الإثنين 17 تشرين الثاني / نوفمبر 2025
Close

رغيد الططري.. قصة طيّار عسكري أصبح أقدم سجين في سوريا

رغيد الططري.. قصة طيّار عسكري أصبح أقدم سجين في سوريا محدث 30 كانون الثاني 2025

شارك القصة

بعد نحو 43 عاما قضاها خلف الأسوار يخرج الطيار رغيد الططري ليستعيد نسمات الحرية
بعد نحو 43 عاما قضاها خلف الأسوار يخرج الطيار رغيد الططري ليستعيد نسمات الحرية
الخط
ولد رغيد الططري الذي يوصف بعميد المعتقلين السوريين في دمشق عام 1955، واعتُقل عام 1981 وليس عام 1982 كما شاع، أي قبل مجزرة حماة وليس بعدها.

بعد 43 عامًا قضاها في السجون السورية، عاد رغيد الططري إلى منزله في دمشق، ليجد أن البيت ظل على حاله، على خلاف ساكنيه، وأنه مثلهم عرف سجّانين من نوع مختلف.

استولى على جزء من البيت هيثم العلي، أحد شركاء ماهر الأسد، شقيق الرئيس السابق بشار الأسد، وأنشأ مكتبًا تجاريًا، في ظاهرة تميّز بها نظام الحكم من آل الأسد خلال أزيد من خمسين عامًا من حكم الأب (حافظ) والابن (بشار)، وتتمثل في استيلاء المتنفذين من ضباط أو متربطين بالنظام على ممتلكات المواطنين إذا أرادوا، من دون ملاحقة قانونية.

لكن البيت يظل لأصحابه وإن تغير ساكنوه. فر الرئيس المخلوع بشار الأسد فجر الثامن من ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي، فعادت سوريا إلى مواطنيها، والبيت إلى رغيد الططري.

من هو رغيد الططري؟

ولد رغيد الططري الذي يوصف بعميد المعتقلين السوريين في دمشق عام 1955، واعتُقل عام 1981 وليس عام 1982 كما شاع في المعالجات الصحافية التي تناولت سيرة حياته، أي قبل مجزرة حماة (فبراير 1982) وليس بعدها، ولرفضه الالتحاق مجدّدًا بسلاح الجو السوري، وليس رفضه قصف مدينة حماة التي تعرّضت لواحدة من أسوأ مجازر النظام في تاريخ سوريا الحديث.

عدد من ضحايا مجزرة حماة التي ارتكبها النظام السوري عام 1982-غيتي
عدد من ضحايا مجزرة حماة التي ارتكبها النظام السوري عام 1982-غيتي

لكن ذلك كله لا يخصم من رصيد الرجل الذي تنقّل بين السجون السورية منذ مطلع شبابه حتى وصوله السبعين من العمر، ولا يقلّل من وحشية نظام الأسد الذي اعتقل مئات الآلاف من الشبان مثل الططري لأسباب تستعصي على التبرير، ما حوّل البلاد إلى سجن كبير ومملكة من الخوف.

أنهى الشاب رغيد الططري دراسته للطيران في القوات الجوية السورية عام 1976، والتحق بسلاح الطيران في العام نفسه، وترقى إلى رتبة ملازم عام 1978 وبعد ذلك بنحو عام أُعفي الططري من الخدمة من دون إعلامه بالأسباب. 

إلا أن الماء الكثير الذي جرى تحت الجسر كشف الكثير من الأسرار عن حقبة كانت الأكثر توحشًا في تاريخ النظام، ففي يونيو/حزيران عام 1976 حاصر الجيش السوري وقوات مسيحية لبنانية مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين شرقي العاصمة اللبنانية بيروت، وفي 12 أغسطس/آب نُفّذت في المخيم مجزرة خلّفت نحو ثلاثة آلاف قتيل من سكان المخيم المدنيين. 

