إنه عام ديمي مور بامتياز.. فالممثلة الجميلة لم تعد شابة، لكنّها في مراياها ما زالت تسعى لتكون، في السينما والحياة إذا أمكن.
في يناير/كانون الثاني الماضي كانت مور على موعدها الأول مع الجوائز، عندما حصلت على جائزة غولدن غلوب عن دورها في فيلم The Substance -إنتاج العام الماضي.

ظهرت مور على طبيعتها: امرأة تخطت الستين من العمر، تكاد تقفز من الفرح، ولا تصدّق أنها تحمل بين يديها أول جائزة في حياتها. وبعد نحو شهر وليس أكثر، تتلقى مور الهدية الأثمن في لوس أنجلوس، بفوزها بجائزة أفضل ممثلة، في حفل توزيع جوائز النقاد "كريتيكس تشويس"، لتصبح على أقرب مسافة ممكنة من أوسكار أفضل ممثلة.
إنها الآن في الثالثة والستين من عمرها. تنظر خلفها فإذا هي خمسة وأربعون عامًا في السينما، لكنّ أحدًا لا يستطيع إعادتها إلى تلك السن التي كانت عليها قبل ذلك، عندما كانت فتاة شابة، أو إلى تلك السن التي تألقت فيها واكتسحت دور السينما، وحازت شهرة مدوية جعلتها تطلب فتُجاب، تطلب الأجر الأعلى في تاريخ هوليوود الممنوح للنساء فتناله، الإعجاب فيحيطها حثيما حلّت وعبر الدول وبين مختلف أجيال المشاهدين.
تقص شعرها فتصبح أيقونة، تُطيله فيزداد الإعجاب بها. ترتدي زي قوات مشاة البحرية الأميركية (مارينز) وتحلق شعرها تمامًا فتتحوّل إلى رمز للتحرّر من التجنيس، فعلى المرأة أن تتخطى الحدود دائمًا وأن تحتفظ في الوقت نفسه بأنوثتها.
لكن ذلك كان في الماضي، وجاء دورها في فيلم The Substance الذي قد يمنحها أخيرًا مجدًا كانت تبحث عنه، ليعكس شخصيتها الحقيقية، المضطربة، المنجذبة نحو الشباب الدائم، الذي لن تناله في نهاية المطاف.
دوريان غراي مؤنثًا
تبدو فكرة الفيلم الذي يحمل توقيع المخرجة الفرنسية كورالي فارجا استعادة معاصرة، ذكية وبالغة الجرأة بل الخشونة في مقاربة "صورة دوريان غراي" الرواية اليتيمة لأوسكار وايلد، حيث ينقسم الإنسان بين تمثّلين، بين حقيقته وصورته، بين بحثه عن الشباب الدائم وحقيقة تقدمه في السن، لينتهي بالموت، بأن يقرر تمزيق تلك الصورة التي كانت تعكس حقيقته بينما كان يهرب منها، إذ إنك لن تصل إلى حل للتناقض بين الثنائيات الحادة في داخلك إلا بتغليب إحداها على الأخرى، بأن تنتصر لحقيقتك لا صورتك.

