السبت 8 تشرين الثاني / نوفمبر 2025
Close

دروز لبنان وسوريا.. بين وحدة الهوية وتباين الخيارات

دروز لبنان وسوريا.. بين وحدة الهوية وتباين الخيارات محدث 25 آب 2025

شارك القصة

جبل الشيخ (حرمون) بين لبنان وسوريا، تحيط به قرى درزية تشكّل رمزًا للروابط التاريخية بين الطائفة في البلدين.
جبل الشيخ (حرمون) بين لبنان وسوريا، تحيط به قرى درزية تشكّل رمزًا للروابط التاريخية بين الطائفة في البلدين - غيتي
الخط
تكشف مسيرة دروز لبنان وسوريا عن تحوّل العلاقة من وحدة الهوية والروابط الدينية والعائلية إلى تباين الخيارات السياسية والاجتماعية عبر العصور.

تشترك الطائفة الدرزية في لبنان وسوريا بجذور دينية وتاريخية وثقافية عميقة، تعود إلى نشأة الدعوة التوحيدية في أوائل القرن الحادي عشر خلال حكم الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. ومع إغلاق باب الدعوة، لجأ الدروز إلى المناطق الجبلية الوعرة في جبل لبنان وجبل حوران (جبل الدروز)، ما ساهم في تكوين مجتمعات مستقلة ومترابطة رغم الحدود الجغرافية والسياسية.

وعبر القرون، ظلت العلاقة بين دروز سوريا ولبنان قائمة على روابط الدم والمصاهرة والتقاليد المشتركة، كما توحدت مواقفهم في العديد من المحطات المفصلية، خصوصًا خلال فترات الاضطهاد أو الصراع مع القوى المركزية.

ومع دخول العهد العثماني ثم الانتداب الفرنسي في البلدين، تطورت الزعامات الدرزية الإقليمية، مثل آل جنبلاط في لبنان وآل الأطرش في سوريا، لتلعب أدوارًا مؤثرة في الحياة السياسية والاجتماعية. وتعكس هذه العلاقة نموذجًا فريدًا من التماسك العابر للحدود، الذي يجمع بين الانتماء الديني والتفاعل التاريخي والاجتماعي.

الجذور المشتركة والنشأة (القرنان العاشر – السادس عشر)

منذ القرن العاشر حتى القرن السادس عشر، تبلورت العلاقة بين دروز لبنان ودروز سوريا على أسس دينية واجتماعية–عائلية. فقد استندت هذه العلاقة إلى جذور عقائدية مشتركة، وإلى ظروف جغرافية وسياسية فرضت على الطائفة نوعًا من العزلة والانكفاء الذاتي.

تعود أصول العقيدة الدرزية إلى أواخر القرن العاشر الميلادي، في ظل الخلافة الفاطمية في مصر، وتحديدًا خلال عهد الخليفة الحاكم بأمر الله (996–1021م). ففي عام 1017م، أُطلقت الدعوة التوحيدية على يد حمزة بن علي بن أحمد، بمساندة دعاة آخرين مثل أنوشتكين الدرزي وهبة الله الشيرازي.

ورغم أن فترة الدعوة العلنية كانت قصيرة (1017–1043م)، فإنها انتشرت في مناطق عدة من بلاد الشام، أبرزها جبل السماق في شمال سوريا، ووادي التيم في جنوب لبنان، وجبل لبنان، وجبل حوران (الذي عُرف لاحقًا بجبل الدروز أو جبل العرب).

بعد عام 1043م، أغلق الداعي بهاء الدين أبو الحسن علي الزوزني باب الدعوة، فتحول الدروز إلى جماعة مغلقة. وكان ذلك نتيجة للاضطهاد الديني والسياسي الذي تعرضوا له من قِبل العباسيين ثم الأيوبيين والمماليك. ولجأوا إلى المناطق الجبلية الوعرة حيث وجدوا الحماية والقدرة على الحفاظ على هويتهم.

تمركزت الجماعة الدرزية في منطقتين أساسيتين:

  • جبل لبنان، خصوصًا في وادي التيم والشوف.

  • جبل حوران في جنوب سوريا، حيث نشأت مجتمعات درزية قوية ومستقلة نسبيًا.

شكّلت هذه الجغرافيا الوعرة سياجًا طبيعيًا حافظ على خصوصية العقيدة الدرزية، وضمن استمرار تماسك الجماعة. ومنذ المراحل الأولى لتشكل الهوية، نشأت هجرات عائلية متبادلة بين جبل لبنان وجبل الدروز، سواء لأسباب دينية أو اقتصادية أو أمنية.

