تُعَدّ الحرب الأهلية اللبنانية من أكثر الصراعات تعقيدًا في تاريخ الشرق الأوسط الحديث، وقد دامت خمسة عشر عامًا، خلّفت خلالها أكثر من 100 ألف قتيل ومئات الآلاف من الجرحى والمهجرين وحوالي 17 ألف مفقود.
مع ذلك، لم يكن اندلاع الحرب حدثًا فجائيًا أو وليد لحظة واحدة، بل نتيجة تراكم طويل لعوامل بنيوية وتاريخية، وتجاذبات إقليمية ودولية، وانقسامات داخلية عميقة في بنية المجتمع والدولة.
في مناسبة الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية، هذا استعراض لأهم الأسباب التي أدّت إلى انفجار الوضع في لبنان عام 1975.
أولاً: الأسباب السياسية والطائفية للحرب الأهلية اللبنانية
تعددت المسببات التي قادت إلى "المواجهة الكبرى" في 13 أبريل/ نيسان. ففي حين يرى البعض أن السبب الرئيسي وربما الوحيد كان الوجود الفلسطيني المسلّح، يحمّل البعض الآخر المسؤولية للنظام السياسي والطائفي بشكل أساسي.
عند انتخاب سليمان فرنجية رئيسًا للجمهورية بفارق صوت واحد عن منافسه الياس سركيس الذي عُدّ مرشح "النهج الشهابي"[1]، احتفل كثيرون بنهاية العهد الشهابي في الحكم، تيّمنًا بالرئيس الأسبق فؤاد شهاب وخلفه شارل حلو. وسرعان ما تسلّم فرنجية زمام الحكم، حتى بدأ حملة تطهير واسعة في الجيش والإدارة العامة من العناصر "الشهابية".
فكّك فرنجية "المكتب الثاني"، وهو الاسم الذي عرفت من خلاله مخابرات الجيش خلال العهدين السابقين. وقد كان المكتب أحد أهم الأسلحة التي استُخدِمت لفرض رقابة مطلقة على الحياة السياسية والمدنية. اتهم رئيس الحكومة حينها صائب قائد المكتب العقيد غابي لحود بالتنصّت على خطوط الهاتف وتم اعتقال عدد من ضباط المكتب ومحاكمتهم بتهم متعددة، من بينها تقييد الحرّيات العامة، ومخالفة أنظمة الجيش، وهدر أموال المؤسسة العسكرية.
كما عيّن فرنجية إسكندر غانم المقرّب منه قائدًا للجيش بدل القائد الشهابي جان نجيم، الذي قتل في حادث طوافة. من جهة أخرى، استُبدِل الموظفون الشهابيون في الإدارة بموظفين محسوبين على نجل فرنجية، وزير المواصلات طوني فرنجية، الذي اتُهِم بالفساد وهدر المال العام وسوء إدارة قطاع المواصلات.
وقد وجهت انتقادات كثيرة لفرنجية وسلام لتفكيكهما "المكتب الثاني" في ظلّ وجود الفدائيين في لبنان، فيما اعتبر عدد من المؤرخين أنّ هذا القرار أدّى إلى إضعاف الدولة وتعطيل قدرتها على مراقبة "الفدائيين والأحزاب اللبنانية الحليفة لهم والحفاظ على قدر من السيطرة على تحرّكات عملاء الاستخبارات العربية والأجنبية في البلاد[2]"، حسب المؤرخ اللبناني كمال صليبي. لكن في الواقع، كانت الأزمة الحقيقية في بنية هذا النظام الذي أثبت قبل وبعد الحرب عجزه في حلّ الأزمات، بل إعادة إنتاجها حتى، وعلى اللعب في الوقت الضائع بانتظار حلّ ما، يهبط عليه عادة من الخارج.
وبالتزامن مع "تفكيك الشهابية"، رفع فرنجية لواء الإصلاح، مع حليفه صائب سلام الذي جاء به رئيسًا للحكومة. أطلق سلام شعار "الثورة من فوق" على أولى حكوماته، "حكومة الشباب"، والتي كانت حكومة من الاختصاصيين، بعدما عجز عن تأليف حكومة سياسية.
بدا أنّ لبنان، الذي كان يتعافى من أزمة "بنك إنترا[3]" وتبعاتها، قد دخل مرحلة التعافي الاقتصادي. لكن ما لبث أن تبيّن أنّ الإصلاح غير ممكن في ظلّ هذا النظام، حيث فشلت محاولات وزراء الصحة والتربية إميل بيطار وغسان تويني ما أدّى إلى استقالتهما ووزير المال الياس سابا، الذي عاد عن استقالته بطلب من فرنجية.
