Skip to main content

حقبة مريرة.. شهادات توثق تجربة عمل آلاف المغاربة في مناجم فرنسا

الأحد 5 فبراير 2023

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، شنت الحكومة الفرنسية معركة من أجل تراجع الفحم في نور با دو كاليه شمالي البلاد، حيث عملت شركات التعدين الفرنسية على تجنيد الآلاف من المغاربة منذ عشرينيات القرن الماضي في منطقة أغادير.

ولم تفوت الشركات الفرنسية الفرصة لتوسيع مناطق تجنيدها للمغاربة، فمنذ عام 1946 إلى عام 1958 وسعّت حملتها لتشمل الجنوب بأكمله من خلال مكتب الهجرة الوطني المغربي.

تجربة مريرة

وتبقى حكاية المهاجرين المغاربة مع مناجم الفحم تجربة ورواية إنسانية مريرة ما زالت آثارها راسخة رغم مرور فترة طويلة، ويتحمل وزرها أبناء من عاشوا تلك الرواية.

وتكثفت عمليات تجنيد المغاربة بعد عام 1960، وفي هذه الفترة برز اسم الجندي الفرنسي فيليكس مورا الذي يلقبه السكان الأمازيغ بـ"تاجر الرقيق"، والذي مكّن من توظيف 80 ألف شخص من عام 1956 إلى عام 1977.

وكان عدد العمال المغاربة وحدهم ما بين 32 و50% من إجمالي عدد عمال مناجم نهر الشمال وحوض نور با دو كاليه في الشمال الفرنسي، حيث كان غالبيتهم من القاصرين.

في ذلك الوقت، لم تكن سلامة العمال أولوية، حيث لا توجد أقنعة ضد غبار الفحم الذي يسبب السحار السيليسي ولا خوذات ضد ضوضاء الآلات التي تصم الآذان.

وتؤكد التقارير أن العديد من مرضى السحار السيليسي ماتوا بعد فترة وجيزة من عودتهم إلى المغرب.

تكثفت عمليات تجنيد المغاربة بعد عام 1960

وبعد انتهاء نشاط التعدين في حوض الفحم بنور با دو كاليه، وإغلاق الحفر الواحدة تلو الأخرى، تم إغلاق آخرها في ديسمبر/ كانون الأول عام 1990.

وتم تشجيع العمال على العودة إلى المغرب، وكان على عمال المناجم المغاربة الاختيار بين العودة إلى البلاد مقابل تعويض أو يسجلوا كعاطل عن العمل.

إلا أن أغلبية كبيرة اختارت الحل الثاني وبعضهم فضل العودة إلى البلاد، ومع ذلك، على مر السنين، سرعان ما سقطت هذه الفئة في النسيان، وتم تجاهل عمال المناجم السابقين وأيضًا حرمانهم من أي حق من حقوقهم.

ولم تكن المساعدات تعني شيئًا في نظر عمال المناجم في ضوء الأضرار التي لحقت بهم والأمراض المهنية التي عانوا منها، وعندها أدرك عمال المناجم وعائلاتهم أن خيار العودة كان قسريًا.

"أصعب من الموت"

وعن تلك القصص، يروي العضو في جمعية عمال المناجم المغاربة في فرنسا بشار أحصيه أن الأمر كان بمثابة "الحلم" عند رؤية الناس يأتون من الخارج وتكون أوضاعهم المادية جيدة وميسورة في ذلك الوقت.

ويشير إلى أنّ الرحلة الأولى التي انطلقت إلى فرنسا كانت عام 1975 عندما جاء مورا وبدأ بتسجيل الناس، لافتًا إلى أنه كان واحدًا من المرشحين للسفر إلى فرنسا.

ويوضح أنه كان من بين الناس الذين اعتقدوا أنهم سيكونون سعداء عند الذهاب إلى فرنسا وأن البيئة ستكون أفضل.

ويقول: "الذي ينجح في الاختبار يتم قبوله، ومن تم رفضه يعود، وأنا كنت من المقبولين، وأخبرونا حينها أن نتريث لمدة يومين، وبعدها ستكون الرحلة إلى فرنسا"، مشيرًا إلى أن الرحلة كانت وقتها عبر الباخرة.

تؤكد التقارير أن العديد من مرضى السحار السيليسي ماتوا بعد فترة وجيزة من عودتهم إلى المغرب

ويردف: "كنا نستيقظ في أجواء شديدة البرودة، في واقع لا يمكن تصوره إطلاقًا، ومع الوقت بدأنا نتأقلم، لكن عن نفسي لم أنه عملي في الأسبوع الأول، بسبب تعرضي لحادث على إثره نقلت إلى المستشفى"، مشيرًا إلى أن إحساسه بالغربة كان كبيرًا، وشعر بندم شديد.