ومن أبرز العائلات التي توزعت بين الجبلين: آل الأطرش (في جبل الدروز لاحقًا)، آل جنبلاط (الذين يُقال إنهم قدموا من سوريا قبل أن يستقروا في لبنان)، إضافة إلى آل أبو فخر، وآل عبد الملك، وآل زهر الدين، وآل الحلبي.

حافظت هذه العائلات على صلات نسب ومصاهرة ومراسلات دينية عبر الحدود، ما عزز وحدة الهوية والمصير. ومع ذلك، لم يكن للدروز كيان سياسي موحد آنذاك، بل عاشوا ضمن زعامات محلية عائلية وإقطاعية. ورغم ذلك، ظلت العلاقة بين دروز الجبلين قائمة على التعاطف والتضامن، خصوصًا في أوقات الأزمات.(1)

مشهد تقليدي يجسّد تجمع رجال دروز في بيئة جبلية، يعبّر عن الجذور المشتركة والهوية التاريخية للطائفة بين لبنان وسوريا - غيتي
مشهد تقليدي يجسّد تجمع رجال دروز في بيئة جبلية، يعبّر عن الجذور المشتركة والهوية التاريخية للطائفة بين لبنان وسوريا - غيتي

ماذا حصل خلال الأعوام 1043 وصولاً إلى عام 1500؟

بين عامي 1043 و1500، مرّ الدروز، سواء في لبنان أو في سوريا، بمرحلة شديدة الحساسية اتسمت بالسرّية والانعزال والتكتم. كانت العلاقة بين الجماعتين محكومة بإطار ديني مشترك، وظروف سياسية ضاغطة. فمنذ إغلاق باب الدعوة عام 1043، تحوّل الدروز إلى جماعة مغلقة دينيًا، لا تقبل التحوّل إليها، وتعيش في عزلة نسبية عن المجتمعات المحيطة.

وفي ظل الاضطهاد أو الخوف من الحكم السني، سواء في زمن العباسيين أو السلاجقة أو لاحقًا المماليك، لجأ الدروز إلى الجبال والقرى النائية حيث وجدوا الأمان وحرية ممارسة طقوسهم. هذا الانكفاء الجغرافي ساعد في ترسيخ الروابط بين مجتمعات الدروز في لبنان وسوريا، عبر أشكال عدة من التواصل، أبرزها:

  • تبادل تجاري وريفي محدود.

  • تحركات داخلية في فترات الاضطرابات، حيث كان الدروز ينتقلون من جبل إلى آخر هربًا من القمع.

خلال هذه الفترة، سيطرت قوى مختلفة على بلاد الشام:

  • السلاجقة (القرن 11–12): لم يلاحقوا الدروز بشكل منظّم، لكنهم لم يعترفوا بهم رسميًا.

  • الصليبيون (1099–1291): تعاملوا مع الدروز كأهل جبال ولم يفرضوا عليهم التحوّل الديني، ما سمح لهم باستقرار نسبي.

  • المماليك (1250–1516): اتخذوا موقفًا معاديًا من الدروز، وشنّوا حملات عسكرية ضدهم، خاصة في جبل السماق، ما دفع بعض الدروز للنزوح من شمال سوريا نحو جبل لبنان وجبل حوران.

في هذه المرحلة الطويلة، بدأت ملامح هوية درزية جبلية تتشكل، قائمة على الزراعة والرعي، والانضباط الديني والاجتماعي الصارم، إضافة إلى القيادة المحلية المتمثلة بمشايخ العقل والعائلات النافذة. وبرزت عائلات قوية مثل آل تنوخ في جبل لبنان الذين لعبوا أدوارًا سياسية بارزة خلال العهد المملوكي.

ومع نهاية القرن الخامس عشر، أخذت المجتمعات الدرزية تنظّم نفسها سياسيًا واجتماعيًا بشكل أوضح، ممهّدة للدور الكبير الذي سيلعبه الدروز في جبل لبنان مع مطلع العهد العثماني. (2)

الإمارة المعنية والشهابية (1516–1840)

بعد انتصار العثمانيين على المماليك في معركة مرج دابق عام 1516، خضعت بلاد الشام، بما فيها جبل لبنان وجبل الدروز، للسيطرة العثمانية. ومنذ ذلك الحين، دخل الدروز في علاقة تفاوضية مع الدولة العثمانية، قامت على مبدأ الولاء مقابل الحفاظ على الاستقلال المحلي.

