بعد نحو 50 عامًا على ظهورها الصادم، غير المسبوق في تاريخ حفلات الأوسكار، عام 1973، بالنيابة عن الممثل مارلون براندو، لتعلن عن رفضه تسلّم جائزة أفضل ممثل، توفيت في أكتوبر/تشرين الأول 2022 الممثلة والناشطة ساشين ليتل فيذر المنتمية إلى سكان أميركا الأصليين.
أقيم حفل توزيع جوائز الأوسكار الخامس والأربعين في 27 مارس/ آذار 1973، وعندما حانت لحظة إعلان جائزة أفضل ممثل، وقفت الممثلة النرويجية ليف أولمان إلى جوار روجر مور وأخذا بقراءة أسماء المرشحين للفوز بالجائزة، وهم مارلون براندو ومايكل كين ولورانس أوليفيه وبيتر أوتول وباول وينفيلد.
ووسط ترقب الحضور، فتح مور المغلّف المغلق، ومدّه باتجاه أولمان التي أعلنت فوز براندو بالجائزة الأرفع في المهرجانات السينمائية في العالم، عن دوره في فيلم العرّاب.
في تلك اللحظة فوجئ حضور الاحتفال بصعود امرأة صغيرة الحجم، ترتدي زي الهنود الحمر، إلى خشبة المسرح بينما كانت أجهزة الصوت تبث موسيقى فيلم "العرّاب"، وافترضوا أنها ستتلقى الجائزة، لكنها رفعت يدها علامةً على الرفض، وارتجلت كلمة قصيرة عرّفت فيها عن نفسها وأعلنت بالنيابة عن براندو رفضه تسلم الجائزة.

قالت: "مرحبا، اسمي ساشين ليتل فيذر، رئيسة منظمة الحفاظ على تراث الهنود الحمر، أنا هنا لأمثّل مارلون براندو في هذه الأمسية. لقد طلب مني إخباركم بخطاب طويل لا يمكنني مشاركتكم إياه الآن بسبب الوقت، لكن سيكون من دواعي سروري مشاركته مع الصحافة بعد انتهاء الحفل، إنه لا يمكنه قبول هذه الجائزة السخية، بكل أسف، بسبب المعاملة الشائنة للهنود الأميركيين من قبل صناع الأفلام وكذلك الأحداث في ووندد ني".
مارلون براندو ثالث رافضي الأوسكار
لم يكن براندو أول رافضي جائزة الأوسكار منذ إطلاقها عام 1929، بل ثالثهم، إذ سبق أن رفضها الممثل جورج سي سكوت، وكاتب السيناريو دودلي نيكولز الذي يعتبر أول رافضيها عام 1936.