كتب وايلد "صورة دوريان غراي" عام 1891، وتدور حول الشاب "دوريان غراي" بالغ الوسامة الذي يُفتن بجماله أحد الرسّامين فيرسمه، وعندما ينظر غراي إلى صورته تفتنه أيضًا فيتمنى لو يظل على هذه الحال من الجمال والشباب.
يتعرف غراي إلى ممثلة صغيرة تؤدي دورًا في إحدى مسرحيات شكسبير في حي فقير فيُعجب بها، فيصطحب اللورد هنري والرسّام بازل لمشاهدة أحد عروضها، ويكون أداؤها سيئًا فيخبرها بذلك، فتُجرح وتنتحر.
وعندما يعود إلى البيت بعد ذلك، وينظر إلى صورته المعلّقة على الحائط يفاجأ بنفسه، بشعًا على خلاف صورته في المرآة.
يصبح "دوريان غراي" أسير ثنائياته الحادة: المرآة والصورة، فبينما لا تعكس المرآة حقيقته تقوم الصورة بكشفه، فمع كل خطوة يزداد فيها امتثالًا لنصيحة اللورد بالإقبال على الحياة، بالملذات والفواحش، كلما أصبحت صورته على الجدار أكثر بشاعة، فماذا يفعل؟
يقتل من أنتج صورته (الرسام)، ويمعن في الإقبال على الحياة والتلذذ بها، إلى أن يتعرف إلى فتاة ريفية جميلة ويعجب بها، فيعاني من بشاعته في الصورة فيطعن اللوحة بالسكين نفسها التي قتل بها من أنتجها (الرسام)، وعندما يدخل الخدم عليه بعد سماعهم صرخته يجدونه قتيلًا على الأرض بينما صورته في اللوحة تعود إلى جمالها.
البحث عن شباب دائم
ما علاقة ديمي مور بما سبق؟ قبل ذلك لا بأس من استعراض سريع للفيلم الذي قد يجعلها تنال أوسكار أفضل ممثلة رغم محدودية موهبتها، باستثناءات نادرة في أفلامها.
في الفيلم نعاين مأزق "إليزابيث سباركل"، مقدمة برنامج اللياقة البدنية على إحدى القنوات، والتي كانت ممثلة شهيرة في شبابها وحازت أوسكار على أحد أدوارها، وتتمتع بوجود نجمة في هوليوود تحمل اسمها.
يقرر منتج برنامجها استبدالها بأخرى أكثر شبابًا، فقد كبرت في السن والأوسكار الذي حازت عليه أصبح وراء ظهور الناس. تسمعه يقول ذلك بأذنيها بينما هي في الحمّام، فتعود إلى بيتها غاضبة وهي ترى في طريقها عمالًا يزيلون لوحة إعلانية تحمل صورتها، فتزداد تشوّشًا ما يجعلها ترتكب حادث سير.
وفي المستشفى، لا يجد الأطباء مشكلة في جسمها لكنّ طبيبًا شابًا يقدّم لها عرضًا غريبًا: تجربة لقاح جديد يُعيدها شابة، فتجد نفسها لاحقًا مضطرة لتجربته.

ويقوم عمل اللقاح على إنتاج نسخة أخرى منها، أكثر جمالًا وشبابًا، تتناوب فيه النسختان، الظهور والحياة الاجتماعية كل أسبوع، ويتغذيان معًا على حقن مأخوذة من الحمض النووي لها.
تجرّب إليزابيث اللقاح للانتقام من المنتج أو لرد الاعتبار لنفسها، فتولد "سو" نسختها الشابة التي تأخذ برنامجها وتتغذى عليها وصولُا إلى محاولة قتلها.
وعندما تقرر إليزابيث قتل سو ترتكب خطأ في تركيبة اللقاح فتتواجه المرأتان للمرة الأولى، إليزابيث كبيرة السن، البشعة جدًا بسبب تاثيرات اللقاح، وسو الشابة التي تبدأ بالتقدم في السن، والتفكك عضويًا، كأن تصبح اصابعها أكبر من بقية يدها فتموت بعد موت إليزابيث،
وفي نهاية الفيلم تعود بنا كاميرا المخرجة الفرنسية إلى النجمة التي تحمل اسم إليزابيث سباركل وقد امتلأت بالقاذورات وبعربة تنظيف تمر فوقها، إلخ، إلخ، في بناء دائري يصل نهاية الفليم بأوله، فهذه هي دورة الحياة، والنجومية تحديدًا، فلا شباب دائمًا ولا نجومية إلى الأبد.
عمليًا تندفع إليزابيث ضد الزمن والتقدّم في السن. تذهب إلى الشباب الدائم، وتتأرجح بين حقيقتها وهي تتقدم في السن وصورتها (نسختها)، كما كان شأن دوريان غراي الذي قام بطعن لوحته.
ما نعرفه عن سيرة ديمي مور
ولدت ديمي مور عام 1962 لأب مدمن على الكحول تخلى عن والدتها عندما كانت حاملًا بها، وعاشت مع والدتها وفي ظنها أن من تزوجت به هو والدها، ولم تعرف الحقيقة إلا عندما انتحر وهي في الثالثة عشرة من عمرها.
هربت مور من البيت في مراهقتها، وتنقلت بين البيوت والمهن الصغيرة، وأصبحت ممثلة بالصدفة قبل أن تبلغ العشرين من عمرها.
تزوجت مغني الروك فريدي مور وهي في الثامن عشر من عمرها ومنه أخذت لقبها، وكانت أصغر منه بكثير، كأنها كانت تبحث عن أب غائب، وتنقلت بعد ذلك في علاقات عاطفية مضطربة إلى أن تزوجت بالممثل الأميركي الشهير بروس ويليس الذي أنجبت منه اطفالها، لتنتهي بالزواج من أشتون كوشتر الذي يصغرها بنحو خمسة عشر عامًا على الأقل.
عندما كانت صغيرة تزوجت من هو في عمر أبيها، وعندما كبرت في السن تزوجت من يقارب بناتها في العمر، في رحلة بحث مضنية لتعويض الفقد، فقد الأب أولًا ثم فقد الشباب نفسه.