العثمانيون اعترفوا بالطابع الجبلي والاستقلالي لمناطق الدروز، وفضّلوا إدارتها عبر زعامات محلية تتولى حفظ الأمن وجمع الضرائب.

في جبل لبنان، برزت الزعامة المعنية في القرن السادس عشر، وعلى رأسها الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي نسج علاقات وثيقة مع دروز حوران، وسعى إلى توحيد مناطق الدروز تحت سلطته، بما في ذلك مناطق السويداء وحاصبيا وراشيا. وقد أرسل مساعدات إلى دروز سوريا محاولًا ضمّهم إلى مشروعه الاستقلالي، الأمر الذي أثار حفيظة العثمانيين ودفعهم إلى شن حملة عليه عام 1633.

أما في سوريا، فقد تمتع جبل الدروز بحكم شبه ذاتي أيضًا، وكانت الزعامات المحلية، مثل آل الحمدان ثم آل الأطرش، أبرز من مثّل الطائفة هناك. لكن العلاقة مع الدولة العثمانية بقيت متقلبة، خصوصًا في فترات فرض التجنيد الإجباري أو جباية الضرائب بالقوة، وهي سياسات لطالما أثارت التمردات، كما حصل في ثورة 1860 في جبل العرب. (3)

أزياء درزية تقليدية من جبل لبنان تعود لعصر الإمارة المعنية والشهابية.
أزياء درزية تقليدية من جبل لبنان تعود لعصر الإمارة المعنية والشهابية - غيتي

القرن التاسع عشر: الحروب الدرزية – المارونية والاضطرابات (1840–1860)

شهد جبل لبنان في القرن التاسع عشر سلسلة من الحروب الدرزية–المارونية والاضطرابات الطائفية، بلغت ذروتها في أحداث عام 1860، التي شكّلت منعطفًا حاسمًا في علاقة الطوائف وفي طبيعة الحكم بالجبال اللبنانية.

بعد انسحاب المصريين من بلاد الشام عام 1840، استعاد العثمانيون السيطرة وفرضوا نظام "القائمقاميتين"، لتقاسم إدارة جبل لبنان بين الدروز والموارنة. لكن هذا النظام رسّخ الانقسام الطائفي وأدى إلى نزاعات دامية بين الطرفين.

  • اضطرابات 1841–1845: اندلعت صدامات مسلحة في الشوف وجزين والمتن بين فلاحين مارونيين طالبوا بالاستقلال الاقتصادي والاجتماعي، وزعامات درزية سعت إلى الحفاظ على امتيازاتها. سرعان ما تحولت المواجهات إلى حرب أهلية أحرقت القرى، وأسفرت عن نحو 12 ألف قتيل مسيحي. وامتد العنف إلى دمشق حيث قُتل ما بين 3,000 و5,000 مسيحي، ودُمّرت أحياء بكاملها.

  • أحداث 1860: شهدت المنطقة صراعًا طائفيًا شاملاً انتهى بمجازر بحق الموارنة في الجبل وبمجازر أخرى ضد المسيحيين في دمشق. خلّفت هذه الأحداث آلاف الضحايا، وتدخلًا عسكريًا فرنسيًا، أفضى إلى نظام المتصرفية الذي قلّص النفوذ الدرزي ومنح جبل لبنان حكمًا ذاتيًا بقيادة متصرف مسيحي كاثوليكي غير لبناني.

رغم الحدود السياسية، حافظت العلاقة بين دروز لبنان ودروز جبل العرب على روح التضامن المذهبي. وشارك بعض دروز سوريا في دعم إخوانهم في لبنان، خاصة في الأزمات الكبرى.

كما استمرت الروابط العائلية والمذهبية عبر التزاوج والترحال الموسمي والتواصل الديني. فقد كانت عائلات مثل آل الأطرش في جبل الدروز وآل جنبلاط وآل أرسلان في لبنان على تواصل دائم، مشكّلة ما يشبه "التحالف الدرزي" العابر للحدود.