وفاز نيكولز آنذاك بالجائزة عن سيناريو فيلم "المخبر" (The Informer)، لكنه أبلغ الأكاديمية أنه لا يمكنه قبولها بسبب النزاع بين رؤساء استوديوهات هوليوود ورابطة الكتَّاب السينمائيين، معتبرًا أنّ قبول الجائزة "سيكون بمثابة التخلي عن حوالي 1000 عضو من رابطة الكتّاب".
أما الممثل جورج سي سكوت ففاز بجائزة افضل ممثل عام 1971 عن دوره في فيلم "باتون"، لكنه أعلن قبل أشهر من الاحتفال أنه يرفض الجائزة في حال الفوز بها، واصفًا حفل توزيع الجوائز بأنه عبارة عن "موكب لحوم يستمر لمدة ساعتين، وبربري وفاسد بالفطرة".
وفاز سكوت بالجائزة فعلًا واستلمها منتج الفيلم نيابة عنه، لكنه أعادها إلى الأكاديمية في اليوم التالي بناء على طلب سكوت.
كابوس ساشين ليتل فيذر
تحوّل وقوف الممثلة والناشطة ساشين ليتل فيذر التي تنتمي إلى شعب الأباتشي، على خشبة حفل الأوسكار عام 1973، إلى كابوس لاحق ليتل فيذر بقية حياتها، خاصة أنها قوبلت بالسخرية خلال إلقاء كلمتها القصيرة في الحفل الذي يعتبر أول حفل للأوسكار ينقل تلفزيونياً إلى العالم كله، وشاهده نحو 85 مليون شخص.
وكرّمت أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية في سبتمبر/ أيلول 2022، ليتل فيذر، واعتذرت لها بعد نحو 50 عامًا على ذلك الحفل، عن صيحات الاستهجان التي أطلقت خلال كلمتها.
وقال رئيس الأكاديمية التكريم في رسالة إلكترونية بعثها إلى ليتل فيذر في يونيو/حزيران من العام نفسه إن "الإهانات" التي تعرضت لها الممثلة والناشطة "لم تكن في محلها ولم يكن لها مبرر"، وإن "العبء العاطفي الذي تحملته والثمن الذي دفعته من حياتك المهنية غير قابلين للتعويض".
وقالت الممثلة خلال احتفال تكريمي لها في متحف الأوسكار، إن عناصر الأمن في أمسية الأوسكار تلك منعوا نجم أفلام الويسترن المخضرم جون واين من الاعتداء عليها جسديًا لدى مغادرتها المسرح.
وبعد تلك الحادثة، وجدت الممثلة صعوبة في الحصول على عقود في هوليوود، بسبب تلقي مديري اختبارات الأداء تعليمات بعدم اختيارها.
من هو مارلون براندو؟
ولد مارلون براندو (1924 –2004) في أوماها، نبراسكا، لأب كان بائعًا ويسافر كثيرًا خارج الولاية، وأم كانت ممثلة مسرحية وتتغيّب عن البيت كثيرًا أيضًا.
وتعود أصول براندو من جهة الأب والأم إلى ألمانيا وإيرلندا، وبسبب طبيعة عملهما وانفصالهما لفترة قصيرة نشأ براندو في بيئة مضطربة، ما يفسّر تمرده وخروجه على القواعد أثناء دراسته وفي حياته، فقد طرد بتهمة العصيان من مدرسة داخلية عسكرية التحق بها عام 1940، وهي أكاديمية شاتوك العسكرية، فانتقل بعد ذلك حين كان في التاسعة عشرة من عمره إلى مدينة نيويورك، حيث درس التمثيل على يد ستيلا أدلر في ورشة العمل الدرامية التي كانت تديرها.

كانت أدلر قد عاشت في موسكو في أوائل ثلاثينيات القرن الماضي، وتأثرت بمؤسس المسرح الروسي الحديث قسطنطين ستانيسلافسكي، ولدى عودتها إلى أميركا انتهجت أسلوبه في تدريس طلابها، حيث يجب على أي ممثل أن يطوّر كل جزء من عواطفه الخاصة، وحفّزت هذه التقنية الممثل على استكشاف الجوانب الداخلية والخارجية للشخصية التي يقدّمها.
وتروي أدلر التي درّبت العديد من نجوم هوليوود في تلك الحقبة أنها طلبت من المجموعة التي كانت تدرّسها التصرف كالدجاج بينما قنبلة نووية على وشك السقوط عليهم، فهرب معظم طلاب المجموعة لكن براندو جلس بهدوء وتظاهر بوضع بيضة، وعندما سألته عن سبب اختياره هذا التصرف وليس الهروب مثل بقية زملائه، قال: "أنا دجاجة، فماذا يمكن أن أعرف عن القنابل؟"
خمسينيات الصعود والجوائز
في أول أعماله المسرحية عام 1944، أدى دور المسيح في مسرحية عن نصّ "هانيلي" للكاتب غيرهارت هاوبتمان، وبعد أدوار مسرحية أخرى حصل براندو على دور البطولة في مسرحية "عربة اسمها الرغبة" المأخوذة عن نص لتينيسي ويليامز في برودواي، وكان عمره آنذاك 23 عاماً.
وفي السادسة والعشرين من عمره (عام 1950) بدأت مسيرته السينمائية بفيلم "الرجال"، ولأن الفيلم يتناول أوضاع قدامى المحاربين المصابين بإعاقات، فقد قضى شهرًا في قسم المصابين بالشلل في أحد المستشفيات، وهو ما فعله في أفلام أخرى لتحقيق أقصى درجات التقمص في أدواره.
بعد ذلك (1950- 1955) مثل براندو في عدة أفلام أطلقت شهرته المدوّية في العالم، ومنها أفلام "عربة اسمها الرغبة" مغ فيفيان لي وتحت إدارة إيليا كازان الذي سبق أن قدّمها على مسرح برودواي، و"فيفا زاباتا" عام 1952 من إخراج كازان وكتابة الروائي الأميركي الشهير جون شتاينبيك.