في هذا المعنى ربما كان فيلم The Substance يمثّل حقيقتها أو على الأقل أحد احتمالاتها، وهو البحث عن عمر فُقد فسعت لاستعادته ففشلت، وعن شهرة أصبحت وراءها وجهدت لإدامتها، ما يحيل إلى علاقتها بكوشتر وزواجها منه، كأن ذلك كان تحايلًا على التقدّم في العمر أو إنكارًا ورفضًا له، وتشبثًا يائسًا بشباب لا يزول.
وربما جاء الفيلم ليعكس صورتها في المرآة، وفي الوقت نفسه ليكون جائزتها الشخصية، لتقول لنفسها إن الفن هو التعويض الحقيقي عن الأب الذي كنا نبحث عنه صغارًا، وعن الشباب الذي يفلت من بين أيدينا عندما نكبر ونشيخ، ففي الفن نجد أنفسنا الحقيقية، ما يمنحنا وهم الخلود على نحو أو آخر.
الأعلى أجرًا في هوليوود
بعد أدوار صغيرة، عرفت ديمي مور شهرة مدوّية في تسعينيات القرن الماضي، خاصة مع فيلم "الشبح" الذي أنتج بميزانية قليلة، وفيه قدّما دورًا بالغ الجمال والرومانسية لشابة تفقد شريك حياته الذي يُقتل غدرًا، فيظل يعود إليها شبحًا ويرعاها إلى أن يكشف له هوية قاتله.

بعد ذلك قدمّت مور أفلامًا حظيت بانتشار جماهيري واسع من دون أن تختبر موهبتها، بل اعتمدت فيها على جمالها وجرأتها، مثل "بضعة رجال محترمين" إلى جوار جاك نيكلسون وتوم كروز، و"عرض بذيء" مع روبرت ردفورد و وودي هارلسون، و disclosure مع مايكل دوغلاس.
وأصبحت مور الممثلة الأعلى أجرًا في تاريخ هوليوود عام 1996 عن دورها في فيلم "تعري"، وظهرت بشعر محلوق تمامًا في فيلم "جي آي جين" عام 1997 ، كما شاركت في عدد آخر من الأفلام دون أن يُشار يومًا إلى موهبتها بل إلى جمالها الذي بدأ يتأثر بتقدمها في السن مثل إليزابيث، وكانت تحتاج إلى من يعيد إليها الاعتبار بعيدًا عنه، وهو ما جاء في وقته بفيلمها الأخير، وهي في مطلع الستين من عمرها، وبفضله أصبحت تقف على خشبات المسارح وتتلقى الجوائز.