توفر الطاقة النووية مصدرًا مهمًا وخاليًا نسبيًا من انبعاثات الكربون لتوليد الكهرباء، لكنها تخلف وراءها إرثًا من المواد المشعة والتي يبقى خطرها قائمًا لآلاف السنين. ولطالما أُثيرت تساؤلات حول جدوى استمرار الطاقة النووية، في حين أن مسألة كيفية التعامل مع نفاياتها لم تُحل بشكل مرضٍ على ما يبدو.
اكتشف الكيمائي الألماني كارتن كلوبروث اليورانيوم في عام 1789. وتستخدم التكنولوجيا النووية الطاقة المُنبعثة من انشطار ذرات اليورانيوم. طُوّرت هذه لأول مرة في أربعينيات القرن الماضي، وخلال الحرب العالمية الثانية، ركّزت الأبحاث في البداية على إنتاج القنابل.
ثم تحوّل الاهتمام في خمسينيات القرن الماضي إلى الاستخدام السلمي للانشطار النووي، والتحكم فيه لتوليد الطاقة.
إنتاج الطاقة النووية حول العالم
وتعمل محطات الطاقة النووية في 31 دولة حول العالم. ومن خلال شبكات النقل الإقليمية، يعتمد عدد كبير من الدول جزئيًا على الطاقة المولدة من الطاقة النووية، وخاصة في أوروبا.
ففي عام 2023، وفرت محطات الطاقة النووية 2602 تيراوات/ ساعة من الكهرباء، مقارنة بـ 2545 تيراواط/ ساعة في عام 2022، بحسب الرابطة النووية العالمية.
وفي عام 2023، أنتجت 14 دولة ما لا يقل عن ربع كمية الطاقة الكهربائية التي تحتاجها من الطاقة النووية. وتحصل فرنسا على ما يصل إلى حوالي 70% من كهربائها من الطاقة النووية، بينما تحصل أوكرانيا وسلوفاكيا والمجر على حوالي النصف من الطاقة النووية.

وبحسب موقع "ستاتستا"، يعمل 441 مفاعلًا نوويًا في أكثر من 30 دولة حول العالم. وتملك الولايات المتحدة أكبر عدد من مفاعلات الطاقة النووية العاملة (94 مفاعلًا). وتملك الصين 58 مفاعلًا، فيما تملك فرنسا 57 مفاعلاً. أما روسيا واليابان وكوريا الجنوبية فتملك على التوالي، 36 و33 و36 مفاعلًا. كما يوجد 24 مفاعلًا في الهند و17 في كندا و15 في أوكرانيا و9 في بريطانيا و7 في أسبانيا.
كذلك تشغل المفاعلات النووية في كل من فنلندا وبلجيكا وهنغاريا والإمارات العربية المتحدة والبرازيل والمكسيك ورومانيا وبلغاريا وأرمينيا وإيران وسلوفينيا وهولندا وإفريقيا الجنوبية.
وبحسب موقع "إيرث"، قد أثار اثنان من أكبر الحوادث النووية في العالم، كارثة فوكوشيما النووية (2011) وكارثة تشيرنوبيل (1986)، مخاوف بشأن تخزين النفايات النووية والتخلص منها، إذ أطلقا كمية كبيرة من النظائر المشعة في الغلاف الجوي، مما خلّف عواقب وخيمة على الناس والبيئة. ودفع ذلك الحكومات إلى إيجاد بدائل أكثر أمانًا لهذا النوع من الطاقة.
الاتفاقية المشتركة
وغالبًا لا تصرح الدول عن كمية النفايات التي تنتجها مفاعلاتها النووية. وهناك العديد من الصكوك القانونية الدولية المعتمدة تحت رعاية الوكالة الدولية للطاقة الذرية بشأن الأمان النووي.
وتعد الاتفاقية المشتركة بشأن أمان التصرف في الوقود المستهلك وأمان التصرف في النفايات المشعة أول صك قانوني يتناول مسألة سلامة إدارة الوقود المستهلك والنفايات المشعة على نطاق عالمي. ويتم ذلك من خلال إرساء مبادئ أساسية للسلامة، واستحداث عملية "مراجعة نظراء" مماثلة لاتفاقية السلامة النووية.
