان الملقب بـ"المفوض السامي[3]" في بيروت عام 2002 بعد أن صدر قرار نقله إلى دمشق، فقلّده رئيس الجمهورية حينها إميل لحود أرفع وسام لبناني وجرى تسليمه مفتاح مدينة بيروت في حفل رسمي حضره الحريري. أما بالنسبة لغزالة، فقد تورط في الفضيحة المالية الضخمة الناتجة عن إفلاس مصرف المدينة في عام 2003، الذي كان بمثابة مضخة مالية للضباط السوريين الكبار وشركائهم اللبنانيين.[4]
وكانت مدينة عنجر في البقاع، حيث مقرّ المخابرات السورية الرئيسي، قد أصبحت محطة زيارة أساسية لكلّ مرشح لتبوء أي مركز في السلطة اللبنانية، في حين أضحى فندق بوريفاج[5] في بيروت مرتبطًا بعمليات التعذيب الذي كانت تمارسه المخابرات السورية في حق معارضيها اللبنانيين.
إلى جانب ذلك، ابتكرت دمشق بالتنسيق مع حلفائها في لبنان ما عُرِفَ بـ"الترويكا" اللبنانية وهي صيغة كرّست تقاسم النفوذ بين رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الحكومة السني ورئيس مجلس النواب الشيعي. وسمح ذلك لدمشق "بشدّ الحبال" بين هؤلاء وبلعب دور الحكم عند وقوع أي خلاف بينهم، وهو الدور الذي أنيط به نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، الذي كان يستقبل المسؤولين اللبنانيين واحدًا تلو الآخر في مكتبه في دمشق.
-
على المستوى الأمني
وكما خلال الحرب الأهلية، فقد استثمر الأسد هذه السيطرة "لتحسين شروطه خلال مفاوضات السلام العربية-الإسرائيلية في مؤتمر مدريد عام 1991، ولتثبيت دور سوريا كقوة إقليمية رئيسية تمرّ التسوية الشاملة في المنطقة عبرها"[6].
وعليه، قرر الربط بين مساري التفاوض السوري واللبناني بعد استثنائه من اتفاق أوسلو عام 1993 وتوقيع معاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994. وابتدع مصطلح "تلازم المسارين"، "هذا المفهوم الطلسمي"، على حدّ قول الكاتب سمير قصير، "الذي جعل من ترابط المسار اللبناني-الإسرائيلي والمسار السوري-الإسرائيلي فرضية لا تقبل أي نقاش، ليكمّل تعطيل الدبلوماسية اللبنانية، وهي التي كانت حتى تلك اللحظة حريصة على مبدأ الفصل بين الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان والصراع العربي-الإسرائيلي[7]".
وبالتالي عندما شنّت قوات الإحتلال الإسرائيلي حرب "عناقيد الغضب" ضد لبنان في أبريل/ نيسان 1996، شارك حافظ الأسد في المفاوضات نيابة عن لبنان. كما ضمّت اللجنة المتعددة الأطراف، التي شُكّلت لمراقبة "تفاهم أبريل" الناتج عن الحرب، ممثلًا سوريًا، فيما جاء في نص الاتفاق بند كرّس "التلازم" إذ اقترحت الولايات المتحدة الأميركية "استئناف المفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وبين لبنان وإسرائيل في وقت يتفق عليه بهدف التوصل إلى سلام شامل". وكان النظام السوري قبل ذلك قد رسّخ عقيدة "الجيش-الشعب-المقاومة"، التي باتت السياسة الرسمية للدولة اللبنانية إثر تكريسها في البيان الوزاري لأول حكومة ترأسها رفيق الحريري عام 1992[8].
بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في مايو/ أيار 2000، بات كلٌّ من حزب الله وسوريا تحت الرقابة الدولية والمحلية. اعتبر البعض أنّ إعلان حزب الله نيّته تحرير مزارع شبعا أيضًا هو ذريعة للحفاظ على ترسانته العسكرية. فقد شكّل الانسحاب تهديدًا لدمشق بفقدان ورقة الضغط الأساسية التي كانت تستخدمها في مفاوضاتها مع إسرائيل، فيما كانت وفاة حافظ الأسد، بعد أسبوعين على تحرير الجنوب، و"انتخاب" ابنه بشار رئيسًا للجمهورية السورية، تضع مستقبل نظامه على المحك.