وشاية أودت به وراء الشمس

آنذاك رفض ضابطان في القوات الجوية السورية الأوامر بقصف المخيم، وفرا خارج سوريا. كان أولهما الضابط طيّار محمود ياسين الفلسطيني الأصل الذي رفض الأوامر.

وكان الثاني الضابط طيّار أحمد ترمانيني الذي رفض أيضًا الأوامر بقصف المخيم، وانشقّ عن سلاح الجو السوري، وفرّ بطائرته ميغ-21 إلى العراق وأصبح جزءًا من سلاح الجو العراقي، وحكمت السلطات السورية على الإثنين لاحقًا بالإعدام غيابيًا.

يقول رغيد الططري الذي تحدث عن تلك الفترة للتلفزيون العربي: إن رفض الطيّارين أشاع جوًا مختلفًا في صفوف الطيّارين السوريين، وهو ما أتاح لاحقًا لطيارين آخرين، هما مأمون النقّار وعبد العزيز العبد تكرار التجربة نفسها، بهروبهما في طائرة واحدة إلى الأردن عام 1980. 

هل كنت سعيدًا بالحرية؟ نعم، يرد رغيد الططري بشعره الأشيب ونبرة صوته الخفيضة، قبل أن يستدرك أنه ما كان ليشعر بالسعادة بهذه الحرية لو ظل النظام قائمًا، فما معنى أن تتحرّر وبقية شعبك ليسوا أحرارًا؟

يرجح الططري أن تكون وشاية وراء إعفائه من الخدمة، حيث كانت له ولزملائه تحفظات على التدخل العسكري السوري في لبنان، قائلًا بأنه كان يرى أن الفساد استشرى ووجد له مرتعًا خصبًا في صفوف الجيش منذ ذلك الوقت، وأن الضباط أصبحوا تجّارًا ولا تعنينهم إلا مصلحتهم.

ويبدو أن ثمة من كان يسمع ويكتب التقارير ويرفعها إلى قيادة القوات الجوية.

في العام نفسه (1980) يقول الططري إن ممدوح أباظة صديق الرئيس السابق حافظ الأسد، وكان يشغل منصب مسؤول الحوادث الجوية استدعاه إلى مكتبه وطلب منه العودة إلى الخدمة في القوات الجوية، لكنه رفض.

وفي سيرته أنه فر إلى الأردن عام 1980، ومنها إلى مصر، حيث قدّم طلب لجوء عبر الأمم المتحدة عام 1981، لكنه رفض، فعاد إلى بلاده في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1981، حيث اعتقل في مطار دمشق الدولي. 

أنهى الشاب رغيد الططري دراسته للطيران في القوات الجوية السورية عام 1976
أنهى الشاب رغيد الططري دراسته للطيران في القوات الجوية السورية عام 1976

تفجير الأزبكية وسجن المزة

في الشهر الذي اعتُقل فيه الططري وقع تفجير في حي الأزبكية، ونُفّذ بسيارة مفخخة على مقربة من مجمع وكالات الاستخبارات في العاصمة دمشق، ودمر عدة مبان سكنية وقتل جراءه أكثر من 200 بينهم عسكريون. 

اتُهِمت جماعة الإخوان المسلمين بارتكاب الهجوم، واستُغِلّ التفجير للضغط على الططري في التحقيقات التي كانت تجري معه، حيث اتُهِم بخيانة وطنه لرفضه العودة إلى الخدمة العسكرية لمواجهة "الإرهابيين"، وبدأ التعامل معه بخشونة أكبر خلال التحقيق.

يرجع الططري بذاكرته إلى تلك الأيام، ويروي كيف أنه تعرّض لتعذيب وحشي آنذاك، فقد علّقه المحققون على الحائط وضربوه بلا توقف، وعندما غادروا سمع ما ظن أنه صوت ماء يتدفق إلى بالوعة المطبخ الذي علقوه داخله، لكنه عندما نظر إلى الأسفل رأى دمه وليس الماء، يتدفق من جسمه وينتشر في أرجاء المكان.

