داود عبد السيّد.. أفلام قليلة وإنجازات سينمائية كبيرة
ينتمي المخرج داود عبد السيد، صاحب "البحث عن سيد مرزوق" و"الكيت كات" و"أرض الخوف" إلى ما تُسمى موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية، التي شهدت صعودًا لافتًا في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته.
وأنتجت حساسية جديدة في التذوّق الجمالي، وانطلقت من مقاربات ثورية للواقع المصري الذي شهد تحوّلات كبرى بعد حرب عام 1973، وانتهاج الرئيس الراحل أنور السادات سياسة الانفتاح على الغرب، وعقد معاهدة سلام مع إسرائيل.
على أن انضواء عبد السيد وعاطف الطيب ومحمد خان وخيري بشارة وعلي عبد الخالق وسواهم ضمن موجة الواقيعة الجديدة، وهو تعبير مدرسي، لم يعن أنهم أنتجوا رؤى موحدة أو قاربوا مواضيعم بأساليب متقاربة، فكثير من أعمال هؤلاء اختلطت فيها المدارس الفنية وإن غلبت عليها الواقعية بأطيافها من الخشنة إلى الشاعرية، ومن ذلك فيلم "البحث عن سيد مرزوق" وهو ثاني أعمال عبد السيد، بعد أول أعماله السينمائية الروائية "الصعاليك" الذي أخرجه عام 1985.
أُنتج فيلم "البحث عن سيد مرزوق"- 1991، وهو من الأفلام المصرية النادرة التي يتحرّك فيها مفهوم الواقعية في منطقة الفانتازيا والسوريالية على صعيد الفكرة وأسلوب المقاربة السينمائية، وفيه نعاين أسلوب عبد السيد، المختلف، الذي دفع بعض النقاد إلى وصفه بفيلسوف السينما المصرية.
إنه عن حادث صغير يصادفه يوسف كمال (نور الشريف) الموظف العادي الذي يكاد لا يغادر بيته، فيغيّر حياته بشكل كامل.
يصحو من نومه ويغادر إلى مكان عمله فيكتشف أن اليوم هو الجمعة (عطلته الأسبوعية)، وهو ما يعني أن الأحداث التي ستصادفه خلال هذا اليوم ستكون خارج مألوف حياته تمامًا.
يلتقي يوسف رجلًا ثريًا يُدعى سيد مرزوق، رجل بملامح أرستقراطية ومزاج متهتك، ولا تتحكم بأفعاله قوانين أو أعراف، يخبره أن الناس أربعة أنواع: السادة وهؤلاء يفعلون ما يريدون لأن القانون يحميهم، و"المطاريد" الذين تلاحقهم الشرطة.
والنوع الثالث هو "الغلابى" المنشغلون في أحوالهم ولا يغادرون بيوتهم، وليس مسموحًا لهم أن يعيشوا إلا ضمن حدود معينة، أما النوع الرابع فهو المشاغبون، وهم من يفترض أن ينشغلوا في أحوالهم الخاصة لكنهم يرفضون ذلك، وهم أخطر أنواع البشر، ويطلب منه أن يختار أي نوع من البشر يريد أن يكون.
العبث في "البحث عن سيد مرزوق"
خلال يوم كامل (24 ساعة) تنقلب حياة الموظف الصغير رأسًا على عقب: ثمة شارلي شابلن في الشارع، رجل أمن يتعقب الموظف ويقيّد يديه في أحد الكراسي، والأهم ثمة سيد مرزوق، بالغ الثراء، الذي يدير لعبة الحياة على طريقته، ومنها حياة يوسف كمال إذ ينقله من خانة "الغلابى" إلى خانات أنواع البشر الأخرى، دون أن يتمكن من الانتماء إليها.
تبدو اللعبة عبثية. الحياة مصائر معذبة تبحث عن معان غائبة ولا يمكن القبض عليها. فرص تأتي وتذهب بلا سبب، وغياب جدوى يُلقي بالكائن البشري في فراغ الحياة. وكل ذلك يتكثّف ويحدث للموظف الصغير يوسف كمال، البريء الذي يدفعه الثري في أتون تجارب كبرى ليواجه أسئلة الوجود دون أن يجد لها معنى.
