جثث مقطعة ومفاضلة بين الجرحى.. المشهد في مجمع ناصر ليلة استئناف حرب غزة
عندما بدأت الانفجارات الأولى في قطاع غزة هذا الأسبوع عقب انقلاب الاحتلال على اتفاق وقف إطلاق النار، وقف الطبيب البريطاني الزائر ثاقب روكاديا على شرفة مستشفى ناصر في خانيونس وشاهد خيوط الصواريخ وهي تتوهّج ليلًا.
وبينما صرخ جرّاح فلسطيني بجانبه من هول ما يُشاهده، نصح روكاديا الطاقم الطبي في المستشفى بالتوجّه إلى قسم الطوارئ.
وسرعان ما تدفّقت جثث الشهداء المقطّعة المحمّلة في سيارات الإسعاف وعربات الحمير أو بين أحضان أقارب مذعورين.
وما أذهل الأطباء أكثر هو عدد الأطفال الضحايا الذين وصلوا إلى المستشفى.
وقال روكاديا في حديث لوكالة "أسوشييتد برس": "طفل تلو الآخر، الغالبية العظمى كانوا من النساء والأطفال وكبار السن".
وكانت هذه بداية يوم فوضوي استمرّ 24 ساعة في مجمع ناصر الطبي، أكبر مستشفى في جنوب غزة.
وقد تحوّل ذلك اليوم إلى واحد من أكثر الأيام دموية في الحرب التي استمرت 17 شهرًا، حيث تدفّق أكثر من 300 جريح إلى المستشفى الذي كغيره من المرافق الطبية في غزة، تضرّر جراء الغارات والهجمات الإسرائيلية طوال الحرب، ما تركه بدون معدات أساسية، بينما كان يُعاني من نقص في المضادات الحيوية وغيرها من المستلزمات الأساسية.
فرز الضحايا
توافد الجرحى من مخيم للنازحين اشتعلت فيه النيران ومن منازل في خانيونس ورفح، جراء القصف.
وكانت ممرضة تُحاول إنعاش طفل ملقى على الأرض مصابًا بشظايا في قلبه، بينما جلس شاب مبتورة معظم ذراعه بالقرب منه، يرتجف.
في المقابل، حمل صبي حافي القدمين شقيقه الأصغر البالغ من العمر نحو أربع سنوات، والذي بُترت قدمه.
وكانت الدماء في كل مكان على الأرض، مع قطع من العظام والأنسجة.
وقالت تانيا حاج حسن، طبيبة الأطفال الأميركية المتطوّعة في جمعية العون الطبي للفلسطينيين، لوكالة أسوشييتد برس: "لقد شعرت بالإرهاق، وركضت من زاوية إلى أخرى، في محاولة لمعرفة مَن أعطي الأولوية، ومن أُرسل إلى غرفة العمليات، ومن أُعلنه حالة لا يمكن إنقاذها".
وأضافت: "إنه قرار صعب للغاية، واضطررنا إلى اتخاذه عدة مرات".
وقد لا يلاحظ الأطباء الجروح بسهولة. فعلى سبيل المثال، بدت إحدى الفتيات الصغيرات بخير وأخبرت الطبيبة حاج حسن أنّها كانت تتألم قليلًا عند التنفّس، ولكن عندما نزعوا ملابسها، تبيّن أنّها تنزف في رئتيها.
أما أثناء النظر إلى شعر فتاة أخرى، فقد اكتشفت حاج حسن وجود شظايا في دماغها.
وشرح روكاديا أنّه جرى نقل اثنين أو ثلاثة من الجرحى على النقالات في كل مرة، قبل أن يتمّ نقلهم بسرعة إلى غرفة العمليات.
كان روكاديا يدوّن ملاحظاته على قصاصات ورق أو مباشرةً على جلد المريض، على غرار هذا للجراحة، وهذا للفحص بالأشعة.
كان يكتب الأسماء كلما أمكن، لكن العديد من الأطفال كان يتم إحضارهم مع غرباء، نظرًا لاستشهاد آبائهم أو إصابتهم أو فقدانهم في ظل هذه الفوضى. لذلك كان غالبًا ما يكتب "مجهول".