ويلفت الططري الانتباه إلى أن التحقيق معه كان في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1981، قبل نحو شهر من مجزرة حماة، وأنه حوّل بعد ذلك إلى سجن المزة العسكري، حيث قضى ثلاث سنوات هناك.

كانت تهمته هي التحريض على رفض الأوامر العسكرية. ويسرد الططري وقائع محاكمته "الصورية"، قائلًا إن أمن الدولة حوّله إلى محكمة عسكرية "شكلية"، فلم تكن هناك محكمة بالمعنى المعروف لدى جيوش العالم، بل مجرد قاض اسمه ما زال الططري يتذكر اسمه، وهو سليمان الخطيب.

يتابع الططري روايته أن القاضي لم يكلف نفسه عناء سؤاله عن أي شيء، بل اكتفى بالنظر إليه ثم كتب التهمة التي كانت "التنسيق مع جهات أميركية وأردنية ومصرية بشأن هروب طائرة إلى الأردن".

ويرى الططري بعد أكثر من أربعين عامًا على تلك المحاكمة أن تلك التهمة لا تزال مصدر استغراب بالنسبة له، وأنه لم يستطع فهمها وسعى لمعرفة تهمته الحقيقية لاحقًا من خلال محاميه، خاصة أنهم غيّروها، ليعرف أنها كانت إفشاء معلومات ووثائق إلى دولة أجنبية.

من جحيم تدمر إلى استعصاء صيدنايا

بعد سجن المزة العسكري الذي بقي فيه نحو ثلاث سنوات، نقل إلى سجن تدمر حيث قضى نحو 21 عامًا، يصفها بأنها الأسوأ في تجربته في السجون، ثم إلى سجن صيدنايا العسكري لنحو 10 سنوات، وشهد فيه ما يعرف باستعصاء سجن صيدنايا في يوليو/تموز 2008، ويقصد به ثورة السجناء في صيدنايا وسيطرتهم على السجن لعدة أيام، ومقتل العشرات من السجناء والجنود خلال اقتحام قوات كبيرة من الجيش لباحات السجن وزنازينه.

بعد ذلك انتقل الططري إلى سجن عدرا فالسويداء ثم طرطوس فالحرية التي تزامنت بالنسبة له مع هروب رأس النظام السوري.

جزء من سجن صيدنايا سيء السمعة في سوريا-غيتي
جزء من سجن صيدنايا سيء السمعة في سوريا-غيتي

يسأله الزميل أنس زرق عن شعوره بعد أن غادر آخر السجون، فيبتسم، ويؤكد بأنه كان واثقًا أن نظام الأسد سينهار في نهاية المطاف، ويضيف: "عندما كانت مخابرات النظام تروّج إشاعات في السجون بقرب صدور عفو عن السجناء، كنت أقول إن العفو لن يصدر، وإن شيئًا أكبر من العفو سيحدث في سوريا".

هل كنت سعيدًا بالحرية؟ نعم، يرد رغيد الططري بشعره الأشيب ونبرة صوته الخفيضة، قبل أن يستدرك أنه ما كان ليشعر بالسعادة بهذه الحرية لو ظل النظام قائمًا، فما معنى أن تتحرّر وبقية شعبك ليسوا أحرارًا؟


المزيد عن قصّة وسيرة رغيد الططري في الوثائقي المرفق، من إنتاج التلفزيون العربي، حيث يسرد عميد المعتقلين السوريين للزميل أنس أزرق جانبًا من تفصيل تجربته والانتقال من سجن أمن الدولة، ثم سجن المزة، ثم معتقل تدمر، وبعدها الانتقال إلى صيدنايا، ثم سجن عدرا فالسويداء وأخيرًا سجن طرطوس.
تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي
تغطية خاصة