لم تترك الأسكتلندية تيلدا سوينتون تكريمها في مهرجان برلين السينمائي عن مجمل مسيرتها، يمرّ من دون أن تسجّل بصمتها الخاصة، بالغة التميّز، على افتتاح المهرجان الذي يوصف غالبًا بأنه الأكثر تقدمية مقارنة بالمهرجانات الأخرى.
فخلال تسلّمها جائزة الدب الذهبي الفخرية عن مجمل مسيرتها السينمائية الأشد غرابة بين أقرانها في هوليوود، استعادت سوينتون الخطاب المناهض للكولونيالية الاستعمارية التي أصبحت أكثر توحشًا بوصول الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، ودعواته للاستيلاء على قطاع غزة وجزيرة غرينلاند وكندا.
كما أعادت إلى الأذهان الدور المفترض للفنون في مناهضة الاحتلال والنزعات المتوحشة للسياسات الغربية في عمومها.

تقول سوينتون إن "دولة السينما المستقلة العظيمة شاملة بطبيعتها، ومحصنة ضد جهود الاحتلال أو الاستعمار أو الاستيلاء أو التملك أو تطوير ممتلكات ريفييرا"، في إشارة إلى خطة ترمب لتملك قطاع غزة وتهجير سكانه وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط".
تيلدا سوينتون تندّد بترمب والاحتلال
ومن دون أن تحدد بالاسم العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، قالت سوينتون وسط تصفيق الحضور في مهرجان برلين إن "عمليات القتل الجماعي التي ترتكبها الدول ويتم تمكينها دوليًا، تثير الرعب حاليًا في أكثر من جزء من عالمنا".
وأضافت: "هذه حقائق يجب مواجهتها. إنّ الممارسات اللاإنسانية تُرتكَب تحت أنظارنا، وأنا هنا لأحدّدها بالاسم من دون تردد أو شك: حكوماتنا مدمنة على الجشع وتتعامل بلطف مع مخرّبي كوكبنا ومجرمي الحرب".
وقالت النجمة السينمائية التي قدّمت العديد من الأدوار السينمائية تحت إدارة ويس أندرسن وبدرو ألمودوفار: "نشهد بأمّ العين ارتكابات لا إنسانية. وأنا حرة في أن أقول ذلك، من دون تردد أو شك في ذهني".
يأتي هذا بينما تشهد ألمانيا صعود التيارات اليمينيّة، ما جعل مديرة مهرجان برلين الجديدة تريشا تاتل التي تدعو إلى عدم طغيان السياسة على الأفلام، تقول إن "مهرجانًا كهذا يمثل رفضًا لمختلف الأفكار التي تنشرها أحزاب يمينية متطرفة كثيرة".
أما رئيس لجنة التحكيم، الأميركي تود هاينز، فتحدث عن أزمة في الولايات المتحدة والعالم، وقال إن إدارة الرئيس الأميركي أحدثت قلقًا وصدمة في العالم، وإن "الطريقة التي سنعتمدها للجمع بين مختلف أشكال المقاومة لا تزال موضع تفكير بين الديمقراطيين".
السينما إذ تنحاز لغزة
خطابات كهذه تبدو للوهلة الأولى كأنها قادمة من ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، حيث علت الأصوات ونشأت الحركات والمنظمات لمناهضة السياسات الأميركية في العالم، وكان صداها قويًا داخل الولايات المتحدة نفسها، في السينما والموسيقى على وجه الخصوص.
ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شهدت المهرجانات الفنية عبر العالم أشكالًا متعددة من التضامن مع الفلسطينيين الذي تعرّضوا لحرب إبادة استمرت أكثر من 470 يومًا.
والعام الماضي استقطبت الممثلة الأسترالية كايت بلانشيت، الأضواء وأثارت ردود فعل متباينة عبر العالم، بظهورها على السجادة الحمراء في مهرجان كان السينمائي في مايو/ أيار، بفستان مستوحى من العلم الفلسطيني، في تحايل على قرار اللجنة المنظمة للمهرجان بحظر أي شعار أو رمز سياسي خلال حفل الافتتاح، وهو ما فعلت تيلدا سوينتون ما يشبهه ولكن في مهرجان برلين السينمائي الذي يحرص منظموه على النأي به عن التسييس.

وكانت سوينتون من بين أكثر من ألفي فنان بريطاني دعوا في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إلى وقف فوري للعدوان على غزة، وفك الحصار الذي يفرضه الاحتلال على سكانه.
فمن هي تيلدا سوينتون؟
بقامتها الطويلة (1,78 سم) وجسدها النحيل وملامح وجهها الغريبة التي تبدو "شمعية" في بعض الأفلام، وأقرب إلى ملامح الكائنات الفضائية، وهو ما قدّمته على الشاشة أيضًا، تحتل تيلدا سوينتون مكانة فريدة في تاريخ السينما، من خارج التيار السائد فيها، والمضاد للمفهوم المبتذل لدور المرأة في الترفيه على الشاشة، القائم على جمال الجسد وفتنة الشباب الدائم.
وتصف الموسوعة البريطانية مسيرة سوينتون السينمائية بـ"الانتقائية والجريئة"، وحضورها على الشاشة بـ"المذهل"، كما تلفت إلى انشغالاتها بما تسميه الموسوعة "السيولة الجنسية"، أي التداخل الجندري، والتحوّل، والتعالي على التجنيس، من دون اقتراح بديل للبشرية بل ترك الأمر في حالة من السيول المحيّرة والمشوّشة التي تنقل البشرية إلى مستوى جديد من الأسئلة المتعلقة بالهوية.

