لعقود من الزمن، كانت لجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية "أيباك" ذات حضور مؤثر في الكونغرس، حيث عملت خلف الكواليس للضغط على السياسيين وموظفيهم لدعم إسرائيل. ولكن قبل الانتخابات النصفية لعام 2022، اتخذت "أيباك" قرارًا غيّر بشكل أساسي أهدافها وخطوط السياسة الأميركية.
واختارت "أيباك" للمرة الأولى الإنفاق مباشرة على الحملات الانتخابية. ومع تدفّق ملايين الدولارات من المانحين ومن بينهم المليارديرات الجمهوريون والمانحون الكبار للرئيس السابق دونالد ترمب، تبنّت "أيباك" إستراتيجية جديدة تقوم على استخدام أموالها الضخمة لإقالة أعضاء الكونغرس التقدميين، الذين انتقدوا انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل وتلقّيها دعمًا عسكريًا بمليارات الدولارات الأميركية.
وبعد عامين فقط من بدء ضخّ الأموال في الحملات الانتخابية، أصبحت "أيباك" واحدة من أكبر المنفقين الخارجيين في انتخابات الكونغرس.
وقامت مجلة "انترسبت" (The Intercept) بتأريخ قوة "أيباك" من خلال السباقات الانتخابية الفردية، باستخدام سجلات تابعة للجنة الانتخابات الفيدرالية المقدمة من لجنة العمل السياسي الفيدرالية التابعة لـ"أيباك" (AIPAC PAC)، ومشروع الديمقراطية المتحدة التابع لها، بهدف معرفة المبالغ التي تمّ إنفاقها نيابة عن إسرائيل، وما هو تأثير تلك الأموال على ميزان القوى في الكونغرس.
إستراتيجية العام 2022
عندما طرحت إستراتيجيتها الجديدة في الدورة الانتخابية لعام 2022، حقّقت "أيباك" نجاحًا فوريًا، حيث هزمت مع مجموعة "الأغلبية الديمقراطية من أجل إسرائيل"، النائبين أندي ليفين الديمقراطي من ولاية ميشيغان، وماري نيومان الديمقراطية من إلينوي، اللذين كانا صريحين في انتقادهم للتمويل العسكري الأميركي غير المشروط لإسرائيل.
وكانت حملة هزيمة ليفين بمثابة دفعة كبيرة من جانب "أيباك"، لقمع الانتقادات الموجّهة لإسرائيل حتى من أعضاء الكونغرس اليهود.
قبل دورة 2024 ووسط الغضب الشعبي المتزايد من الحرب الإسرائيلية على غزة، أصدرت "أيباك" إعلانًا جريئًا، مفاده أنّه "من خلال ذراع مشروع الديمقراطية المتحدة وأيباك باك، سنُنفق 100 مليون دولار على الانتخابات، أي نحو سدس ما أنفقته الجماعات الخارجية على الانتخابات الرئاسية لعام 2020".
وسعت "أيباك" لبسط نفوذها على 363 مقعدًا في مجلس النواب و26 مقعدًا في مجلس الشيوخ. ومن بين 389 مرشحًا موّلتهم "أيباك"، لم يخض 57 منهم الانتخابات التمهيدية، بينما لم يكن هناك أي خصم لـ 88 مرشحًا منهم.
ويمنح صندوق الحرب "أيباك" القدرة على انتقاء واختيار السباقات التي من المرجّح أن تنجح فيها، ما يُعزّز نفوذها بين المرشّحين والأعضاء وصورتها كصانعة ملوك.
تمويل الحزبين
إن نهج "أيباك" في التعامل مع الإنفاق الانتخابي هو نهج مشترك بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري، حيث قامت المجموعة بتمويل المرشّحين الجمهوريين والديمقراطيين والمستقلين على حد سواء.
