"مع بزوغ فجر كل صباح، أشعر بالدهشة لأنّني لا أزال على قيد الحياة"، يروي الفنان التشكيلي والمصوّر الفلسطيني باسل المقوسي الذي يعيش في قطاع غزة، حيث استشهد أكثر من 64 ألف فلسطيني جراء الحرب الإسرائيلية المستمرّة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
ويُضيف المقوسي في حديث لصحيفة "الغارديان" البريطانية: "بدأت الحرب وتوقّفت الحياة. لا عمل ولا فن، نُحاول فقط الركض من مكان إلى آخر باحثين عن الخلاص من القصف والقتل الذي يُلاحقنا. نسير بسرعة بحثًا عن الماء والطعام، وأصبح الركض سيد كل العصور".
ويقول: "في هذه اللحظات نفقد جزءًا من إنسانيتنا، وكرامتنا، وكل ما هو فوق القدرة على التحمّل".
والمقوسي واحد من نحو مليونَي فلسطيني في غزة يعيشون تحت وطأة التهجير القسري والقصف الإسرائيلي، الذي حوّل مساحات واسعة من القطاع إلى أنقاض.
كما أنّه واحد من أربعة فنّانيين غزيّين لا يزالون يُبدعون ويستخدمون أي مواد متاحة لهم، رغم عيشهم تحت القصف اليومي. وقد انتشرت أعمالهم في معرض بعنوان "تحت النار" في دارة الفنون في العاصمة الأردنية عمّان.
معرض "تحت النار" في عمّان
وقال مدير دارة الفنون والثقافة خالد البشير للصحيفة، إنّ معرض "تحت النار" هو أحدث مثال على برامج دارة الفنون المُخصّصة للتضامن مع غزة.
وأضاف بشير: "يكتسب هذا المعرض أهمية خاصة في هذا السياق، نظرًا للظروف التي يُواصل فيها هؤلاء الفنانون إبداعهم، وإصرارهم الملحوظ على ذلك، من داخل غزة وفي ظل النزوح. ولا شكّ أن هذا المعرض ينبع أيضًا من الحاجة الماسة إلى إيصال أصوات سكان غزة في الوقت الراهن".
والفنانون الأربعة المشاركون في المعرض، هم طلاب في برنامج صيفي نظّمته دارة الفنون تحت إشراف الفنان السوري مروان كساب باشي، وساهموا لاحقًا في تأسيس اثنتين من أبرز المساحات والمجموعات الفنية في غزة.
وكان سهيل سالم ورائد عيسى من مؤسّسي "مجموعة التقاء"، بينما ساهم المقوسي وماجد شلا في تأسيس "شبابيك للفن المعاصر". وكلاهما دُمّر في الحرب.
"نستحقّ أن نعيش بكرامة وحرية"
بقلم الفحم الأسود، أبدع المقوسي صورًا مؤثرة للحرب الكارثية. يُصوّر عمله رجالًا عراة معصوبي الأعين، ونساءً في أحضان حزينة، وأطفالًا مبتوري الأطراف وسط بحر من الخيام.
وقال: "فنّي هو رسالة أحملها للعالم بأنّنا شعب فلسطين، نُعاني من الاحتلال ونستحق أن نعيش بكرامة وحرية مثل باقي شعوب العالم".
قبل أكتوبر 2023، عمل المقوسي مُدرّسًا للفن في مدينة بيت لاهيا شمال غزة. وعُرضت أعماله دوليًا، وحضر معارض فنية في الهند والجزائر والولايات المتحدة.
والآن، بعد أن نزح من خانيونس ورفح ودير البلح والنصيرات والزوايدة، يقول المقوسي إنّه يُحافظ على إنسانيته من خلال أكثر من 100 ورشة عمل نظّمها مع الأطفال والأمهات والأشخاص ذوي الإعاقة، تحت عنوان "إقامة فنية لا تهجير".
بدأ بجمع الأطفال قرب خيمته وزوّدهم بالمواد اللازمة للإبداع، بينما كانت أمهاتهم ينظرن إليهم مبتسمات لرؤيته.
يقول إنّ إحدى أصعب ورش العمل كانت مع الأمهات، حيث بكين وهنّ يرسمن منازلهنّ وأحلامهنّ، وبكى هو معهن.
ويردف المقوسي: "هذا ما أفعله خلال الحرب. أعلم جيدًا أنّ الأمر ليس سهلًا، لكنّني أعلم أيضًا أنّ الأطفال أُتيحت لهم فرصة لنسيان الحرب والخوف والجوع لبعض الوقت. لنسيان الزمن والمعاناة والكوابيس ليلًا ونهارًا".
"صرخة استغاثة"
تُعرض رسومات سالم المرسومة بالقلم وبالحبر الأزرق والأسود والأحمر على دفاتر تزوّدها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا". يصف سالم أعماله بأنّها "رسالة للعالم" و"صرخة استغاثة".
يعيش سالم في مرآب في دير البلح ويشتري أدواته من بائعٍ متجوّل. ويقول للصحيفة البريطانية: "كانت مهمتي أن أتخلص من مخزونٍ بصريٍ من البؤس الذي خزّنته في ذاكرتي. كان ذلك أشدّ قسوة عندما اضطررت إلى المرور فوق جثث الشهداء أثناء النزوح. مع ازدحام النازحين واستماعي للأخبار على الراديو بصوتٍ عالٍ، حاولتُ فصل نفسي عن محيطي كل صباح لأرسم".
قبل الحرب، كان سالم يُدرّس الفنون في جامعة الأقصى، وعُرضت أعماله محليًا ودوليًا.
وفي يناير/ كانون الثاني 2023، اعتقلته قوات الاحتلال الإسرائيلي من منزل عائلته في حي الرمال، وفُصل عن عائلته، وكُبّلت يداه وعُصبت عيناه قبل التحقيق معه.
يتذكّر كيف كُتب على جبهته حرف من الأبجدية العبرية، ما أثار تساؤلات الرجال من حوله بشأن ما إذا كان هذا يعني أنه سيُقتل أولًا. ولاحقًا، أُطلق سراحه وتمكّن من العثور على عائلته في دير البلح، التي لجأوا إليها.
وأضاف: "بدت فكرة الرسم سخيفة. ماذا يُمكنني أن أرسم في مثل هذه الظروف؟ ولماذا؟ لقد تضرّر دماغي من دويّ القصف العنيف الذي لا يزال يتردّد في رأسي".
وتابع: "كانت هذه الدفاتر والأقلام الصغيرة ملاذي، كُنت أضعها في حقيبتي الصغيرة من دون قلق، وكأنّني أكتب مذكراتي يوميًا".
"جوع البطون الخاوية"
كما يضمّ المعرض صورًا لنساء وأطفال، استخدم فيها عيسى المواد الوحيدة التي استطاع العثور عليها، فهو يرسم على أغلفة الأدوية، مستخدمًا الكركديه وعصير الرمان إلى جانب الحبر.
يقول النص المرفق بعمل عيسى في عمّان: "في النزوح الأخير، لم أستطع إحضار أدواتي الفنية معي. وباستخدام ما كان متاحًا، أنشأتُ عدة أماكن على عبوات أدوية للمعدة، بينما يُعاني سكان غزة بأكملهم من جوع البطون الخاوية".
أما شالا، فنزح وعائلته من دير البلح جراء القصف العنيف، تاركين وراءهم منزلهم ومرسمه و30 عامًا من الأعمال الفنية. واصل إبداعه، مستخدمًا كل ما يجده من قصاصات ورق وألوان مائية وأقلام، مُبدعًا أعمالًا فنية ملونة، بدءًا من الصبّار ووصولًا إلى شوارع غزة المألوفة.
ويروي شالا في نص المعرض المصاحب لعمله: "مع استمرار الحرب، بدأت بتوثيق المشاهد الحقيقية للنزوح والمنفى التي أثّرت على كل جزء من حياتنا اليومية".
ويضيف: "تذكّرني هذه المشاهد بالقصص التي رواها لنا أجدادنا عن نكبة عام 1948، لكن ما نعيشه الآن يبدو أكثر تدميرًا، وأسوأ بكثير ممّا عاناه الناس في ذلك الوقت".