في غرفة العمليات
يومها، سارع الدكتور فيروز سيدهوا، وهو جرّاح صدمات أميركي من كاليفورنيا يعمل مع مؤسسة "ميدغلوبال الخيرية الطبية"، على الفور إلى غرفة العمليات، بينما صنّف المستشفى المصابين الأكثر تضررًا والذين يُعتقد أنّه لا يزال بالامكان إنقاذهم.
لكن أول طفلة رآها كانت في الثالثة أو الرابعة من عمرها، وكانت في حالة حرجة للغاية. كان وجهها مشوهًا بالشظايا.
وقال سيدهوا لوكالة أسوشييتد برس: "كانت لا تزال على قيد الحياة عمليًا، لكن مع كثرة الضحايا الآخرين، لم يكن بوسعنا فعل شيء".
أخبر الطبيب والد الفتاة أنّها ستموت، بينما أجرى نحو 15 عملية جراحية لضحايا آخرين، واحدة تلو الأخرى.
أما الجرّاح الفلسطيني خالد السر وجراح أيرلندي متطوّع فكانا يقومان بعمليات أخرى. وكانت هناك امرأة تبلغ من العمر 29 عامًا، وقد تهشم حوضها، وكانت الأوردة المُحيطة بالعظام تنزف بشدة.
بذل الجرّاحان ما في وسعهما في الجراحة، لكنّها استشهدت بعد عشر ساعات في وحدة العناية المركزة.
وقال سيدهوا إنّ طفلًا في السادسة من عمره كان يعاني من ثقبين في قلبه، وثقبين في القولون، وثلاثة ثقوب أخرى في معدته. وقام الأطباء بإصلاح الثقوب وأعادوا تشغيل قلبه بعد إصابته بسكتة قلبية. لكنّه استشهد أيضًا بعد ساعات.
وأضاف: "لقد ماتوا لأنّ وحدة العناية المركزة ببساطة لا تملك الإمكانيات لرعايتهم".
من جهته، عزا أحمد الفرا رئيس قسم الأطفال والتوليد، السبب في ذلك إلى افتقار وحدة العناية المركزة للمضادات الحيوية القوية.
الطاقم الطبي
أبدى روكاديا إعجابه بكيفية تعامل طاقم المستشفى مع بعضهم البعض رغم الضغوط. فبينما وزّع العمّال الماء على الأطباء والممرضات، نظّف عمال النظافة الملابس والبطانيات والمناديل الملطّخة بالدماء والبقايا الطبية المتراكمة على الأرضيات.
وفي الوقت نفسه، كان بعض أفراد عائلات الموظفين قد استشهدوا في الضربات. ومن بينهم الجرّاح الفلسطيني خالد السر، الذي اضطر للذهاب إلى المشرحة للتعرّف على جثتَي والد زوجته وشقيقها.
وقال لوكالة أسوشييتد برس: "الشيء الوحيد الذي رأيته كان مثل كيس من اللحم الذائب والعظام المكسورة".
وفقد موظف آخر زوجته وأطفاله. وبحسب حاج حسن، إنّ طبيب تخدير استشهدت والدته و21 من أقاربه في وقت سابق من الحرب، علم لاحقًا باستشهاد والده وشقيقه وابن عمه.
تداعيات لاحقة
وقال الفرا إنّ نحو 85 شخصًا استشهدوا في مستشفى ناصر يوم الثلاثاء، بما في ذلك نحو 40 طفلًا تتراوح أعمارهم بين عام و17 عامًا.
وتُواصل الطبيبة حاج حسن الاطمئنان على الأطفال في وحدة العناية المركزة في مستشفى ناصر. ولا تزال الفتاة المصابة بشظية في دماغها عاجزة عن تحريك جانبها الأيمن، بينما جاءت والدتها لرؤيتها وهي تعرج جراء إصابتها، وأخبرت حاج حسن أنّ شقيقات الفتاة الصغيرة قد استشهدن.
وقالت الطبيبة: "لا أستطيع استيعاب حجم القتل الجماعي والمجازر التي ارتُكبت بحقّ العائلات أثناء نومها والتي نشهدها هنا. لا يمكن أن يكون هذا هو العالم الذي نعيش فيه".