لم يسبق لهوليوود أن كانت على وفاق مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، إذ كثيرًا ما وجّه نجومها سهام نقدهم إلى ترمب منذ ترشّحه لانتخابات الرئاسة عام 2016 التي فاز فيها على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
وكان روبرت دي نيرو الذي يعتبره نقاد السينما من أهم الممثلين في تاريخ هوليوود في طليعة هؤلاء، إلى درجة تبادل الانتقادات علنًا بينهما في مناسبة أو دونها.
ففي عام 2016 الذي شهد صعود ترمب سياسيًا، مرشحًا للرئاسة فرئيسًا، وجّه دي نيرو أشد انتقاداته له، مشبّهًا إياه بالشخصية المضطربة نفسيًا التي أدى دورها في فيلم "سائق التاكسي" عام 1976، معتبرًا أن ترمب "مجنون بالكامل".
ويؤدي دي نيرو في الفيلم دور "ترافيس بيكل" الذي يعمل سائق سيارة أجرة في نيويورك، يعاني من انفصام الشخصية والهذيان، ويحاول اغتيال أحد الساسة الفاسدين انتقامًا لإحدى الفتيات (تؤدي دورها في الفيلم الممثلة الحائزة على الأوسكار جودي فوستر).
ويتمتّع فيلم "سائق التاكسي" بأهمية استثنائية في تاريخ السينما والسياسة الأميركيتين، ففي عام 1981 حاول أميركي يدعى جون هينكلي اغتيال الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، في مسعى منه للفت نظر الممثلة الأميركية جودي فوستر التي لعبت دور البطولة في الفيلم إلى جانب دي نيرو، لكن محاولة الاغتيال فشلت، واعترف هينكلي بأنه تأثر بشدة بشخصية بطل فيلم "سائق التاكسي".
العرّاب وسائق التاكسي
ويدين دي نيرو إلى فيلمي "العرّاب"-الجزء الثاني الذي أخرجه فرانسيس فورد كوبولا عام 1974، و"سائق التاكسي"، بشهرته المدوية. وأخرج الفيلم الأخير مارتن سكوسيزي الذي شكّل مع دي نيرو ثنائيًا متميّزًا منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، قبل أن يحل مكانه ليونارد دي كابريو في عدة أفلام أخرجها كورسيزي.
وفاز فيلم "سائق التاكسي" بالسعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي عام 1976، ما ساهم بإطلاق شهرة الاثنين، دي نيرو وسكورسيزي.
ويحضر ترمب بشكل غير مباشر في الدورة الثامنة والسبعين لمهرجان كان التي تُفتتح في 13 من مايو/ أيار الجاري وتستمر حتى 24 من هذا الشهر، خاصة مع إعلان عزمه فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على الأفلام الأجنبية، لإنقاذ صناعة السينما الأميركية التي قال إنها "تموت موتًا سريعًا".
ترمب ودي نيرو في "كان"
كما يحضر مهرجان كان السينمائي خصم ترمب اللدود، روبرت دي نيرو الذي سيمنحه المهرجان السعفة الذهبية الفخرية عن مجمل مسيرته الفنية.
واعتبر المهرجان في بيان أصدره أخيرًا أن دي نيرو أحد "الوجوه المرادفة للفن السابع"، والممثلين الذين "يتركون بصمة على محبي السينما إلى الأبد"، واصفًا إياه بأنه "أسطورة السينما".
وأضاف بيان للمهرجان أن دي نيرو "بابتسامة لطيفة ونظرة قاسية"، جسّد "بحضوره الطبيعي شخصيات المافيا الإيطالية الأميركية" إلى حد أنه بات مرجعًا في هذا النوع من الأدوار الذي أصبح مطبوعًا بأدائه.
من جانبه، قال دي نيرو عن المهرجان: "لديّ عاطفة قوية تجاه مهرجان كان السينمائي، وخصوصًا أنه يجمعنا في هذا الأيام، بينما تفرّقنا ظروف كثيرة. إنه كالعودة إلى المنزل".