وهكذا، انتهى "شهر العسل" في عهد فرنجية بعد عامين فقط على تولّيه الرئاسة، حيث بدأت الخلافات السياسية تطيح بحكومات عهده واحدة تلو الأخرى، ما أدّى إلى سقوط ما لا يقلّ عن أربع حكومات بين عامي 1973 و1975.
وفي الوقت نفسه، طرح الزعماء المسلمون، السنة بشكل خاص، مسألة تقاسم السلطة أو المشاركة الكاملة للمسلمين. فانتقدوا محاولة فرنجية جعل النظام اللبناني نظامًا رئاسيًا وعدم احترامه الطبيعة البرلمانية للنظام، وطالبوا بأن يتولى قيادة الجيش مجلس عسكري متعدد الطوائف وإصلاح وتسليح الجيش لكي يتمكن من الدفاع عن لبنان في وجه إسرائيل وتأمين التكافؤ بين المسيحيين والمسلمين في مجلس النواب بدل قاعدة خمسة إلى ستة المطبقة[4] والمشاركة في جميع وظائف الدولة وإعلان يوم الجمعة يوم عطلة رسمية على غرار يوم الأحد، بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين.
لم يكن شعور الغبن محصورًا بالسنة فقط. فشيعة لبنان الذين كانوا يتعرّضون للقصف الإسرائيلي والذين اضطروا إلى ترك منازلهم وهجر قراهم عانوا من الحرمان ومن إهمال الزعماء التقليديين للطائفة لهم. وبرز خلال أواخر الستينيات الإمام موسى الصدر الذي أسس حركة "المحرومين" وطالب بتحقيق العدالة الاجتماعية ونجح بتعبئة الشيعة خلفه، حيث إن مئات الآلاف أصبحوا يشاركون في تحركاته بين 1973 و1974. وأمام تلكؤ الدولة عن حماية سكان الجنوب، دعا الصدر في أبريل 1974 إلى حمل السلاح الذي يعتبر "زينة الرجال" لمواجهة إسرائيل.

أما السبب الآخر الذي عمّق الشرخ الطائفي فكان الوجود الفلسطيني المسلّح. عارض القادة المسيحيون أو اليمين المسيحي الأنشطة الفدائية. إذ اعتبروا أنّ لبنان لم يكن في حالة حرب مع إسرائيل منذ عام 1948؛ ولم يكن للبنان سبب للقتال ضد إسرائيل لأنه لم يكن هناك أراضٍ محتلة لتحريرها. ورأوا أنّ دعم الفلسطينيين ممكن سياسيًا ودبلوماسيًا فقط.
من جهة أخرى، كان للمسلمين والأحزاب اليسارية قراءة مختلفة للمشكلة. بالنسبة لهم، كان النضال الفلسطيني جزءًا لا يتجزأ من القضايا العربية التي دعمها لبنان منذ تأسيسه. ووجدوا أنّ السبب الجذري للمشكلة ليس استفزاز الفلسطينيين لإسرائيل، بل إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين، والخطر الذي تشكله على لبنان وموارده، خاصة الموارد المائية في الجنوب. لذلك دعوا القادة إلى دعم "غير مشروط" للفدائيين وتبّنوا العمليات المسلحة من الأراضي اللبنانية. وبالتالي، انقسم موقف الدولة اللبنانية أيضّا[5].
وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان بلغت "بين عامي 1968 و1974، 3000 اعتداء وفقًا لإحصاءات الجيش اللبناني، أي بمعدل 1.4 اعتداء كل يوم وأوقعت تلك الانتهاكات زهاء 800 قتيل لبناني وفلسطيني، في حين بلغ سبعة المتوسط اليومي للانتهاكات الإسرائيلي بين عامي 1974 و1975.[6]"
ومن هذا المنطلق، أثّر الانقسام على الدولة، لاسيما بين الرئاستين الأولى والثالثة. فعلى سبيل المثال، عام 1969، أحجم الرئيس رشيد كرامي خلال عهد الرئيس شارل حلو (1964-1970) عن تأليف حكومته طوال تسعة أشهر قبل التوصل إلى اتفاق حول المسألة الفلسطينية، فوضع "اتفاق القاهرة" (راجع القسم الثالث من هذا المقال)، حدًّا للجمود السياسي في البلاد.