وقد دفع ذلك الحكومتين السورية واللبنانية إلى الإعلان عن أنّ استمرار الاحتلال الإسرائيلي لمزارع شبعا -وهي أرض تعتبرها إسرائيل والأمم المتحدة جزءًا من هضبة الجولان، بينما تعتبرها سوريا ولبنان جزءًا من الأراضي اللبنانية- يعني أن إسرائيل لم تمتثل لقرار مجلس الأمن 425. ولا تزال هذه المسألة عالقة حتى اليوم في انتظار ترسيم الحدود البرية بين لبنان وسوريا.
-
في الاقتصاد
على الصعيد الاقتصادي، شهدت فترة ما بعد الحرب "صعود الكارتيلات وعقد صفقات تجارية رأت في فترة إعادة الإعمار فرصة لتكوين ثروات وتمكين تحالفات بين النظامين السوري واللبناني[9]"، حسب رئيس برنامج السياسة والعلاقات الدولية في معهد الدوحة للدراسات العليا الدكتور باسل صلوخ. فقد دخل أصحاب أعمال مقرّبون من النظام، إلى جانب شركائهم اللبنانيين، في عدّة قطاعات اقتصادية ربحية، لا سيما شركات الخليوي ومشاريع إعادة الإعمار.
فقد تشارك كلّ من ابن وزير الدفاع محسن دلول[10] مع عبد الحليم خدام والأخوين طه ونجيب ميقاتي[11] مع ابن شقيقة حافظ الأسد رامي مخلوف في تأسيس شركات الاتصالات. فكان الشركاء السوريون يمنحون الغطاء لشركائهم اللبنانيين لانتهاك التشريعات اللبنانية ويشاركونهم أرباحًا تصل إلى مئات آلاف الدولارات سنويًا. في المقابل، ومن أجل تعزيز هذا التشبيك، استثمر آل ميقاتي في إحدى شركتي الهاتف المحمول المرخصتين في سوريا عام 2000 (وتعود ملكيتهما في الغالب إلى مخلوف)[12].
إلى ذلك، "كانت إحدى شركات المقاولات السورية[13] تحتكر التعهدات في جنوب لبنان، في مقابل حصة لشركاء لبنانيين من هذه المنطقة[14]". فعلى سبيل المثال، أتت تكلفة بناء جزء من الطريق السريع الذي يربط مدينتي صيدا وصور أعلى بنسبة 23% مما كان قد قدّره مجلس الإنماء والإعمار.[15] كما نظّم رفعت الأسد، شقيق رئيس النظام السوري، الذي نهب رجاله لبنان منذ الثمانينيّات، مجموعة من رجال الأعمال الذين عملوا عبر الحدود تحت حمايته. وقد أصبح بعدها مستثمرًا مباشرًا بالشراكة مع عائلات كبيرة من شمال لبنان، وأخذ نصيبه من الأرباح من مصانع الإسمنت في شكا، وشارك في بناء واستثمار المجمعات السياحية على ساحل كسروان[16].
وقد برزت منطقة البقاع، الخاضعة للسيطرة السورية منذ منتصف السبعينيّات، كمستودع للمنتجات السورية المعدّة للتصدير. إذ كانت السلع السورية التي تمر عبر لبنان ويعاد تصديرها بحرًا أو جوًا معفاة من الرسوم الجمركية. أما الحواجز التي كان يديرها ضباط المخابرات السورية على الطرق الرئيسية المؤدية إلى صيدا والشمال، فكانت أشبه بمحطات جمركية تفرض رسومًا ثابتة على كل شاحنة تمر. فعلي سبيل المثال، كان الحاجز على مدخل مدينة صيدا يُعرَف باسم "حاجز الألف[17]"، نسبةً إلى ورقة الألف ليرة اللبنانية، وهو مبلغ كان يقتطع من جميع الشاحنات[18]. "وقدّرت إحدى الدراسات أنّ العائدات من هذه الحواجز بين عامي 1976 و1990 بلغت نحو 1.6 مليار دولار. كما قدّرت الدراسة ذاتها أنّ إجمالي الرسوم المدفوعة لضباط المخابرات السورية بين عامي 1976 و2004 بلغ حوالي 5.4 مليار دولار، في حين بلغت الخسائر اللبنانية الناتجة عن الوجود العسكري والاستخباراتي السوري في لبنان بين عامي 1976 و2005 ما يقارب 27 مليار دولار[19]".