وانطلقت مسيرة دي نيرو السينمائية في أفلام أخرجها براين دي بالما في أواخر الستينيات، واُشتهر لأدائه دور الدون فيتو كورليوني في فيلم "العرّاب" الجزء الثاني، وهو الدور الذي نال عنه جائزة الأوسكار لأفضل ممثل مساعد.
كما حصل روبرت دي نيرو على جائزة الأوسكار لأفضل ممثل عن فيلم "الثور الهائج" Raging Bull، وكان صاحب الدور الرئيسي في فيلمين حازا السعفة الذهبية في مهرجان كان هما "سائق التاكسي" و"المهمة" The mission.
دي نيرو: ترمب مجنون بالكامل
وتتسم علاقة دي نيرو بالرئيس الأميركي دونالد ترمب بالعداء المتواصل، قبل ترشّح هذا الأخير للرئاسة الأميركية عام 2016 وبعد فوزه، وخلال ولايتيه.
وخلال مشاركته في مهرجان ساراييفو السينمائي في أغسطس/ آب 2016 قبل الانتخابات التي فاز فيها ترمب، والذي اُفتتح بعرض نسخة مرممة رقميًا من فيلم "سائق التاكسي" بمناسبة مرور أربعين عامًا على إنتاجه، شبّه دي نيرو المرشّح للرئاسة في حينه دونالد ترمب بالشخصية التي أدى دورها في الفيلم، قائلًا إن ترمب "مجنون بالكامل".
وقال الممثل إن ترمب مثل بيكل (بطل الفيلم) يجد نفسه في المكان غير المناسب، وقال:
"إنه لأمر جنوني، لكن أشخاصًا مثل ترمب يجب ألا يكونوا في المكان الذي هو فيه. لذا فليساعدنا الرب.
أظن أن الناس بدأوا يبتعدون عنه ووسائل الإعلام التي سلطت الانتباه عليه بدأت تقول: حسنًا دونالد هذا سخيف فعلًا، وهذا جنوني وغير منطقي، لأن ما يقوله هو جنوني فعلًا".
لكن ترمب فاز بالانتخابات على خلاف ما توقّع دي نيرو الذي شارك في 20 يناير/ كانون الثاني 2017 في تظاهرة ضخمة في نيويورك احتجاجًا على فوز ترمب، شارك فيها أيضًا مجموعة من مشاهير هوليوود، ومنهم شير ومايكل مور وأليك بالدوين.
وقال دي نيرو للجموع التي انتشرت في جادة محاذية لسنترال بارك وصولًا الى كولومبوس سيركل حيث برج ترمب: "مهما حصل سنبقى نحن الأميركيين، نحن النيويوركيين، نحن الوطنيين، موحدين دفاعًا عن حقوقنا وحقوق مواطنينا".
ولم تمر انتقادات دي نيرو دون أن يرد عليها ترمب على طريقته، ففي طريق عودته من قمة تاريخية جمعته بالزعيم الكوري الشمالي كيم جونع أون، في يونيو/ حزيران 2018، قال الرئيس الأميركي على موقع التواصل الاجتماعي "تويتر" إن دي نيرو "يتمتع بحاصل ذكاء متدن جدًا".
وكان دي نيرو قال قبل رد ترمب بيومين، خلال حفل توزيع جوائز "توني" المسرحية في نيويورك: "تبًا لترمب"، وقبل ذلك قال إنه يريد أن يسدّد لكمة الى وجهه.
وكتب ترمب قائلًا:
"روبرت دي نيرو شخص يتمتع بحاصل ذكاء متدن جدًا، وقد تلقّى الكثير من الضربات على رأسه في السينما من قبل ملاكمين فعليين. لقد رأيته وأرى أنه كان فعلًا مرتجًا جراء هذه الكلمات.
أحسب أنه لا يدرك أن الاقتصاد في أحسن حال مع نسبة عمالة عالية لا سابق لها، فيما تعود الكثير من الشركات الى البلاد".
وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، تلقّت عدة شخصيات أميركية من بينها دي نيرو طرودًا مشبوهة، إضافة إلى الرئيس السابق باراك أوباما وهيلاري كلينتون وشبكة "سي إن إن" والملياردير جورج سوروس، واتهم الزعماء الديمقراطيون في الكونغرس ترمب بإثارة العنف نظرًا للتهديد الذي طال شخصيات بارزة من الحزب، لكن البيت الأبيض نفى علاقة الرئيس بهذه الطرود.