إضافة إلى "البري" عام 1953، و"يوليوس قيصر" عام 1953، و"على الواجهة البحرية" عام 1954، وهو من إخراج إيليا كازان أيضًا، و"رجال ودمى" عام 1955.
حصل براندو عام 1952 على جائزة أفضل ممثل في مهرجان كان السينمائي لدوره في فيلم "فيفا زاباتا"، كما حصل على جائزة جائزة الأكاديمية السينمائية البريطانية (بافتا) لأفضل ممثل أجنبي على دوره في الفيلم نفسه.
وكان براندو سافر إلى المكسيك قبل تصوير "فيفا زاباتا"، وتحديدًا إلى البلدة التي ولد فيها الثائر المكسيكي، حيث درس طريقة وأسلوب حديث الأشخاص وسلوكهم وحركاتهم.
وفي عام 1953 حصل براندو على جائزة البافتا البريطانية لأفضل ممثل أجنبي عن دوره في "يوليوس قيصر"، كما حصل عام 1955 على أول جائزة أوسكار له على دوره في فيلم "على الواجهة البحرية".
العرّاب والتانغو الأخير في باريس
وفي الستينيات نشط براندو في حركة الحقوق المدنية، في حين شهدت سبعينيات القرن الماضي الإندفاعة الكبرى الثانية في مسيرته السينمائية، في أفلام "العرّاب" عام 1972 الذي نال في العام التالي جائزة أوسكار لأفضل ممثل عن دوره فيه، إضافة إلى "التانغو الأخير في باريس" الذي ما زال موضع جدل في العالم بسبب طبيعة دوره، ومزاعم الاستغلال الجنسي "لأهداف فنية" للممثلة الفرنسية ماريا شنايدر.

كما قدّم براندو عام 1979 فيلم القيامة الآن الذي يعتبره كثيرون من أفضل الأفلام التي تعاون فيها مع مخرج "العرّاب" فرانسيس فورد كوبولا.
يعتبر براندو من أعظم المواهب في تاريخ السينما الأميركية، ووضعه معهد الفيلم الأميركي في المرتبة الرابعة في قائمته 100 عام و 100 نجم سينمائي، ووصفه المخرج الإيطالي الشهير برناردو برتولوتشي مخرج فيلم "التانغو الأخير في باريس" قائلاً: "براندو ملاك كرجل، ووحش كممثل".
أُنتج "التانغو الأخير في باريس" عام 1972 في العام نفسه الذي أُنتج فيه "العرّاب"، وكلاهما من الأفلام التي ساهمت في تكريس نجومية براندو، وأدخلته تاريخ السينما العالمية واحدًا من أعظم مواهبها، لكن الفيلمين تسبّبا في مأساتين شخصيتين لامرأتين، الأولى ساشين ليتل فيذر التي مثّلت براندو في حفل الأوسكار الخامس والأربعين.
والثانية الممثلة الفرنسية ماريا شنايدر التي أدت دور البطولة في "التانغو الأخير في باريس" إلى جوار براندو، وتوفيت في باريس عام 2011 عن 58 عامًا، والتي تحوّل دورها في الفيلم إلى ما يمكن وصفه بكابوس عمرها كله.
إذلال ماريا شنايدر جنسيًا
كانت شنايدر في التاسعة عشر من العمر حين اختارها المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي للعب دور حبيبة براندو في الفيلم الذي صُنّف إباحيًا، وندّد به الفاتيكان في حينه وحظرته العديد من الدول، وما زال يثير جدلًا في العالم حتى أيامنا هذه، ففي ديسمير/كانون الأول الماضي أعلنت مؤسسة "سينيماتيك فرانسيز" المعنية بالأعمال السينمائية في فرنسا إلغاء عرض له بسبب احتجاجات نسوية في باريس.

يدور الفيلم حول رجل أعمال أميركي أرمل يلتقي بفتاة فرنسية ويقيمان علاقات جنسية دون أن يحدّدا هويتهما، ويتضمّن الفيلم مشهد اغتصاب دخل تاريخ السينما، قبل أن يُصبح بعد سنوات رمزًا للعنف الجنسي في المجال السينمائي.
ومع أنّ المشهد يتضمّن محاكاة للفعل الجنسي، إلا أنّه فُرض على الممثلة التي كانت في التاسعة عشرة من عمرها آنذاك وأثّر نفسيًا عليها. وفور طرح الفيلم تحدّثت شنايدر عن الموضوع، مشيرة إلى "اغتصاب" من الممثل والمخرج الذي قرّر تصوير المشهد من دون أخذ موافقتها.
وقالت في مقابلات أُجريت معها إن المشهد لم يكن ضمن السيناريو وحين أخبروها غضبت للغاية: "أخبروني عن ذلك قبل تصوير المشهد مباشرةً، وكنت غاضبة للغاية. كان ينبغي عليّ أن أتصل بوكيل أعمالي أو أن أحضر محامي الخاص، لأنه لا يمكنك إجبار شخص على فعل شيء ما غير موجود في السيناريو، ولكنني لم أعرف ذلك وقتها".
"قال لي مارلون: ماريا لا تقلقي إنه مجرد فيلم، ولكن خلال المشهد، ورغم أن ما يفعله براندو كان مجرد تمثيل إلا أنني كنت أذرف دموعاً حقيقية. شعرت بالإذلال، ولكي أكون صادقة شعرت قليلاً أنني اغتصبت من قبل براندو وبيرتولوتشي سويةً، وبراندو لم يقم بمواساتي ولم يعتذر بعد المشهد، ولحسن الحظ أن المشهد صُوّر مرة واحدة فقط".
ونفي بيرتولوتشي استغلال شنايدر جنسيًا، قائلًا إنها "لم تكن ناضجة كفاية لتدرك ما يحصل"، واعترف أنه يشعر بالذنب ولكنه ليس نادماً على ذلك، كما اعترف أنه قرر مع براندو ألا يخبروا شنايدر بشيء وذلك كي تكون الاستجابة (في أثناء التصوير) أكثر واقعية.
وبعد الفيلم تعهدت شنايدر بعدم الظهور في مشاهد عارية بعد ذلك، إلا أنها ظهرت عارية بعد ذلك بثلاثة أعوام في بعض مشاهد فيلم "المسافر" مع جاك نيكلسون.

وعانت شنايدر في السبعينيات من الإدمان على المخدرات إلا أنها بعد ذلك لعبت أدوار البطولة في أفلام معظمها أوروبي بميزانيات بسيطة، وكان آخرها فيلم "الزبون" حول عامل بناء متزوج يعيش حياة مزدوجة كبائع هوى.
ورغم أن شنايدر ظلت تحتفظ بصداقة مع براندو حتى وفاته عام 2004 إلا أنها لم تتصالح مع بيرتولوتشي على الإطلاق.