ويضيف أنها أشياء لا يمكن تصورها، "كنا نسمع الموت، لكن حين وصلنا إلى هناك أدركنا أن ذلك أصعب من الموت نفسه، في أن ننزل إلى عمق 900 متر تحت الأرض"، مشيرًا إلى أنه "هناك أدرك تعب من يعود إلى المغرب قادمًا من فرنسا وعلامات الغنى والبذخ بادية عليه".

ويمضي قائلًا: "كل شيء توقف، وقلنا للفرنسيين إذا أردتم أن تعملوا فلن نوقفكم، فنحن نطالب بحق المغاربة المظلومين، جاء مورا وقتها وقال عليكم بالعمل إلى أن نجد الحل، فقلنا له الحل أن تعطينا حقوقنا".

"الحلم السراب"

من جانبه، يكشف الباحث المغربي المتخصص في الهجرة خالد العيوض أنه جرى تشغيل نحو 80 ألف شاب مغربي أعمارهم لا تتجاوز 25 عامًا وفي بعض الحالات تقل عن 18 عامًا، مؤكدًا أن غالبيتهم كانوا يبحثون عن الهجرة لتحسين أوضاعهم.

ويوضح أن عمليات التجنيد أو التشغيل بدأت عام 1957 عند استدعاء إدارة المناجم في شمال فرنسا العسكري فيليكس مورا ليكون هو المكلف بالبحث عن الشباب بحكم أنه يتقن العربية والأمازيغية وسبق له العمل في الجيش الفرنسي ويعرف المناطق جيدًا.

ويلفت إلى أن كل هذه الأمور جرت بالتنسيق والتعاون مع الإدارة المغربية، مشيرًا إلى أنّ الجميع بات يتقاطر للذهاب إلى فرنسا ظنًا منهم أنهم سيحصلون على الأموال والسيارات ومعتبرًا أنه كان بمثابة "الحلم السراب".

ويتابع العيوض أن شخصية مورا معروفة لديه لأنه ينتمي إلى سوس، وهو المجال الذي عمل فيه في مورا، والذاكرة الشعبية تحتفظ بالكثير من الحكايات والقصص، بعضها يصل إلى الخيال، ففي بعض الحالات يحكون عنه قصصًا غريبة.

ويردف أنه منذ ذلك الوقت بدأ يبحث عن الوثائق، ويقوم بالاستجوابات ويبحث عن حكايات فوجد الكثير منها.

عملت شركات التعدين الفرنسية على تجنيد الآلاف من المغاربة منذ عشرينيات القرن الماضي

ويشير إلى أن هناك على الأقل عشرة أضعاف بمعنى 800 ألف إلى مليون من الشباب المغربي مروا من هذه التجربة ووقفوا في الشمس الحارقة لثلاث أو أربع ساعات، لا يلبسون إلا السراويل، في حين أن أجسادهم العليا عارية، ويقفون كما يقف العبيد.

ويتابع أن "الناس كانوا يعتقدون بأنهم سيمكثون داخل غرف ومنازل، فإذا بهم يسكنون داخل بيوت من الخشب، وبالتالي كان نوع التمييز العنصري منذ البداية".

ويردف أن "الاستغلال كان مقصودًا منذ البداية، لأن الطريقة التي قدم بها مورا إلى المغرب كلها كانت بنية مبيتة، ولم يأت لسواد عيونهم، بل كان يبحث عن أذرع قوية للعمل، وهذه الأذرع يجب ألا تقرأ ولا تفهم ولا تكتب، وكانت تبصم على العقود".

"جُردنا من جميع ثيابنا"

من جهته، يقول رئيس جمعية عمال المناجم المغاربة في فرنسا عبد الله سماط: "أبلغني أخي تواجد "مورا" في منطقة تازناخت. امتطيت دراجتي حتى "أولوز" ومنها اسقليت الحافلة. وصلت المكان بعد الظهيرة، فوجدت طابورًا من الرجال ينتظرون دورهم".

ويضيف: "جُردنا من جميع ثيابنا. تقف عاريًا حتى يُرى مدى أهليتك".

ويردف أن "مورا وضع شروطًا دقيقة لتسجيل الراغبين في الهجرة، كانوا يقفون أمامه في صفوف متراصة، وينتقي بعينيه من يراه أهلًا للعمل، ثم ينظر إلى العينين والشفتين ويفحص الجميع خلال دقائق معدودات".