علاوة على ذلك، شكّل لبنان سوقًا مفتوحة لمئات الآلاف من العمال السوريين الذين توافدوا للعمل في أوائل التسعينيّات خلال مرحلة إعادة الإعمار. وقد اعتمد اقتصاد مناطق كالجزيرة والحسكة بشكل كبير على التحويلات المالية التي أرسلها هؤلاء العمال إلى عائلاتهم، فشكّلت بالنسبة إلى المسؤولين في دمشق نوعًا من "نظام الحماية الاجتماعية بقدر ما أتت بمساهمة مهمة لميزان المدفوعات[20]".
وتعتبر الباحثة في العلوم السياسية إليزابيث بيكارد أنّ "النظام السوري استخدم لبنان كمساحة لتصدير مشكلات البطالة وتأمين تعويضات مالية تهدف إلى تهدئة احتجاجات كوادره[21]". بالإضافة إلى ذلك، تفادت وزارة العمل اللبنانية تنظيم عمل السوريين، الذين كانوا بمعظمهم غير مسجلين، مما سمح لهم بتجنّب دفع رسوم التسجيل والضرائب[22].

2000-2005: من وصول بشار الأسد إلى الحكم إلى اغتيال رفيق الحريري
بدأ تراجع النفوذ السوري في لبنان بشكل جدي، وإن كان تدريجيًا، عقب انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من الجنوب في مايو 2000. ومنذ ذلك الحين، اضطرت سوريا إلى مواجهة ضغوط داخلية في لبنان، إلى جانب ضغوط خارجية من الولايات المتحدة وأوروبا، تهدف إلى إخراجها من لبنان. وتمّ تعيين بشار الأسد، الذي كان قد تولّى تدريجيًا المسؤولية عن الملف اللبناني بعد وفاة شقيقه باسل في حادث سير عام 1994، رئيسًا للنظام السوري في يوليو/ تموز 2000 عقب وفاة والده.
لكن بشار كان قد بدأ بإحكام سلطته على لبنان قبل ذلك وتحديدًا بعد قراره اختيار قائد الجيش العماد إميل لحود رئيسًا للجمهورية في نوفمبر/ تشرين الثاني 1998، بعد انتهاء ولاية الرئيس الياس الهراوي الذي كان قد مدد عهده ثلاث سنوات. كان بشار، حسب بيكارد، "يسعى لإعادة تشكيل شبكات السلطة في لبنان لتصبح مشابهة لتلك في سوريا: متقاربة وخاضعة لسلطته فقط[23]" مما وضع الثنائي خدام-الحريري وآخرين مثل جنبلاط في مرماه.
وقد أدّى ذلك في مرحلة أولى إلى ابتعاد الحريري عن الحكومة للمرة الأولى منذ عام 1992 من ديسمبر/ كانون الأول 1998 إلى أكتوبر/ تشرين الأول 2000. ثم جاء استدعاء اللواء غازي كنعان إلى دمشق وتعيين رستم غزالي خلفًا له في عنجر في ديسمبر 2002 ليؤكد تشديد السيطرة من قبل الرئيس السوري الجديد على الشؤون اللبنانية. اضطر خدام للتخلّي عن طموحاته في أن يكون الموجه له، وتم تهميشه حتى استقالته في يونيو/ حزيران 2005 ونفيه إلى باريس، حيث سكن في أحد منازل الحريري[24].