ثانيًا: الأسباب الاقتصادية والاجتماعية للحرب الأهلية اللبنانية
بدأت المشاكل ذات الطابع الاجتماعي-الاقتصادي تشغل الحكومة بشكل متزايد. وقد سعت الحكومة إلى معالجة تلك المشاكل من خلال إطلاق خطة تنموية تمتد لست سنوات في عام 1972. بقيت الخطة حبرًا على ورق وأجهض التجار وأصحاب العمل جميع المحاولات ونجحوا بالتصدّي للضغوطات، ما عمّق اللامساواة وأجج الصراع الطبقي.
أدّى تدفّق أموال النفط العربي إلى مصارف بيروت في أوائل السبعينيات إلى ازدهار تجاري ومالي، خصوصًا بعد الإصلاحات التي تلت أزمة بنك إنترا. لكن أصحاب المال والمحتكرين كانوا المستفيدين الأساسيين من هذه "الطفرة" فيما اضطرت غالبية السكان إلى مواجهة تراجع في مستوى معيشتهم، نتيجة غياب الاستثمار في القطاعات الإنتاجية وارتفاع معدلات التضخم بشكل متسارع. فقد ارتفعت كلفة المعيشة بنسبة الضعفين بين 1967 و1975، فيما جرى تصنيف بيروت على أنها واحدة من أغلى المدن العالم[7]. وشكّلت هذه التطوّرات خلفيةً لتصاعد الاضطرابات الاجتماعية.
وبالتوازي مع التضخم العالمي، أقرّت السلطات رسميًا بارتفاع كلفة المعيشة بنسبة تقارب 11% في عام 1973، بينما قدّرت مصادر غير رسمية هذه الزيادة بما بين 20 و35%. كما أدّى ارتفاع الإيجارات إلى إنفاق العائلات من الطبقتين الوسطى والعاملة حوالي 35% من دخلها على السكن في عام 1973. وفي عام 1974 ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل الأرز، والسكر، والخضار، والفواكه بنسبة تتراوح بين 100 و200%. وقد رافق التضخم أيضًا تزايد معدلات البطالة، والتي قدّرتها وزارة التخطيط بنحو 8% من السكان في عام 1970، لكن من المرجّح أن النسبة الحقيقية كانت أعلى من ذلك بكثير[8].
ويشير المؤرخ اللبناني فواز طرابلسي إلى أنّ الهجرة الريفية إلى بيروت أدّت أيضًا إلى تمدد "حزام الفقر حول بيروت من الكرنتينا في الشرق إلى الرمل العالي والليلكي في الغرب"، حيث يقع بينهما عدد من القرى التي تحوّلت سريعا إلى الضواحي التي يسكنها الفقراء والعمال، ولم يكن غريبا أن تصير ضواحي حزام الفقر بؤرًا للأحزاب الشعبوية من اليمين واليسار[9]". ففي عام 1975، كان 65% من أهل الجنوب قد تركوا أرضهم. وبلغت النسبة على مستوى لبنان كله 40% حسبما يذكر سليم نصر.
وقد ترافق التضخم مع حراكات عمالية وطلابية واسعة، بينها مزارعو التبغ في جنوب لبنان، وعمال مصنع غندور في بيروت، وأساتذة المدارس الحكومية في مختلف أنحاء البلاد وطلاب الجامعات الخاصة والرسمية. ويعتبر المؤرخ البريطاني مايكل جونسون أنّ "الزعماء التقليديين (الزعماء الطائفيين) لجأوا إلى استغلال هذه الاضطرابات الشعبية بوقاحة، لتعزيز مكاسبهم الفئوية على حساب خصومهم[10]".

ثالثًا: الوجود الفلسطيني المسلّح ودوره في الحرب الأهلية اللبنانية
تمّ إنشاء المخيمات الفلسطينية في لبنان بعد نكبة 1948 وبقيت تحت سيطرة وقمع "المكتب الثاني" خلال فترة الستينيّات، من دون أي محاولة جدية لحلّ مشاكل اللاجئين الاجتماعية والاقتصادية من قبل الدولة اللبنانية.