ودعمت "أيباك باك" 233 جمهوريًا بإجمالي أكثر من 17 مليون دولار من الأموال، و152 ديمقراطيًا بأكثر من 28 مليون دولار، وثلاثة مستقلين هم: السيناتور جو مانشين من ولاية فرجينيا الغربية، وكيرستن سينيما من أريزونا، وأنغوس كينغ من ولاية ماين، والذين حصلوا على ما يقل قليلًا عن 300 ألف دولار.
كما قدّمت "AIPAC PAC" أكثر من 3 ملايين دولار للجان والمنظمات التابعة للحزبين، بما في ذلك لجنة مجلس الشيوخ الجمهوري، ولجنة مجلس الشيوخ الديمقراطي، وصندوق جيفريز للأغلبية، ولجنة "Democracy Engine".
وقد أنفقت "أيباك" هذا العام في كل السباقات الانتخابية في الولايات الأميركية باستثناء أوهايو. وحصلت كل من نيويورك وكاليفورنيا على الإنفاق الأكبر، تليها ميسوري وماريلاند. وأنفقت "أيباك" ثاني أكبر مبلغ على السباقات في هذه الدورة في ميسوري.
وأنفقت "أيباك" أكثر من 11.7 مليون دولار على سباق انتخابي واحد فقط تنافس فيه ويسلي بيل المدعوم من "أيباك" ضد النائب الديمقراطي كوري بوش.
وفي ولاية ماريلاند، حصلت المرشحة المدعومة من "أيباك" سارة إلفريث، على 4.2 مليون دولار.
وحتى الآن، حقّق الإنفاق هدفه المنشود، حيث تقلّص عدد أعضاء الكونغرس المعارضين للمساعدات المقدّمة لإسرائيل والمنتقدين لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل، إذ زادت "أيباك" إنفاقها الانتخابي لاستهداف المرشّحين والمشرّعين التقدميين الذين ينتقدون تل أبيب.
السباقات الرئيسية
ورغم أنّ "أيباك" دعمت المرشّحين الجمهوريين أكثر من الديمقراطيين، فقد أنفقت أكثر على المرشّحين الديمقراطيين المفضّلين لديها، بينهم ويسلي بيل وجورج لاتيمر، اللذين خاضا الانتخابات التمهيدية ضد الديمقراطيين التقدميين كوري بوش وجمال بومان.
وعادة ما يكون المرشّحون المدعومون من "أيباك" مؤيدين لإسرائيل، لكنّ قوتهم تختلف من مشرّعين مثل النائب ريتشي توريس الديمقراطي من ولاية نيويورك، وهو أحد المستفيدين الرئيسيين من "أيباك" وأحد أعلى الأصوات المؤيدة لإسرائيل في الكونغرس، إلى النائب ريان زينكي الذي اقترح مشروع قانون "لترحيل" الفلسطينيين من الولايات المتحدة.
وعلى الطرف الآخر، هناك مرشّحون أقل تأثيرًا على غرار سارة إلفريث التي فازت في الانتخابات التمهيدية الديمقراطية في ماريلاند، حيث بالكاد تم طرح موضوع إسرائيل في السباق الانتخابي.
ومن خلال إنفاق إضافي قدره 41.9 مليون دولار على النفقات المستقلّة مثل الإعلانات وإجراءات التصويت، قامت "أيباك" باستثمارات كبيرة في سباقين إضافيين لمجلس النواب.
أنفق مشروع "United Democracy" ما يقلّ قليلًا عن نصف مليون دولار ضد المرشّحة الديمقراطية كينا كولينز بمواجهة النائب الحالي الديمقراطي من إلينوي داني ديفيس، ونحو 167 ألف دولار ضد النائب الجمهوري عن ولاية كنتاكي توماس ماسي، ولم يدعم مرشحًا آخر في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. وفاز ماسي بنسبة 76% من الأصوات، حيث سيخوض الانتخابات دون معارضة في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
الإستراتيجية والحلفاء
تتخطّى إستراتيجية "أيباك" الإنفاق لدعم مرشّحيها المفضلين، إلى الإنفاق الكبير ضد المرشحّين الذين تُريد إقصاءهم عن الكونغرس.