وشكّل الغزو الأميركي للعراق عام 2003 نقطة التحوّل الثانية بعد الانسحاب الإسرائيلي. سعى المحافظون الجدد في إدارة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن إلى استهداف نظام بشار الأسد، كجزء من استراتيجية أوسع لإعادة ترتيب المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط. ومرة أخرى، أخطأ الأسد في قراءة التحوّلات، بينما كان الأميركيون والفرنسيون قد حسموا أمرهم وقرروا إنهاء "الوجود السوري" في لبنان.
بناء عليه، صدر في 12 أبريل/ نيسان 2003 قانون محاسبة سوريا واستعادة سيادة لبنان، تلاه قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الصادر في 2 سبتمبر/ أيلول 2004 – اللذين طالبا، بـ"انسحاب جميع القوات الأجنبية المتبقية من لبنان" وفرض "تفكيك ونزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية" في البلاد.
ارتكب نظام الأسد، حسب الكاتب سمير قصير، خطأين: "رفض أن يصدق أن الانسحاب الإسرائيلي من لبنان سوف يحصل وفق ما وعد به ايهود باراك وبالتالي لم يستخلص الدروس السياسية من الانسحاب الإسرائيلي المتحقق. أما الخطأ الثاني فهو طبعًا إحجامه عن استشراف التحوّل في السياسة الأميركية بعد احتلال العراق عام 2003 وتحديدًا عن تلّمس الخطر الناجم عن مشروع قانون محاسبة سوريا ثم عن القانون نفسه[25]".
واقترف الأسد خطأه الثالث عندما تجاهل القرار 1559 وفرض في 3 سبتمبر 2004، أي بعد يوم من صدوره، تمديد ولاية لحود على البرلمان اللبناني. أدّى قراره هذا إلى توسيع المعارضة ضده. وكانت قد تشكلت عدّة مجموعات معارضة للنظام السوري، منها لقاء قرنة شهوان الذي تأسس عام 2001 [26] ولقاء البريستول عام 2004، الذي ضمّ حليف دمشق السابق وليد جنبلاط بعد محاولة اغتيال نائب الحزب التقدمي مروان حمادة في تفجير سيارة مفخخة في أكتوبر 2004. وأدّى التمديد للحود وتأليف حكومة برئاسة عمر كرامي، إلى انضمام الحريري للمعارضة وإن ليس في العلن، وإلى إحكام الطوق الأمني حوله.
اغتيل الحريري في 14 فبراير/ شباط 2005 في تفجير موكبه في بيروت، ما أحدث "هزة" سياسية محلية وإقليمية ودولية، لم يتوقعها أيضًا بشار الأسد، أسفرت عن انسحاب سوريا السريع من لبنان. فالحريري كان رجل السعودية في لبنان منذ الحرب وكان قد استلم الحكومة عام 1992 باتفاق سوري-سعودي.
وبالتالي، تسبب اغتياله بنهاية "معادلة السين-سين[27]" التي كانت قد نشأت بعيد إقرار اتفاق الطائف، ما أسفر عن سحب الغطاء العربي عن الوصاية السورية على لبنان بعد سحبها من قبل الولايات المتحدة وفرنسا. وجاءت التظاهرة المليونية في 14 مارس/ آذار 2005 في ساحة الشهداء في بيروت والتي طالب المشاركون بها بخروج الجيش السوري من لبنان لتعلن نهاية الوصاية السورية على لبنان.
خلاصة
لجأ النظام السوري إلى عدّة تكتيكات لفرض هيمنته على لبنان. نجح في التفريق بين أعضاء السلطة الحاكمة ليكرّس حكمه، جعل من لبنان شريانًا اقتصاديًا يمدّه بالمال لضمان بقائه من دون الاضطرار لوضع سياسات إصلاحية تؤثر على مصالحه وحوّله إلى ورقة ضغط في مفاوضاته المتعثرة مع إسرائيل. في المقابل، استفاد النظام اللبناني الناشئ خلال الحرب من الوجود السوري لاستكمال سطوته على مؤسسات الدولة بعدما كان استباحها في زمن الميليشيات، فواصل بناء شبكات نفوذه ونهبه للأموال المتدفقة إلى البلد في فترة إعادة الإعمار وتدميره لأي شكل من أشكال المعارضة للنهج القائم، ما يفسّر عجزه عن الاستفادة من لحظة سقوط الأسد في لبنان في ربيع 2005.