غيّرت نكسة 1967 المعادلة بعد هزيمة الرئيس المصري جمال عبد الناصر ومن ثم وفاته عام 1970 وصعود نجم قائد منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات والمقاومة المسلّحة الفلسطينية أو ما عُرِفَ حينها بـ"العمل الفدائي". فقد بدأت أغلب العمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي من الأردن حتى اتخذ العاهل الأردني الملك حسين[11] قرار القضاء عليها بين عامي 1970-1971. لكن ذلك لم يمنع قوات الاحتلال من التعدّي على لبنان، ففي عام 1965 وبعد عملية من الأردن، شنّت وحدات إسرائيلية غارات على بلدتي حولا وميس الجبل.
وفي عام 1968، نفّذ الفدائيون عملية ضد طائرة إسرائيلية في مطار أثينا في اليونان وأعلنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مسؤوليتها عن العملية من بيروت، فجاء الرد الإسرائيلي على العملية بإنزال وحدة إسرائيلية في مطار بيروت في 28 ديسمبر/ كانون الأول 1968 دمّرت 13 طائرة مدنية. وبعد قصف المطار، بدأ انقسام الأحزاب الحاكمة حول مسألة الوجود الفلسطيني المسلّح يزداد حدّة وانطلقت مواجهات عنيفة بين الجيش والفدائيين في خريف 1969.
ومع ازدياد التوتر الداخلي، تدخل عبد الناصر في محاولة منه لإيجاد حلّ بين الطرفين، ما أسفر عن توقيع "اتفاق القاهرة[12]" في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 1969 بين قائد الجيش إميل بستاني وياسر عرفات، الذي كان قد أصبح قبل أشهر رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وافقت جميع الأحزاب على الاتفاق باستثناء الكتلة الوطنية بقيادة العميد ريمون إده، واعتبرت الأحزاب اليمينية أنه "الحلّ الوحيد" و"أهون الشرّين[13]". لكن لم تتأخر المواجهة الأولى بين هؤلاء والفدائيين. ففي 25 مارس/ آذار 1970، شنّ مسلحو الكتائب هجومًا على موكب فلسطيني مارًا من بلدة الكحالة، أعقبته اشتباكات انضم إليها الجيش في بيروت.
في الواقع، كانت الأحزاب اليمينية قد بدأت بالتسلّح منذ نهاية الستينيّات وزادت الوتيرة في أوائل السبعينيّات. فإلى جانب الكتائب، شكّل حزب الوطنيين الأحرار ميليشيا "النمور" وفرنجية ميليشيا "المردة" ووفر لها العهد وأجهزته التسهيلات اللازمة للتدريب والتجنيد. رفض ريمون إده وحيدًا التسلّح، حتى إنه طالب بنشر قوات من الأمم المتحدة على الحدود اللبنانية وسعى لاحقًا إلى كسر حدّة الاستقطاب الطائفي عبر التحالف مع صائب سلام ورشيد كرامي لكن من دون جدوى. في السياق نفسه، أخذت المنظمات الفلسطينية مهمة تدريب وتسليح الأحزاب اليسارية على عاتقها.
ومع طرد الفدائيين من الأردن، اتخذ هؤلاء من لبنان مقرًّا وحيدًا لعملياتهم بعدما منعتهم سوريا من تنفيذ عمليات من أراضيها فيما سمحت لهم بتهريب السلاح فقط، وهكذا أصبح لبنان المقر الرسمي لمنظمة التحرير عام 1972. وازدادت العمليات من لبنان ومعها العمليات الإسرائيلية العدائية ضده. كما شهد هذا العام أول غزو إسرائيلي موسع لجنوب لبنان واغتالت إسرائيل بواسطة العبوات الناسفة الناطق باسم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الكاتب غسان كنفاني في 8 يوليو/ تموز.
وفي أبريل 1973، قامت وحدة إسرائيلية خاصة، أتت من البحر بقيادة الملازم إيهود باراك، باغتيال القائدين أبو يوسف النجار وكمال عدوان من حركة "فتح"، وكمال ناصر، المتحدث باسم منظمة التحرير الفلسطينية، في بيوتهم في شارع فردان في بيروت. طالب رئيس الوزراء صائب سلام باستقالة قائد الجيش. رفض فرنجية ذلك، فاستقال سلام، فيما نزل 250 ألف شخص إلى الشارع لحضور جنازة قادة منظمة التحرير الفلسطينية وهاجموا الجيش واتهموه بعدم حماية قادة المقاومة.