طرود مشبوهة تستهدف دي نيرو وآخرين
وبدأت موجة إرسال الطرود المشبوهة بالعثور على عبوة يدوية الصنع في صندوق بريد منزل الملياردير الديمقراطي جورج سوروس (88 عامًا)، ثم توالت الطرود إلى شخصيات ديمقراطية بارزة.
وفحصت الشرطة الأميركية طردًا مشبوهًا أرسل الى عنوان عائد لروبرت دي نيرو في ولاية نيويورك في شركة تريبيكا للإنتاج التي أسسها بالمشاركة مع آخرين.
واغتنم دي نيرو فرصة مشاركته في مهرجان الفيلم في لندن في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لاتهام ترمب بالسعي إلى "القضاء" على المؤسسات الأميركية "لينقذ نفسه"، وقال في دردشة مع محبي السينما قبل عرض فيلم "الإيرلندي" لمارتن سكورسيزي الذي أدى بطولته، إن ترمب يسعى لتأليب الرأي العام ضد المؤسسات غير المنحازة لإدارته، مثل وكالات الاستخبارات الأميركية "سي آي ايه" ومكتب التحقيقات الفدرالي "اف بي آي".
وقال دي نيرو: "ينبغي لنا حماية هذه المؤسسات والسلطة الرابعة أيضًا، أي الصحافة، لأنه يحاول القضاء عليها لسبب واحد ألا وهو أن ينقذ نفسه".
قتلة زهرة القمر
في آخر مشاركة له في مهرجان كان في مايو/ أيار 2023 رأى دي نيرو أنّ الشخصية التي يؤديها في فيلم "قتلة زهرة القمر" لمارتن سكورسيزي، تنطوي على الشر نفسه الذي يُظهره ترمب.
وتدور أحداث الفيلم في عشرينات القرن الماضي وسط قبيلة من السكان الأصليين، ويؤدي دي نيرو فيه دور وليام هيل الذي ينال ثقة أفراد القبيلة قبل أن ينخرط في جرائم قتل عدة بهدف الاستيلاء على النفط في أرضهم.
وقال دي نيرو للصحافيين عل هامش مهرجان كان السينمائي: "لا أفهم الكثير عن هذه الشخصية ولماذا خانت" أفراد أوساج، مضيفًا: "لكننا بتنا أكثر وعيًا بعد مقتل جورج فلويد"، في إشارة إلى الرجل الأسود الذي قُتل بيد شرطي أبيض في حادثة أشعلت احتجاجات ما يُعرف بحركة "حياة السود مهمة".
وتابع: "إنها تفاهة الشر، وهو ما يجب أن ننتبه إليه. كلنا ندرك عمّن أتحدث، لن أقول اسمه"، لكن بعد لحظات، قال ضاحكًا: "الأمر مشابه لما حصل مع ترمب. كان علي أن أذكر اسمه"، مضيفًا: "ثمة أشخاص يعتقدون أنّ ترمب قادر على إنجاز ما هو جيّد. تخيّلوا أي جنون هذا".
مهرج قد يصبح طاغية
وفي مايو/ أيار 2024، هاجم دي نيرو ترمب مجدّدًا، ووصفه بالمهرج الذي قد يصبح طاغية. وبينما كان يقف بالقرب من محكمة نيويورك حيث كان ترمب يُحاكم، قال دي نيرو: "أعيش في هذا الحي وأحب هذه المدينة ولا أريد تدميرها"، محذرًا من إعادة انتخاب ترمب:
"دونالد ترمب لا يريد تدمير هذه المدينة فحسب بل البلد برمّته، وفي نهاية المطاف قد يدمّر العالم.
عندما ترشح ترمب عام 2016، كان الموضوع بمثابة مزحة، مهرّج يترشح للرئاسة. لقد نسينا دروس التاريخ التي تبيّن أن مهرجين آخرين لم يُؤخذوا على محمل الجد، حتى أصبحوا دكتاتوريين عنيفين".