وتنطبق الاتفاقية على الوقود المستهلك الناتج عن تشغيل المفاعلات النووية المدنية، وعلى النفايات المشعة الناتجة عن التطبيقات المدنية. كما تنطبق على الوقود المستهلك والنفايات المشعة الناتجة عن البرامج العسكرية أو الدفاعية، إذا نُقلت هذه المواد بشكل دائم إلى برامج مدنية حصراً وأُديرت ضمنها، أو عندما يُعلن الطرف المتعاقد المعني أنها وقود مستهلك أو نفايات مشعة لأغراض الاتفاقية. وبالإضافة إلى ذلك، تغطي الاتفاقية الإطلاقات المخططة والمتحكم بها للمواد المشعة السائلة أو الغازية في البيئة من المنشآت النووية الخاضعة للرقابة.
نفايات قليلة
وتشير الرابطة النووية العالمية إلى تطبيق العديد من استراتيجيات إدارة النفايات النووية، مثل التخلص المباشر من النفايات أو إعادة استخدامها في المفاعلات لتوليد المزيد من الكهرباء منخفضة الكربون.
وبحسب الرابطة، تُعتبر كمية النفايات التي تنتجها صناعة الطاقة النووية صغيرة مقارنة بالأنشطة الصناعية الأخرى. ويُصنف 97% من النفايات المنتجة على أنها نفايات منخفضة أو متوسطة المستوى الإشعاعي (LLW أو ILW). وقد تم التخلص من هذه النفايات على نطاق واسع في مستودعات قريبة من السطح لسنوات عديدة. ففي فرنسا، حيث تُعاد معالجة الوقود، يُصنف 0.2% فقط من إجمالي النفايات المشعة من حيث الحجم على أنها نفايات عالية المستوى الإشعاعي (HLW).
وتعد كمية النفايات عالية المستوى الإشعاعي (بما في ذلك الوقود المستخدم عند اعتباره نفايات) المنتجة أثناء الإنتاج النووي صغيرة؛ إذ يُنتج مفاعل كبير نموذجي (1 جيغاوات كهربائية) حوالي 25-30 طنًا من الوقود المُستهلك سنويًا. وقد تم تصريف حوالي 400,000 طن من الوقود المُستهلك من المفاعلات حول العالم، وأُعيدت معالجة حوالي ثلثها.
وتؤكد الرابطة النووية العالمية أنه بخلاف النفايات الصناعية السامة الأخرى، يتضاءل الخطر الرئيسي المرتبط بالنفايات عالية المستوى مع مرور الوقت.
مرافق التخزين المؤقت
وتوفر مرافق التخزين المؤقتة بيئة مناسبة لاحتواء النفايات الموجودة وإدارتها، كما أن انخفاض الحرارة والنشاط الإشعاعي بمرور الوقت يُشكل حافزًا قويًا لتخزين النفايات عالية المستوى لفترة قبل التخلص منها نهائيًا.
وفي الواقع، بعد 40 عامًا، انخفض النشاط الإشعاعي للوقود المستخدم إلى حوالي واحد على ألف من مستواه عند تفريغه. كما تتيح مرافق التخزين المؤقتة للدول تخزين وقودها المستهلك حتى تُنتج كميات كافية منه لجعل تطوير مستودعات التخزين مجديًا اقتصاديًا.

وعلى المدى البعيد، يتطلب التخلص من النفايات النووية عالية المستوى (HLW) ترتيبات مناسبة نظرًا لنشاطها الإشعاعي الممتد. وقد ثبتت فعالية التخلص الآمن والصديق للبيئة من هذه النفايات تقنيًا، مع وجود إجماع علمي دولي على إنشاء مستودعات جيولوجية عميقة. وقد بلغت هذه المشاريع مراحل متقدمة في بعض الدول، مثل فنلندا والسويد.