عادت المواجهات بين الجيش والفدائيين فهاجم الأول معاقل الفدائيين في مخيمات صيدا وبيروت. وفي 3 مايو/ أيار، قصف الطيران مخيّم برج البراجنة ودارت معارك طاحنة بين الجيش والمقاتلين. وقد أسفرت المواجهات عن توقيع اتفاق ثانٍ في 17 مايو 1973 بين لبنان وممثلي المنظمات الفلسطينية وهو اتفاق "ملكارت[14]"، تيّمنًا بالفندق الذي أجريت فيه المفاوضات. لكن "ملكارت" كما "القاهرة" شكّلا إطارًا فقط لفك الجمود السياسي في لبنان.
توقفت المواجهات على الأرض مؤقتًا خلال وبعد حرب أكتوبر 1973 وهدأت الأمور نسبيًا في انتظار تكشّف مصير مفاوضات السلام التي حاولت الولايات المتحدة إطلاقها بعد الحرب. لكن الانقسام في الداخل اللبناني كان آخذًا في الاتساع، ففي بداية عام 1975، رفع رئيس حزب الكتائب بيار الجميل مذكرة إلى رئيس الجمهورية انتقد فيها التخلّي عن سيادة الدولة، ثم طالب، بالتنسيق مع حليفه رئيس حزب الوطنيين الأحرار كميل شمعون بإجراء استفتاء حول المسألة[15]. جاء هذا الطلب قبل أشهر من اندلاع الحرب، التي أجّجت نارها أيضّا الأسباب الإقليمية والدولية.

رابعًا: العوامل الإقليمية والدولية للحرب الأهلية اللبنانية
يرى الكاتب سمير قصير أن "العامل الفلسطيني اضطلع بدور الكاشف عن الهشاشة البنيوية للبنان وعن حساسيته حيال محيطه الإقليمي[16]". وبالفعل، لطالما كان تطور الوضع في لبنان يخضع للتطورات التي تحصل على الصعيدين الإقليمي والدولي.
كانت هزيمة 1967 التحوّل المفصلي الأول في الداخل اللبناني. فرغم عدم مشاركة لبنان في الحرب، انعكست نتائجها مباشرة عليه بعد تصاعد القوة العسكرية الإسرائيلية ونهاية أسطورة عبد الناصر وبداية العمل الفدائي من الأردن ولبنان. وشكّل العام 1970 اللحظة المفصلية الثانية. فكما ذكرنا سابقًا، اتخذت المملكة الهاشمية القرار بإنهاء الكفاح المسلّح من أرضها وتمكّنت من طرد المنظمات الفلسطينية من أرضها. توفي عبد الناصر في العام نفسه، فيما أدّى انقلاب في سوريا عام 1970 إلى وصول حافظ الأسد[17] إلى سدة الرئاسة. أما في لبنان، فيعتبر سمير قصير أن "نهاية النظام الإقليمي السابق عنت في المقام الأول نهاية توازن بنيت على أساسه التجربة الشهابية[18]".
وجاءت حرب أكتوبر 1973 لتغيّر المشهد الإقليمي مجددًا. فمع لجوء دول الخليج إلى حظر النفط، باتت المملكة العربية السعودية لاعبًا رئيسيًا في المنطقة، في حين تمكنت الولايات المتحدة بإبعاد الاتحاد السوفياتي بعد أن نجحت في فرض نفسها كحكم للنزاع بين إسرائيل ومصر. دخل وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر على الخط مؤكدًا دخول النزاع الإسرائيلي-العربي في عصر "إدارة الأزمة"، فيما كان عدد من البلدان العربية يأملون "حلّ النزاع[19]" ويفاوضون واشنطن لتحقيق هدفهم.
تمّ استثناء لبنان من عملية التطبيع العربية-الإسرائيلية ووجد نفسه معزولًا عن محيطه العربي، بينما كان النشاط الاستخباراتي الدولي يتوسع على أراضيه، وإلى جانبه الاهتمام الدولي بمنظمة التحرير، التي كرّسها العرب عقب حرب 1973 كممثل وحيد للشعب الفلسطيني في قمة الرباط عام 1974، وإقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1974، "حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والاستقلال الوطني والسيادة في فلسطين"، واعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً للشعب الفلسطيني ومنحها صفة مراقب لدى الأمم المتحدة، الأمر الذي وفر منبرًا دوليًا لياسر عرفات.
وأمام هذا الواقع، ازداد التوتر الداخلي حتى انفجاره في أبريل 1975.