تمثيل منذ سن العاشرة
ولد روبرت دي نيرو عام 1943 في مدينة نيويورك، لأب كان رسامًا ونحاتًا وشاعرًا من أصل إيطالي-أيرلندى، وأم رسامة أيضًا (فيرجينيا أدميرال)، وهو الابن الوحيد لهما.
انفصل والداه عندما كان في الثانية من عمره بعد أن أعلن والده عن "مثليته" الجنسية، فنشأ مع والدته في أحد أحياء مانهاتن، ولُقب في طفولته بـ"بوبي ميلك" بسبب بشرته الشاحبة وبنيته الجسدية الضعيفة.
ظهر لأول مرة على المسرح في المدرسة في سن العاشرة، حيث لعب دور الأسد الجبان في مسرحية ساحر أوز، والتحق لفترة قصيرة بالمدرسة الثانوية للموسيقى والفنون، قبل أن يترك المدرسة الثانوية في سن الـ16 لمتابعة التمثيل.
قال لاحقًا: "عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري تقريبًا، كنت أشاهد برنامجًا تلفزيونيًا، وقلت إذا كان هؤلاء الممثلون يكسبون عيشهم منه، وهم ليسوا جيدين حقًا، فلا يمكنني أن أكون أسوأ منهم".
ومثل بعض نجوم هوليوود درس التمثيل مع ستيلا أدلر، في المعهد الذي يحمل اسمها، وتستلهم تقنيات نظام المخرج الروسي الشهير ستانيسلافسكي في التمثيل.
وفي عام 1963، حينما كان يبلغ من العمر 20 عامًا، قدّم دي نيرو أول دور سينمائي له مع براين دي بالما في فيلم "عقد القران" الذي صدر عام 1969، وحصل على شهرة كبيرة بعد أدائه دور لاعب بيسبول في فيلم "اضرب الطبل ببطء" عام 1973.
تعاون استثنائي مع سكورسيزي
وفي العام نفسه بدأ العمل مع المخرج مارتن سكورسيزي في فيلم "الشوارع الوضيعة"، قبل أن تتوالى أعمال دي نيرو مع سكورسيزي في مراحل مختلفة من مسيرتهما السينمائية، مثل سائق التاكسي عام 1976، ونيويورك عام 1977، والثور الهائج عام 1980، وملك الكوميديا عام 1983، وغودفيلاز عام 1990، وخليج الخوف عام 1991، وكازينو عام 1995، والإيرلندي عام 2019 وأخيرًا "قتلة زهرة القمر" عام 2023 .
ظهر دي نيرو في دور لافت في فيلم سرجيو ليون "حدث ذات مرة في أميركا"، عام 1984، وفي أفلام كثيرة منها "اعترافات حقيقية" (1981)، و"الوقوع في الحب" (1984)، و"البرازيل" (1985)، و"المهمة" (1986)، و"المنبوذون" (1987)، و"الحرارة" (1995)، و"رونن" (1998)، و"حلّل هذا" (1999)، و"التق بالوالدين" (2000).
العرّابان براندو ودي نيرو
وفي عام 1974، لعب دي نيرو دور شخصية الدون فيتو كورليوني في مرحلة الشباب في فيلم العراب: الجزء الثاني لفرانسيس فورد كوبولا، وحاز على دوره فيه جائزة أوسكار لأفضل ممثل مساعد.
ويُعدّ دي نيرو ومارلون براندو الممثلين الوحيدين في تاريخ السينما اللذين حصلا على جوائز أكاديمية على قيامهما بأداء الشخصية نفسها، حيث قام براندو بأداء دور الدون كورليوني عندما كان كبيرًا في السن، بينما أدى دي نيرو دور الشخصية نفسها عندما كانت أصغر في السن في الجزء الثاني من العرّاب.
وأصبح العديد من أفلام دي نيرو من كلاسيكيات السينما الأميركية، وقد أدرجت مكتبة الكونغرس ستة منها في السجّل الوطني للأفلام باعتبارها "ذات أهمية ثقافية أو تاريخية أو جمالية"، كما أدرج معهد الفيلم الأميركي خمسة منها ضمن قائمة أعظم مئة فيلم أميركي على مر العصور.