تتكرّر الفكرة نفسها مع تنويع يلائم موضوعها في "أرض الأحلام" الذي أخرجه عبد السيد عام 1993، وهو آخر أفلام الفنانة فاتن حمامة، ومن بطولة يحيى الفخراني الذي يؤدي دور الساحر، حيث حدث صغير خارج عن مألوف حياة البطلة يقلب حياتها رأسًا على عقب، إضافة إلى أن كل الأحداث الغرائبية التي تصادفها بطلة الفيلم تحدث في يوم واحد أو نحو نحوه.
وفي الفيلم نشاهد فاتن حمامة في دور يختلف أدوارها السينمائية السابقة كلها: امرأة متقدّمة في السن، تواجه اختبار عمرها بعد حياة في الظل تمحورت حول إرضاء الزوج ورعاية الأولاد، بلا أحلام على الإطلاق سوى أن تسهر ذات يوم إلى آخر الليل.
يطلب منها أبناؤها السفر معهم إلى الولايات المتحدة (أرض الأحلام)، وعندما تذعن إلى رغبتهم، تكتشف أنه فقدت جواز سفرها قبل يومٍ واحد من موعد السفر، فتبدأ رحلتها الغرائبية في البحث عنه، كما حدث الأمر مع يوسف كمال في "البحث عن سيد مرزوق".
ويتحوّل بحثها عن جواز السفر رمزيًا ودلاليًا إلى بحث عن ذاتها الضائعة، وتصادف كلّ ما ومن لم يسبق له أن كان في سياق حياتها المنغلقة والهادئة، الملمومة على الأولاد قبل ذلك اليوم.
تلتقي ساحرًا، وتدخل قسم شرطة، وتتوه في الشوارع وتسهر إلى آخر الليل، لتكتشف في آخر الأمر أنها لم تكن نفسَها يومًا، ولم تكن هنا أيضًا، وأنّ عليها أن تبقى، فتلك أحلام الآخرين، وليست أحلامها.
وهو ما يحدث على نحو مشابه ليوسف كمال في "البحث عن سيد مرزوق" الذي منذ أُخرج من خانة "الغلابى" لا ينفك يبحث عن حقيقته وذاته الضائعة.
من يوسف شاهين إلى الصعاليك
ولد داود عبد السيد عام 1946، وحصل على البكالوريوس في الإخراج السينمائي من المعهد العالي للسينما عام 1967.
بدأ عمله السينمائي مساعد مخرج في بعض الأفلام، وأهمها "الأرض" ليوسف شاهين (إنتاج 1970 ويحتل المرتبة الثانية في قائمة أفضل مئة فيلم مصري)، و"الرجل الذي فقد ظله" لكمال الشيخ (1968)، و"أوهام الحب" لممدوح شكري (1970).
وفي 1976 بعد انقطاع عن العمل لستة أعوام، عاد عبد السيد لإخراج أفلام تسجيلية، منها "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم"، و"العمل في الحقل" عام 1979، و"عن الناس والأنبياء والفنانين" عام 1980، ليبدأ بعد ذلك مغامرته الكبرى في إخراج الأفلام الروائية، بفيلم "الصعاليك" عام 1985 الذي أسند بطولته إلى نور الشريف ومحمود عبد العزيز.
كتب عبد السيد سيناريو "الصعاليك" عام 1981 وأخرجه بعد ذلك بأكثر من ثلاث سنوات، بسبب مشكلات إنتاجية، ورغم أن الفيلم لم يحظ بإقبال جماهيري في دور السينما لأسباب عديدة إلا أنه قدّم عبد السيد مخرجًا كبيرًا منذ فيلمه الأول، حيث اُستقبل "الصعاليك" بحفاوة كبيرة من النقاد.
وكان أول عرض له في مهرجان القاهرة السينمائي في العام نفسه الذي أُنتج فيه، وحصل على خمس جوائز في مهرجان خريجي معهد السينما الثالث في أسوان، منها جائزة العمل الأول للمخرج.
وكما واجه عبد السيد مشكلات أخّرت فيلمه الأول "الصعاليك"، فقد واجه مشكلات شبيهة لإقناع شركات الإنتاج بمشروعه السينمائي الثاني، وهو ما ظل يواجهه في مسيرته السينمائية بأسرها قبل أن يعتزل العمل السينمائي عام 2022، فقد تطلب الأمر نحو خمس سنوات قبل أن ينجز فيلمه الثاني "البحث عن سيد مرزوق" عام 1990 الذي أنتجته الممثلة سميرة أحمد.