خامسًا: الأسباب المباشرة للحرب الأهلية اللبنانية
اندلعت الاضطرابات في صيدا، جنوبي لبنان، بسبب مسألة لا علاقة لها بعمل الفدائيين. فلعدة أشهر، كان صيادو الأسماك في صيدا وسائر المدن الساحلية قلقين من إنشاء شركة صيد جديدة تُدعى "بروتين"، تم تأسيسها برأسمال لبناني وكويتي مشترك، بهدف تحديث قطاع الصيد في لبنان. وكان رئيس مجلس إدارة هذه الشركة هو كميل شمعون. وقد رأى صيادو لبنان في إنشاء الشركة محاولة لاحتكار قطاع الصيد في البلاد وتهديدًا لمصدر رزقهم. وبلغت الأمور ذروتها في 26 فبراير/ شباط 1975، عندما نُظمت تظاهرة في صيدا شارك فيها الصيادون ومؤيدوهم من التنظيم الشعبي الناصري والحزب الشيوعي للمطالبة بوقف الشركة عن العمل وسحب ترخيصها من قبل الحكومة.
تختلف الروايات حول ما حصل في تلك التظاهرة التي أدّت في نهاية المطاف إلى مقتل النائب الناصري معروف سعد، الذي كان يقودها، في 6 مارس/ آذار بعد أيام على إصابته برصاصة مباشرة. ففي حين يعتبر البعض أن التظاهرة تحوّلت إلى أعمال شغب ومن ثمّ إلى مواجهات أسفرت أيضًا عن ضحية من الجيش اللبناني[20]، يعتبر البعض الآخر أنّ هذا الأخير قد أطلق النار من دون سبب على المتظاهرين[21].
تبعت التظاهرة سلسلة من التحرّكات في عدة مناطق من قبل الأحزاب اليسارية دعمًا للصيادين وشجبًا لما حصل، أدّت أيضًا إلى سقوط قتلى وجرحى. بموازاة ذلك، هاجمت تلك الأحزاب الجيش وطالبت بإعادة هيكلته وبإقالة قائده إسكندر غانم واستقالة حكومة الرئيس رشيد الصلح. وردّت الأحزاب اليمينية بتنظيم تظاهرات حاشدة في بيروت دعمًا للجيش، واتهمت المجموعات الفلسطينية "بالمشاركة في المواجهات في تدخل فاضح في الشؤون اللبنانية المحلية[22]".
لم يستجب فرنجية ولا الحكومة إلى المطالبات واكتفت بالإعلان في 12 مارس عن "نقل ضابطين ووضع محافظ صيدا في إجازة إدارية[23]". وأعلنت في 12 أبريل إلغاء امتياز الصيد الممنوح لشركة "بروتين" وقررت التعويض على الصيادين المتضررين.
في اليوم التالي، اندلعت المواجهات التي باتت مصنّفة على أنها السبب المباشر لبداية الحرب الأهلية اللبنانية في عين الرمانة. كان بيار الجميل يحضر قداسًا عندما أقدم مجهولون في سيارة مموهة على إطلاق النار على مدخل الكنيسة فقتلوا أربعة، بينهم مرافق الجميل الشخصي. أصرّت الكتائب على أنّ مطلقي النار كانوا من الفدائيين رغم عدم وجود إثبات بذلك.
في وقت لاحق من ذلك اليوم، هاجم مسلّحون حافلة في عين الرمانة كانت تقل ركابًا فلسطينيين في طريق عودتهم من تظاهرة إلى مخيم تل الزعتر للاجئين. قُتِل 27 راكبًا ونجا إثنان، بينهم السائق. اتُهِمت الكتائب[24] بارتكاب المجزرة ولم تمضِ ساعات حتى بدأت الاشتباكات المسلّحة بين الطرفين في جميع أنحاء بيروت ودخل لبنان أولى جولات "حروبه"، حرب السنتين (1975-1976).

في النتيجة..
لم تكن الحرب الأهلية اللبنانية نتيجة حادث عابر أو توتر مؤقت، بل كانت تتويجًا لتراكمات طويلة من التوترات البنيوية في النظام السياسي والاجتماعي اللبناني، وعوامل إقليمية ودولية معقدة.
كشف النزاع هشاشة الدولة، وانقسام المجتمع. ورغم توقيع اتفاق الطائف عام 1989 ووقف الحرب رسميًا في 1990، فإن الكثير من جذور الأزمة لا تزال قائمة، لا سيما في ما يخص طبيعة النظام السياسي والاقتصادي، ما يجعل من دراسة أسباب الحرب الأهلية ضرورة لفهم الحاضر اللبناني وتجنّب تكرار مآسيه.