وفي هذا الإطار، أنفقت "أيباك" 30 مليون دولار على الإطاحة ببومان وبوش، في ما أدى إلى اثنتين من أغلى الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في التاريخ.
وتشترك "أيباك" و"الأغلبية الديمقراطية من أجل إسرائيل" في قواسم مشتركة تتجاوز تركيزهما المتبادل على إسرائيل، حيث تقاسمتا قوائم المانحين، وعمِل 11 من أعضاء مجلس إدارة "الأغلبية الديمقراطية من أجل إسرائيل" مع "أيباك" وتبرّعوا لها. كما عمل ميلمان كمستشار لمجموعتين أخريين على الأقل منتسبين إلى "أيباك".
وتزامن ظهور "أيباك" لأول مرة في الإنفاق السياسي المباشر خلال دورة 2022 مع زيادة في الإنفاق المؤيد لإسرائيل من مجموعات لها علاقات وثيقة مع "أيباك".
وقامت لجنة العمل السياسي للديمقراطيين المدعومة من قبل ريد هوفمان، أحد كبار المانحين الديمقراطيين والمؤسس المشارك لـ "LinkedIn"، بزيادة الإنفاق الانتخابي، بفضل الدعم المقدّم من "DMFI PAC" التي تعمل على انتخاب أعضاء في الكونغرس مؤيدين لإسرائيل.
وكان لـ"أيباك" و"DMFI PAC"، و"لجنة العمل السياسي للديمقراطيين PAC"، دورًا فعالًا أيضًا في منع وصول السيناتور الديمقراطية نينا تورنر إلى عضوية الكونغرس عن ولاية أوهايو في دورة العام 2020.
ما هي الخطوة التالية؟
أنفقت "أيباك" مبالغ كبيرة في دورة 2024، لكن كان لها أيضًا أهداف محددة للغاية، من بينها تجنيد ودعم المرشّحين لخوض الانتخابات ضد بوش وبومان. كما حاولت مجموعة الضغط أيضًا، وفشلت في تجنيد منافس للنائبة سمر لي الديمقراطية عن ولاية بنسلفانيا.
وأثبتت هجمات "أيباك" على بومان وبوش نجاحها في نهاية المطاف، حيث خسر كل منهما في اثنتين من أغلى الانتخابات التمهيدية للديمقراطيين في مجلس النواب في التاريخ، أمام المرشّحين الذين حصلوا على تمويل يزيد عن 29 مليون دولار من دولارات "أيباك".
كما أثبتت "أيباك" أنّها قادرة على توجيه مبالغ ضخمة من المال لطرد أعضاء الكونغرس والمرشّحين المتمرّدين، وإبعاد السياسيين المنتقدين لسياسة الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، والمؤيدين للسياسة الاقتصادية والشرطية والصحية وسياسات العمل التي تتعارض مع مصالح المانحين الأثرياء لمجموعة الضغط.
لقد أظهرت "أيباك" أنها تتمتّع بالقدرة على الوصول إلى كل مقعد في الكونغرس تقريبًا. إذن ماذا يأتي بعد ذلك؟
يقول أسامة أندرابي، المتحدث باسم حزب "العدالة الديمقراطي"، الذي قام بتجنيد ودعم المرشّحين ضد هجمات "أيباك": إن هذه الأخيرة "تُمثّل، مثل أي لجنة عمل سياسية كبرى أخرى في الشركات، الأجزاء الأكثر تكسرًا في نظام تمويل الحملات لدينا، الذي يمنح حفنة من المليارديرات وسيلة لتعزيز مصالحهم على حساب الملايين من الناس العاديين".
وأضاف: "إذا أردنا وقف ارتفاع التكاليف، وحماية مجتمعاتنا، ومنع حرب أخرى لا نهاية لها في الخارج، فعلينا أن نُبعد الأموال عن السياسة مرة واحدة وإلى الأبد".