ابنة جنرال وزميلة ديانا
ولدت تيلدا سوينتون في لندن عام 1960 لعائلة أسكتلندية أرستقراطية. الأب كان جنرالًا في الجيش البريطاني، ما جعل من إدخال الفتاة الصغيرة إلى مدرسة داخلية أمرًا طبيعيًا، حيت زاملت في مدرسة ويست هيث الداخلية، الأميرة ديانا سبنسر.
تركت سنوات الدراسة في مدرسة داخلية ندوبًا في روح تيلدا التي التحقت بجامعة كامبريدج لاحقًا، وتخرجت فيها بدرجة البكالوريوس في العلوم الاجتماعية والسياسية والأدب الإنكليزي.

وفي كامبريدج تفجّرت موهبة تيلدا الفنية، كما شهدت انضمامها إلى الحزب الشيوعي ثم الحزب الاشتراكي الأسكتلندي، في تضاد للحياة الأرستقراطية التي تحدّرت منها، واندفاع أوديبي متوقع في مثل حالتها ضد الأب بتجلياته كافة.
قدّمت تيلدا عشرات العروض المسرحية على خشبة الجامعة، وفتحت خزانة الأدب الروائي والمسرحي السحرية التي تتقافز منها الشخصيات الغنية بتفاصيل حيوات لا تعرفها، وكان ذلك ساحرًا وجاذبًا، ما جعل تيلدا الشابة تقطع مع الحياة الواقعية وتنتمي مرة واحدة وإلى الأبد إلى الفن ومغامراته الشائقة والفريدة.
وبعد تخرجها، قدمت عروضًا مسرحية لصالح شركة رويال شكسبير، قبل أن تُفتح أمامها أبواب السينما منتصف الثمانينيات، حيث ارتبطت مهنيًا بالمخرج التجريبي المثلي ديريك جارمان لعدة سنوات، وشاركته في سبعة أفلام.
التجريب إلى حدوده القصوى
يعتبر جارمان (1942-1994) من أكثر الشخصيات تأثيرًا في الثقافة البريطانية في القرن العشرين، وكان فنّانًا وسينمائيًا وكاتبًا ومصمم أزياء وناشطًا، وأنتج ما يميّزه في تحدي ما توصف بالثقافة المعيارية والسياسات النيو- ليبرالية.

وكان أول تعاون لسوينتون مع جارمان مخرجًا في فيلم Caravaggio عام 1986، وهو فيلم درامي تاريخي عبارة عن إعادة سرد خيالية لحياة الرسام الباروكي مايكل أنجلو ميريسي دا كارافاجيو، والفيلم من بطولة شون بين وسوينتون.
ومعه قدّمت أفلامًا في وزن "إدوارد الثاني" و"الحديقة" و"فيتجنشتان" قبل أن تظهر في التحفة السينمائية "اولاندو" من إخراج سالي بوتر، حيث يهيمن الشعر على الكاميرا فيُنطقها.
الفيلم (أورلاندو) مأخوذ عن رواية بالاسم نفسه للروائية البريطانية فرجينيا وولف، وهي تسرد بسخرية رفيعة حياة أحد الشعراء في عهد إليزابيث الأولى، يخضع لتحوّل غامض في هويته الجنسية يغدو معه امرأة فاتنة الجمال، وهو في سن الثلاثين، ويعيش لأكثر من 300 عام من دون أن يتقدّم في العمر.
أورلاندو والهوية الجنسية
كتبت وولف الرواية عام 1928، ويعتبرها بعض النقاد أشهر رواياتها، كما تُعتبر من الأعمال الكلاسيكية في تاريخ الأدب النسوي، وهي أساسية في دراسات الأدب ودراسات الجنس والتحوّل الجنسي.

في العام نفسه أدّت سوينتون دور امرأة من الطبقة العامة تنتحل شخصية زوجها الراحل في أثناء الحرب العالمية الثانية، وهو ما ربطها بمفهوم التحوّلات وميوعة الهوية الجنسية، وكرّس غرابة أدوارها في السينما، حيث يذهب التجريب في المفاهيم واللعب بها إلى حدود قصوى، وينعكس في/ وعلى جسد ممثلة أصبحت قابلة لكل الأدوار تقريبًا.
ومع بداية الألفية الثانية شقّت سوينتون طريقها نحو هوليوود، ولكن من دون أن تستسلم للتيار التجاري السائد إلا في قليل من الأفلام.
أوسكار وحيد وحضور فريد
قدّمت سوينتون عدة أدوار تحت إدارة المخرج الإسباني الشهير بيدرو ألمودوفار، منها "الغرفة المجاورة" وهو من بطولتها وجوليان مور، عن علاقة معقدة بين صديقتين تلتقيان بعد سنوات طويلة من الفراق، إحداهما روائية والثانية مراسلة صحافية حربية سابقة. وجاء ذلك بعد فيلم آخر من توقيع ألمودوفار عام 2020 "ذا هيومن فويس"، المأخوذ عن أحد نصوص الفرنسي جان كوكتو.

عرفت مسيرة سوينتون فوزها بأوسكار أفضل دور ثانوي عن فيلم مايكل كلايتون عام 2007 وهو من بطولتها وجورج كلوني، وشاركت في العديد من الأفلام اللافتة، ما دفع نيويورك تايمز لتصنيفها عام 2020 ، كواحدة من أعظم الممثلين فى القرن الحادي والعشرين.
ورغم ذلك شاركت سوينتون في أفلام تعتبر تجارية، ومن بينها "الشاطىء" من بطولة ليوناردو دي كابريو و"فانيلا سكاي" وهو من بطولة توم كروز، إضافة إلى مشاركتها في سلسلة أفلام "نارنيا".