ومع تراجع الدور السياسي للدروز في لبنان، تحوّل جبل الدروز في سوريا إلى مركز الثقل السياسي للطائفة، لا سيما مع صعود سلطان باشا الأطرش لاحقًا. أما السياسات المركزية العثمانية، كالتجنيد الإجباري، فقد أثارت تمردات في كلا الجبلين، ومع ذلك ظل التواصل قائمًا رغم محاولات العثمانيين عزل تلك المناطق. (4)

فترة الانتداب الفرنسي (1920–1946)

خلال فترة الانتداب الفرنسي، تعززت الروابط بين دروز لبنان ودروز سوريا سياسيًا وعسكريًا، إذ جمعهم المصير المشترك والانتماء الطائفي ورفض الاستعمار.

في سوريا، قاد سلطان باشا الأطرش دروز جبل الدروز في الثورة السورية الكبرى (1925–1927) ضد الفرنسيين، حيث شكّلوا القوة المركزية فيها. وفي لبنان، ولا سيما في منطقة الشوف، تعاطف الدروز مع الثورة السورية وقدّم بعضهم دعمًا لوجستيًا واستخباراتيًا، مثل تسهيل تحركات الثوار أو إيصال الأسلحة.

رغم محاولات فرنسا عزل دروز لبنان عن امتدادهم السوري، ظلت الروابط قوية. لكن المواقف انقسمت بين اتجاهين:

  • من أيّد الكيان اللبناني الناشئ ضمن الحدود التي رسمها الانتداب.

  • ومن رأى في الكيان اللبناني مشروعًا استعماريًا ودعا إلى وحدة سوريا الكبرى.

عائلات كبرى مثل آل جنبلاط في لبنان وآل الأطرش في سوريا لعبت دورًا أساسيًا في تنسيق المواقف، عبر زيارات متبادلة ومصالحة قبلية وتعاون سياسي. حاول الفرنسيون إضعاف هذا الرابط العابر للحدود عبر رسم حدود صارمة وإنشاء كيانات منفصلة، مثل دولة جبل الدروز وسوريا الكبرى ولبنان الكبير. ومع ذلك، فشلت محاولاتهم، بفعل الهوية العربية المشتركة ووحدة الهدف في مواجهة الاستعمار. (5)

ما بعد الاستقلال وحتى الحرب اللبنانية (1946–1975)

بعد استقلال لبنان عام 1943، برز الدروز كقوة سياسية واجتماعية مؤثرة، خاصة في الجبل. وكان الحزب التقدمي الاشتراكي بقيادة كمال جنبلاط الممثل السياسي الأبرز لهم، حيث برز كقوة معارضة أساسية، وعمل على حماية مصالح الطائفة، مع الحفاظ على علاقات متينة مع دروز سوريا في إطار استراتيجي إقليمي.

في سوريا، وبعد الاستقلال عام 1946، ظل دروز جبل العرب مجتمعًا محافظًا ابتعد نسبيًا عن السياسة المركزية، وإن شاركوا في بعض المراحل بمقاومة الاستعمار الفرنسي. ومع صعود القومية العربية في الخمسينيات والستينيات، ولا سيما مع وصول حزب البعث إلى السلطة، واجه الدروز ضغوطًا سياسية متزايدة. ومع ذلك، بقيت العلاقات الاجتماعية والروابط العائلية مع دروز لبنان متينة.

كمال جنبلاط، زعيم الطائفة الدرزية في لبنان (1946–1975)، مع مسلحين في الشوف خلال مرحلة ما قبل الحرب الأهلية.
كمال جنبلاط، زعيم الطائفة الدرزية في لبنان (1946–1975)، مع مسلحين في الشوف خلال مرحلة ما قبل الحرب الأهلية - غيتي

خلال حرب فلسطين عام 1948، شارك بعض الدروز اللبنانيين والسوريين في القتال ضد إسرائيل، وهو ما عكس روح التضامن. وفي الستينيات، ومع تصاعد التوترات الداخلية اللبنانية، حاول دروز سوريا التوسط أو تقديم الدعم لإخوانهم في لبنان، وإن دون انخراط مباشر.

ومع منتصف السبعينيات، كانت العلاقة بين دروز لبنان ودروز سوريا قائمة لكنها خاضعة لسياسات كل بلد:

  • دروز لبنان كانوا يستعدون لحرب أهلية وشيكة.

  • دروز سوريا نسجوا علاقات متوازنة مع نظام البعث منذ 1963، وهو ما انعكس على وضع الطائفة في لبنان لاحقًا مع التدخل السوري. (6)

الحرب الأهلية اللبنانية (1975–1990)

خلال الحرب الأهلية اللبنانية، تأثرت علاقة دروز لبنان ودروز سوريا بعوامل سياسية وطائفية وإقليمية معقدة.