في خطابه في 5 مارس 2005، الذي أعلن فيه انسحاب القوات السورية من لبنان، لخّص بشار الأسد الموقف الجديد لدمشق تجاه لبنان بقوله: "انسحاب سوريا من لبنان لا يعني غياب الدور السوري [في لبنان]. هذا الدور تحكمه عوامل جغرافية وسياسية وأخرى متعددة. على العكس، سنكون أكثر حرّية وأكثر انفتاحًا في تعاملنا مع لبنان". كان الأسد يدرك أنّ حلفاءه في لبنان لن يتخلّوا عنه، وعلى رأسهم حزب الله، إذ كان الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب قد نجح بتوحيد مصالح دمشق وحزب الله، فيما أدّت الضغوط اللبنانية وغير اللبنانية المتزايدة على نظام بشار الأسد إلى تغيير العلاقة بين حزب الله وسوريا بشكل جذري. "فبينما كانت العلاقة غير متوازنة لصالح سوريا في الماضي، بدأ الطرفان، بعد عام 2000، ولا سيما بعد عام 2004، في التصرّف كشريكين متكافئين يسعيان وراء مصالحهما المشتركة[28]". وعليه، سعى الطرفان إلى إعادة تموضع تضمن استمرار تأثير نظام الأسد بطرقٍ مختلفة.
المراجع
[1] قصير، سمير. ديموقراطية سوريا واستقلال لبنان، البحث عن ربيع دمشق. بيروت: دار النهار للنشر، 2004
[2] Salloukh, Bassel. "Syria and Lebanon: A Brotherhood Transformed." Middle East Report, no. 236 (Fall 2005).
[3] قصير، سمير. المرجع نفسه.
[4] Picard, Elizabeth. Liban-syrie, intimes étrangers: Un siècle d'interactions sociopolitiques. Paris: Actes Sud, 2016
[5] بوريفاج كان مقرًّا للمخابرات السورية في بيروت من عام 1987 حتى 2005، ويقع في منطقة الرملة البيضاء، وهي منطقة سكنية قريبة من شاطئ بيروت.
[6] Salloukh, Bassel.
[7] قصير، سمير، المرجع نفسه.
[8] Picard, Elizabeth
[9] Salloukh, Bassel.
[10] عُين دلول وزيراً للدفاع في 31 أكتوبر 1992 وشغل منصب وزير الدفاع الأول لرفيق الحريري حتى 25 مايو 1995. استمر في المنصب نفسه في حكومة الحريري الثانية من 11 يوليو 1996 وفي حكومة الحريري التالية بين 11 يوليو 1996 ونوفمبر 1998.
[11] عيّن وزيرًا للأشغال العامة من 1998، في حكومة الرئيس سليم الحص، حتى أكتوبر 2004، في حكومة الرئيس رفيق الحريري.
[12] Le Commerce du Levant, April 2005
[13] شركة قيسون التي قيل أن نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام يملك أسهمًا فيها.
[14] قصير، سمير
[15] Leenders, Reinoud. Spoils of Truce: Corruption and State-Building in Postwar Lebanon. Ithaca, NY: Cornell University Press, 2012.
[16] المرجع نفسه
[17] الألف ليرة لبنانية كانت تساوي آنذاك حوالي 0,66 سنتًا للدولار.
[18] قصير، سمير.
[19] Salloukh, Bassel.
[20] قصير، سمير
[21] Picard, Elizabeth.
[22] Salloukh, Bassel.
[23] Picard, Elizabeth.
[24] Picard, Elizabeth.
[25] قصير، سمير
[26] على اسم قرية قرنة شهوان، شكله عدة سياسيين لبنانيين مسيحيين في أبريل 2001 بمشاركة ممثل عن البطريرك الماروني نصرالله صفير وقد عارض اللقاء التمديد للحود.
[27] أطلق التسمية رئيس مجلس النواب نبيه بري في إشارة إلى الاتفاق السعودي – السوري.
[28] Salloukh, Bassel. Politics of sectarianism in Postwar Lebanon. London: Pluto Press, 2005