وفي الولايات المتحدة الأميركية، يعمل مستودع نفايات جيولوجية عميقة (محطة عزل النفايات التجريبية) للتخلص من نفايات ما بعد اليورانيوم (النفايات النووية طويلة العمر الملوثة بمواد عسكرية مثل البلوتونيوم). وتُظهر الدول التي قطعت شوطًا كبيرًا في خطط إنشاء مستودعات جيولوجية عميقة أن الجهود المبذولة لحل مشكلات القبول السياسي والجماهيري على المستويين المجتمعي والوطني يمكن أن تُكلّل بالنجاح.
كما تُستخدم مرافق التخلص الجيولوجي حاليًا للتخلص من نفايات سامة أخرى، بما في ذلك تلك التي تحتوي على الزئبق والسيانيد والزرنيخ والديوكسينات.
نقل النفايات النووية
كذلك يُشكل نقل هذه النفايات خطرًا جسيمًا على الناس والبيئة. فمن بين جميع المواد الخطرة التي تُشحن سنويًا في الولايات المتحدة الأميركية، تُمثل النفايات المشعة 5% فقط من الإجمالي؛ يُعزى أقل من 10% منها إلى إنتاج الطاقة النووية.
وعلى الصعيد العالمي، يُنقل حوالي 15 مليون طرد من المواد المشعة سنويًا عبر الطرق العامة والسكك الحديدية والسفن. وتشير الرابطة النووية العالمية إلى عدم تسجيل أي حالة انبعاث إشعاعي يُسبب ضررًا للناس أو الممتلكات أو البيئة على امتداد ملايين الأميال.
وتمثل طريقة التعبئة الضمان الأساسي للسلامة في نقل المواد النووية. وقد صُممت العبوات التي تُخزّن النفايات أثناء النقل لضمان حمايتها من الإشعاع واحتوائها، حتى في ظلّ أشدّ ظروف الحوادث قسوة. وقد وضعت الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA) معايير تغليف مختلفة وفقًا لخصائص مختلف أنواع المواد النووية ومخاطرها المحتملة. تُشحن شحنات النفايات النووية عالية المستوى (HLW) في براميل متينة من "النوع B" تزن 125 طنًا.
خطر البلوتونيوم
وتشكل المواد النووية عالية الخطورة، مثل البلوتونيوم، جوهر التحدي الذي تثيره النفايات النووية. ينشأ البلوتونيوم، خاصة نظيره البلوتونيوم-239، بشكل أساسي في المفاعلات النووية عندما يمتص اليورانيوم-238 النيوترونات ويتحول. لا يتميز هذا العنصر بكونه شديد الإشعاع فحسب، بل هو أيضًا مادة انشطارية يمكن استخدامها في صنع الأسلحة النووية، مما يضيف بعدًا أمنيًا خطيرًا إلى مشكلة النفايات.
كما يزيد استنشاق البلوتونيوم من احتمالية الإصابة بالسرطان خلال عدة سنوات، بينما تؤدي معظم السموم القوية الأخرى إلى الوفاة الفورية.
وتعتبر الرابطة أن النفايات النووية لا تقل خطرًا عن النفايات الصناعية الأخرى.
وتشير إلى تحلل النشاط الإشعاعي للنفايات النووية بشكل طبيعي، وأن له عمر إشعاعي سام محدود. ففي غضون فترة تتراوح بين ألف و 10 آلاف عام، يتحلل النشاط الإشعاعي للنفايات عالية الكثافة إلى نفس مستوى الخام المُستخرج أصلًا. وتعتمد خطورتها على مدى تركيزها. وبالمقارنة، تبقى النفايات الصناعية الأخرى (مثل المعادن الثقيلة، مثل الكادميوم والزئبق) خطرة إلى أجل غير مسمى.
وتعد معظم النفايات النووية المُنتجة خطرة، نظرًا لنشاطها الإشعاعي، لبضع عشرات من السنين فقط، ويتم التخلص منها بشكل روتيني في مرافق التخلص المخصصة، وتعد كمية ضئيلة فقط من النفايات النووية (حوالي 3% من الإجمالي) طويلة العمر وعالية الإشعاع، وتتطلب عزلها عن البيئة لآلاف السنين.
خطط التخزين الآمن
وقد وضع علماء الإشعاع والجيولوجيون والمهندسون خططًا مفصلة للتخزين الآمن للنفايات النووية تحت الأرض، وهي خطط تعتمدها بعض الدول حاليًا. وصُممت المستودعات الجيولوجية للنفايات النووية عالية الضغط لضمان عدم وصول الإشعاع الضار إلى السطح حتى في حالة الزلازل الشديدة أو مع مرور الوقت.

وتتضمن تصاميم التخلص طويل الأمد طبقات حماية متعددة. تُغلّف النفايات في براميل هندسية عالية الجودة في شكل زجاجي مستقر، وتُوضع على أعماق كبيرة تحت المحيط الحيوي مما يمنع أي حركة للنشاط الإشعاعي لآلاف السنين.
في حين أن الأطر الزمنية المعنية تمنع إجراء اختبارات كاملة، فقد قدمت الطبيعة أمثلة مماثلة على التخزين الناجح للنفايات المشعة في تكوينات جيولوجية مستقرة. فقبل حوالي ملياري سنة، أنتجت رواسب اليورانيوم الطبيعي في دولة الغابون الإفريقية تفاعلات نووية تلقائية وكبيرة استمرت لسنوات عديدة. ومنذ ذلك الحين، وعلى الرغم من هطول الأمطار الاستوائية والمياه الجوفية على مدى آلاف القرون، فإن "النفايات" المشعة طويلة الأمد من تلك "المفاعلات" هاجرت لمسافة تقل عن عشرة أمتار.
تكلفة إدارة النفايات
ونظرًا للإجماع على أن منتجي النفايات المشعة يتحملون تكاليف التخلص منها، تُجري معظم الدول التي لديها برامج للطاقة النووية تقديرات لتكاليف التخلص وتُحدّثها دوريًا. كما نسّقت منظمات دولية، مثل وكالة الطاقة النووية (NEA) التابعة لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)، عمليات لمقارنة هذه التقديرات.
وبناءً على التكاليف الإجمالية المقدرة لإدارة النفايات النووية، تُلزم العديد من الدول مُشغّلي محطات الطاقة النووية بتخصيص تمويل لتغطية جميع التكاليف. وتختلف الآليات المتبعة من دولة لأخرى. ورغم ارتفاع المبلغ المُودع بالفعل في الصناديق المخصصة، فإن تكاليف إدارة النفايات لا تُزيد بشكل كبير من سعر الكهرباء. عادةً ما تُمثل تكاليف إدارة الوقود المستهلك والتخلص منه حوالي 10% من إجمالي تكاليف إنتاج الكهرباء من محطة الطاقة النووية. لذا، فرغم ارتفاع التكاليف المطلقة لإدارة النفايات، إلا أنها لا تجعل دورة الوقود النووي غير اقتصادية، نظرًا لارتفاع نسبة الإيرادات المحققة إلى حجم النفايات المنتجة.
خيارات إدارة النفايات النووية
وعلى مر السنين، طُرحت عدة خيارات لإدارة النفايات النووية، وقد خضع خيار التخلص من النفايات في الفضاء لدراسات متكررة منذ سبعينيات القرن الماضي. إلا أنه لم يُطبّق، ولم تُجرَ دراسات إضافية بسبب تكلفته العالية وجوانب السلامة المرتبطة بخطر فشل الإطلاق.
كما طُرحت فكرة تحويل نويدة مشعة إلى أخرى عبر القصف النيوتروني في مفاعل نووي أو جهاز يعمل بمسرّع. وتهدف هذه الطريقة إلى تحويل الأكتينيدات طويلة العمر ونواتج الانشطار إلى نويدات أقصر عمرًا، وبالتالي الحصول على نفايات تصبح غير ضارة إشعاعيًا في غضون بضع مئات من السنين فقط.
لكن عملية التحويل غير ممكنة لجميع النفايات المنتجة سابقًا أو التي سيتم إنتاجها. وقد يكون التحويل قادرًا على تقليل كميات النفايات، ولكنه لن يفعل ذلك إلا إلى حد معين، وبالتالي لا يلغي الحاجة إلى وسيلة للتخلص النهائي منها.