أخرج عبد السيد تسعة أفلام، كتب قصة وسيناريو ثمانية منها، وهي "الصعاليك" عام 1985، "البحث عن سيد مرزوق" عام 1991، "الكيت كات" عام 1991، "أرض الأحلام" عام 1993، "سارق الفرح" عام 1995، "أرض الخوف" عام 2000، "مواطن ومخبر وحرامي" عام 2001، و"رسائل البحر" عام 2010، و"قدرات غير عادية" آخر أفلامه عام 2015.
الكيت كات ومالك الحزين
ومن بين أفلامه التسعة اُختير "الكيت كات" في قائمة أفضل مئة فيلم مصري، حيث احتل المرتبة ال24، كما ضمّت قائمة أفضل فيلم عربي التي أصدرها مهرجان دبي السينمائي عام 2013، ثلاثة أفلام لعبد السيد منها "الكيت كات" الذي احتل المرتبة الثامنة إضافة إلى فيلمي "أرض الخوف" و"رسائل البحر".
أُخذ "الكيت كات" عن رواية "مالك الحزين" للروائي المصري إبراهيم أصلان"، التي تعتبر من أهم مئة رواية عربية في القرن العشرين.
وتدور أحداثها في منطقة الكيت كات في حيّ إمبابة الشعبي في القاهرة، وتعاين تحوّلات الحيّ الذي بدأت ملامحه وثقافة ساكنيه بالتغيّر في سبعينيات القرن الماضي، جرّاء سياسة الانفتاح على الغرب التي انتهجها الرئيس الراحل أنور السادات.
وتقارب الرواية التي يُعتبر المكان بطلها الحقيقي، مصائر سكان الحيّ البائسة والمعذّبة، وتحديدًا يوسف النجار، الشاب الجامعي، الذي ترصد الرواية انثيالات ذاكرته عن ماضيه وأحلامه التي أُجهضت جراء القمع السياسي والفقر، ولا مبالاته إزاء عوالم حيّه التي تتبدّل.
كما تعاين الرواية تداعيات التغيّرات التي أصابت المكان الذي كان يتعرّض للبيع التدرجي، وهدم مساكنه لبناء عمارات حديثة على سكان الحي، ومنهم الشيخ حسني الضرير الذي لم يحُل فقدانه البصر دون استمتاعه بالحياة على طريقة المبصرين.
تعتبر "مالك الحزين" التي صدرت طبعتها الأولى عام 1983 أهم روايات أصلان وأولها، وهو روائي مُقل أصلًا، ولم يكتب بعدها سوى روايات قليلة، منها "عصافير النيل" و"وردية ليل" و"حجرتان وصالة"، و"صديق قديم جدًا".
بين الفيلم والرواية
ويمكن القول إن داود عبد السيد أنتج نسخته من الرواية، فقد أجرى تغييرات كثيرة في أحداثها وشخوصها ليتلاءم النص الروائي مع المعالجة السينمائية، فرغم أن يوسف النجار هو الشخصية الرئيسية في الرواية إلا أنه تحوّل إلى شخصية ثانوية في الفيلم لصالح الشيخ حسني الذي أصبح في المعالجة السينمائية والد يوسف النجار أيضًا، وهو ليس كذلك في النص الروائي.
وعلى خلاف كثير من أفلام عبد السيد، حظي فيلم "الكيت كات" بحفاوة نقدية وإقبال جماهيري كبيرين، وفيه قدّم محمود عبد العزيز ما يعتبره بعض النقّاد أفضل أدواره على الإطلاق، وكان من الافلام القليلة والنادرة في مسيرة مخرجه التي حققت إيرادات مرتفعة.
لم يحظ بذلك فيلم "قدرات غير عادية" الذي أخرجه عبد السيد عام 2015، إذ لم يستمر عرضه في دور السينما أكثر من شهر واحد، ما دفع عبد السيد للانقطاع عن العمل السينمائي تمامًا منذ ذلك الوقت حتى عام 2022، حين أعلن اعتزاله الإخراج بسبب ما قال إنها ذائقة الجمهور التي لا تتوافق وأعمالة السينمائية.
في العام نفسه تلقى عبد السيد جائزة النيل في مجال الفنون، وهي أرفع الجوائز التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، كأنّ منحه الجائزة في عام اعتزاله كان بمثابة انحناءة احترام لمبدع لم ينصفه شبّاك التذاكر بل مقالات النقاد التي لا تغني ولا تسمن من جوع.