ويتابع "بعدها كنا نضع رقمًا معينًا على صدرنا، ويلتقط لنا الصور ثم نسجل أنفسنا بملء الاستمارة، بعدها مباشرة يخبروننا بالموعد في أغادير".

ويقول سماط: "وزعنا في مجموعات، وبعدها ركبنا الحافلات، واستغرقنا ليلة كاملة في الطريق باتجاه الدار البيضاء، ركبنا الباخرة وطوال الطريق كنا نشم روائح الحيوانات، استغرقنا 3 أيام في السفر، وعانينا اضطرابات في الأكل، منا من فقد الشهية ومنا من مرض".

ويضيف: "نزلنا من الباخرة عندما وصلنا المرفأ مع صيحات أحد رجال مورا، واصطحبنا إلى محطة الحافلات، صعدناها وأحضروا لنا قطعة شوكولاتة، وخبزة واحدة مع قنينة مشروب غازي من الحجم الكبير، يقتسمها كل 3 أفراد بينهم".

فحص العمال المغاربة الذين يريدون العمل في المناجم

ويردف: "استيقظنا في الخامسة صباحًا، نزلنا تحت الأرض، اطلعنا على الوضع وطريقة العمل، وأخبرنا بمكان عمل كل واحد منا".

ويشير إلى أنه أثناء الاستحمام "كان الجميع يضع ثيابه في علاقة ترفع بالسلاسل إلى الأعلى، ثم يظلون مجردين من ثيابهم أمام الجميع"، إلا أنه أشار إلى أنهم كانوا يستحمون بالسراويل لطبيعتهم المحافظة، فتعرضوا للسخرية من قبل العراة الذين اعتادوا الوضع وتأقلموا معه.

ويقول: "عانينا الأمرين من جهلنا للغة فهمًا وتحدثًا، كذلك إعلائنا من قبل الأوروبيين دائمًا".

ويلفت إلى أنه قبل الانضمام إلى النقابة أولًا كي لا ينفى إلى المغرب، وكان يحضر اللقاءات ويصغي ويتعلم، حتى أصبح المشرفون على عمله السابق خصومًا له، وطالبوا بمنعه من العمل، كي لا يحرض العمال، وخاضوا معه حربًا وعزموا الانتقام منه، لكن على الرغم من محاولاتهم لنسف قضيته إلا أنه ازداد تشبثًا بها وإصرارًا عليها، حتى أصبح مناضلًا واعيًا بالحقوق والقانون.

"يعيشون في تنافسية"

أمّا رئيس رابطة حقوق الإنسان في فرنسا جان فرانسوا مينارد فيقول: إنّ الشباب الذين قدموا إلى فرنسا كانت ترسلهم المملكة المغربية من أجل العمل"، مضيفًا: "هؤلاء الناس اختاروا القدوم لفرنسا لأنهم رأوا مستقبلًا أفضل بالتأكيد ومعظمهم لم يرغب في العودة بعدها".

ويروي مينارد في حديثه إلى "العربي": "كانت هناك سفينة محملة بالعمال المغاربة وطلب منهم القيام ببعض الأعمال يعني الذهب والقيام ببعض الأعمال التي رفض الفرنسيون القيام بها".

ويضيف: "كان هناك شخص يتحدث العربية باللهجة المغربية وكان يتقنها جيدًا. لم يكن يسمح لك بالقيام بما تريد ولكنه كان محايدًا ومتعاطفًا. ما هو مؤكد أن الأشخاص الذين وظفوه كانوا مسؤولين عن تصرفاته وبطريقة ما كان كل أرباب العمل مسؤولين والمستفيدون كانوا الفرنسيين لأن هناك من يقوم بالأعمال التي لم نكن نريد القيام بها وهذا ما يحصل حتى اليوم وكنا بذلك مرتاحين".

ويوضح: "كان العمال يعيشون في تنافسية مع العمال الفرنسيين، لأنهم يعملون بأجر أقل، أي أنهم في العمل كانوا مستخدمين، وثقافيًا كانوا مستعبدين".

ويردف: "كان الاتهام الأبرز هو أنهم قاموا بإضراب جماعي، ورفضوا الدخول إلى قاع المنجم".

ويعرب عن اعتقاده أن ما كان يقال في ذلك الوقت هو أن ما فعلوه كان بتضامن من العمال الآخرين، حيث كانت هناك العديد من النقابات التي احتشدت، لكن الآخرين لم يتحركوا كثيرًا.


المزيد حول تفاصيل وبقية الشهادات عن طريقة التعامل الفرنسي مع آلاف عمال المناجم المغاربة في الحلقة المرفقة من برنامج "كنت هناك".

المصادر:
العربي
شارك القصة