في لبنان، قاد كمال جنبلاط ثم وليد جنبلاط الدروز عبر الحزب التقدمي الاشتراكي والحركة الوطنية اللبنانية، ولعبوا أدوارًا أساسية. أما في سوريا، فتركز وجود الدروز في جبل العرب (السويداء) تحت حكم البعث بقيادة حافظ الأسد، الذي تدخل عسكريًا وسياسيًا بعمق في الملف اللبناني.

  • المرحلة الأولى (1975–1977): التوتر بين جنبلاط والأسد كان كمال جنبلاط يعارض التدخل السوري في لبنان عام 1976، معتبرًا أنه محاولة لإجهاض مشروع الحركة الوطنية. واتهم الأسد بـ"خيانة الثورة العربية". بقي دروز سوريا في موقع الولاء للدولة البعثية، ولم يتدخلوا دعمًا لجنبلاط. وبعد اغتيال الأخير عام 1977، والذي وُجهت أصابع الاتهام فيه إلى النظام السوري، ظل دروز سوريا صامتين بلا موقف جماعي.

  • المرحلة الثانية (1977–1982): انتقال القيادة إلى وليد جنبلاط ورث وليد جنبلاط الزعامة وحاول موازنة العلاقة مع سوريا. بدأ بالتقارب الحذر مع النظام، وحافظ على هامش من الاستقلالية. في تلك الفترة، فرض الجيش السوري توازنًا في الجبل بين الدروز والمسيحيين، بينما بقي دروز سوريا بعيدين عن الانخراط المباشر، في حين استخدم النظام السوري وجودهم كجزء من رمزيته الإقليمية.

  • المرحلة الثالثة (1983–1985): حرب الجبل بعد انسحاب إسرائيل من الشوف عام 1983، خاض الحزب التقدمي الاشتراكي حربًا ضد القوات اللبنانية، بدعم تكتيكي غير مباشر من سوريا. سيطرت قوات جنبلاط على الشوف وعاليه، لكن مشاركة دروز سوريا لم تكن مباشرة، وإن كان هناك تعاطف شعبي صامت معهم.

  • المرحلة الرابعة (1985–1990): سيطرة سوريا الكاملة اضطر وليد جنبلاط إلى البقاء ضمن محور النفوذ السوري، حفاظًا على الطائفة. وظلت العلاقة الدرزية–الدرزية محكومة بالعلاقة بين الحزب التقدمي والنظام السوري، أكثر من كونها تواصلًا مجتمعيًا مباشرًا. أما دروز سوريا فبقوا منضبطين ضمن النظام البعثي ولم يصدر عنهم موقف علني تجاه أحداث لبنان. (7)

ما بعد الطائف (1990–2005)

مع اتفاق الطائف عام 1989، دخلت علاقة دروز لبنان ودروز سوريا مرحلة هدوء سياسي نسبي، لكنها بقيت خاضعة لمعادلة النفوذ السوري.

وليد جنبلاط، الذي كرّس زعامته بعد اغتيال والده، صار حليفًا استراتيجيًا لسوريا ضمن ما عُرف بـ"الحلف الرباعي" (نبيه بري، رفيق الحريري، وليد جنبلاط، وإميل لحود/الياس الهراوي). وقد استفاد من هذا التحالف لضمان نفوذ سياسي واسع، خاصة في الشوف والجبل.

أما دروز سوريا، فظلوا تحت سيطرة حزب البعث من دون صوت سياسي مستقل، باستثناء أدوار أمنية محدودة لبعض شخصياتهم. وظلت العلاقة مع دروز لبنان مقتصرة على البعد الاجتماعي والديني.

لكن مع وصول بشار الأسد إلى الحكم عام 2000، بدأ جنبلاط ينتقد الأداء السوري، خصوصًا بعد تمديد ولاية إميل لحود عام 2004. ومع اغتيال رفيق الحريري عام 2005، انقلب جنبلاط بشكل كامل على النظام السوري، وكان من أبرز قادة "ثورة الأرز" التي دفعت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان. عندها، انقطعت العلاقة فعليًا بين دروز لبنان والنظام السوري.

وليد جنبلاط زعيم الطائفة الدرزية في لبنان بعد الطائف (1990–2005)
وليد جنبلاط زعيم الطائفة الدرزية في لبنان بعد الطائف (1990–2005) - غيتي

العلاقة من 2005 حتى اليوم

بعد عام 2005، انكفأت العلاقة بين دروز لبنان ودروز سوريا بشكل واضح. قاد وليد جنبلاط خطابًا سياسيًا حادًا ضد بشار الأسد، واصفًا إياه بـ"الوحش"، فيما التزم دروز سوريا الصمت ولم يظهروا دعمًا علنيًا.

مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، أيد جنبلاط الثوار، وحذر دروز السويداء من الانجرار إلى الصراع. دعاهم للحياد وعدم الانخراط في صفوف النظام أو المعارضة المسلحة. في المقابل، ظل دروز سوريا أقرب إلى الحياد والانضباط البعثي، وإن ظهرت حركات محلية مستقلة مثل "رجال الكرامة". (8)

منذ عام 2020، تصاعدت الاحتجاجات السلمية في السويداء، مطالبة بالخدمات الأساسية ورافضة التجنيد، وبلغت ذروتها في 2023–2024. وفي هذه الأثناء، حافظ جنبلاط بعد تقاعده عام 2023 على موقف داعم من بعيد، محذرًا من استغلال أوضاع الجبل من قِبل إسرائيل أو إيران. أما نجله تيمور جنبلاط، فقد تبنى نهجًا أكثر حذرًا، متجنبًا أي مواجهة إعلامية مباشرة مع النظام السوري.

اليوم، هناك تنسيق غير معلن لكنه قائم فعليًا بين دروز سوريا ودروز لبنان، يأخذ أشكالًا سياسية واجتماعية متفاوتة. ففي السويداء، لا توجد قيادة موحدة، بل مجموعات محلية عدة، أبرزها:

  • حركة "رجال الكرامة"، التي تعارض أي تدخل خارجي.

  • مجموعات أهلية/دفاعية تتعاون أمنيًا محليًا مع أطراف مختلفة.

  • مشيخة العقل التقليدية بقيادة الشيخ حكمت الهجري، رغم تراجع دورها السياسي.

في لبنان، لا يزال وليد جنبلاط ونجله تيمور يمثلان الواجهة السياسية الأبرز للطائفة. ومنذ سقوط نظام بشار الأسد وصعود القيادة الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع، بدأ جنبلاط بإعادة جسور التواصل مع دروز السويداء بعد قطيعة استمرت منذ منتصف الثورة. وقد صرّح أواخر عام 2024 بنيّته زيارة دمشق ولقاء الشرع، في خطوة فُسرت على أنها تقارب درزي–درزي بقدر ما هي سياسية.

مع ذلك، يبقى هذا التقارب محاطًا بالحذر. بعض القيادات الدرزية السورية تنظر بريبة إلى مساعي جنبلاط وتفضّل الاستقلالية، فيما تراقب إسرائيل أيضًا أي تقارب عابر للحدود، خاصة بعد تزايد التواصل بين دروز الجولان ودروز لبنان والداخل الفلسطيني. (9)

رغم تقلبات السياسة وتعقيدات المراحل التاريخية، ظلت العلاقة بين دروز لبنان ودروز سوريا محكومة بروابط الدم والانتماء المشترك. فقد انتقلت من وحدة المصير في مواجهة الاحتلال، إلى تباين الخيارات خلال الحرب الأهلية اللبنانية والثورة السورية. أما اليوم، ومع التحولات الإقليمية وسقوط النظام السابق في سوريا، فتبرز فرصة لإعادة صياغة هذه العلاقة على أسس وطنية جديدة، تعزز تضامن الطائفة وتحصّن وجودها في مواجهة التحديات المقبلة.

المراجع:

  1. Arab News – "Druze" رابط المصدر
  2. موقع البخاري – "دروز جبل لبنان: عشائر وتحدّيات" رابط المصدر
  3. كمال الصليبي – الدروز في التاريخ نسخة إلكترونية عبر الأرشيف
  4. موقع البخاري – "دروز جبل لبنان: عشائر وتحدّيات" رابط المصدر
  5. موقع بيت الحرية – "البدو والدروز في سوريا: تاريخ من التعايش" رابط المصدر
  6. النهار – "سوريا ولبنان: تاريخ من التلاقي والتجاذب" رابط المصدر
  7. Foreign Affairs – "The Druze Factor" رابط المصدر
  8. MERIP – "Syria and Lebanon: A Brotherhood Transformed" رابط المصدر
  9. Anadolu Agency – "Lebanese Druze Leader Urges Ceasefire Investigation Committee in Syria's Suwayda" رابط المصدر
تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي