لعله سحر القاهرة القديمة ما دفع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى البدء منها في زيارته إلى مصر الأحد الماضي، ففور وصوله توجّه ونظيره المصري إلى خان الخليلي، أحد أشهر الأحياء التاريخية في وسط البلد، وأقدم أسواقها على الإطلاق، بتاريخ يعود إلى الحقبة المملوكية، وهناك تناول الرئيسان العشاء وتجولا وسط الحشود.
ونشر ماكرون الذي عُرف عنه حرصه على زيارة الأسواق الشعبية في العواصم العربية التي يزورها، والتواصل المباشر مع الجمهور كما فعل في زيارة سابقة له إلى بيروت، تدوينتين بالعربية والفرنسية على حسابه في موقع إكس، أرفقهما بمقطع فيديو يُظهر تجواله والسيسي في خان الخليلي، المجاور لمسجد الإمام الحسين بحي الجمّالية، مصحوبًا بمقطع من أغنية "حلوة يا بلدي" للمغنية الإيطالية الأصل، داليدا، التي ولدت في حي شُبرا القاهري.

"خان" على طرق التجارة
يقع خان الخليلي في وسط القاهرة، بالقرب من مسجد الحسين ووكالة الغوري وسوق الأزهر وغيرها من الأحياء التجارية، على امتداد شارع المعز لدين االله الفاطمي.
وكلمة "خان" فارسية الأصل، وتعني المكان المخصص لمبيت أو إقامة المسافرين والقوافل والتجّار، وقد حلّت الكلمة في مصر المملوكية محل كلمتي "فندق" و"قيسارية" اللتين كانتا تُطلقان على أبنية المسافرين قبل ذلك.
والخان معماريًا بناء مستطيل بغير نوافذ خارجية، يتوسطه فناء داخلي به بئر للمياه، ويحيط به من جهاته الأربع رواق تُفتح عليه غرف بقباب نصف دائرية أو بقباب متقاطعة، وفيه حمّام ومُصلّى وفرن وإسطبل وحوض لشرب الدواب ومدخل بارز بشكل زخرفي.
وانتشر بناء الخانات في مصر الفاطمية في القرن الثاني عشر الميلادي، وازدهر في العصر المملوكي نتيجة ازدهار التجارة فيها آنذاك.
جهاركس الخليلي
أنشأ الأمير جهاركس الخليلي "خان الخليلي" عام 1382، في عهد السلطان المملوكي برقوق، ويُعتقد أن أصل الأمير جهاركس يعود إلى مدينة الخليل الفلسطينية.
ولقّب جهاركس بأمير خور، وهي إحدى الوظائف في الحقبة المملوكية، وتتمثل بالإشراف على إسطبلات السلطان، والكلمة مركبة من أمير (وهي عربية) وأخور (فارسية) وتعني المعلف.

ويردّ بعض المؤرخين أسباب قيام جهاركس ببناء الخان إلى رغبته بعمل الخير، إذ قام بوقف الخان وتخصيص العوائد المالية منه لتمويل مخابز تقوم بتوزيع الخبز على فقراء مكة بواقع رغيفين لكل فقير كل يوم، واستمر هذا التقليد حتى عام 1424، حيث اُستبدل الخبز بمبالغ مالية.
ولم يكن خان الخليلي المشروع الوحيد في سجل~ جهاركس الخليلي، إذ سبق للرجل الذي يتمتع بمهارة خاصة في الإنشاء والعمارة أن بنى قبل الخان بسنوات، جسرًا على الضفة الشرقية لنهر النيل في منطقة الروضة عُرف بجسر الخليلي.
وأنشأ جهاركس الخان على أنقاض مقبرة للخلفاء الفاطميين في مصر، عُرفت باسم "تربة الزعفران"، حيث قام بإخراج عظام الخلفاء الفاطميين منها وحملها على حمير وألقاها في منطقة تسمى كيمان البرقية.
ويفسّر مؤرخون ذلك بكراهية جهاركس للفاطميين.
ومات جهاركس في دمشق، وتُركت جثته في الخلاء لتلتهمها الحيوانات البرية، ما اعتبره بعض ساكني القاهرة في حينه ثمنًا أو انتقامًا إلهيًا لنبشه جثث الفاطميين، وإلقاء بقاياهم خارج القاهرة.

عندما هدم الخان قانصوه الغوري
وفي القرن السادس عشر قام السلطان قانصوه الغوري بوضع يده على خان الخليلي والأحياء المجاورة له بالتملك ووسائل اخرى، وهدم الغوري الخان عام 1511 وأعاد بناءه بأسلوب معماري جديد، وأنشأ فيه وكالات تجارية وحوانيت تتوزع حول أزقته الضيقة وساحاته الداخلية، كما أضاف للخان ثلاث بوابات ضخمة، اثنتان منها متقابلتان، والثالثة في الجهة الغربية للطريق الممتد من مسجد الحسين إلى داخل الخان.
وأعاد ذلك الحيوية التجارية لتلك المنطقة بعد تراجع أصاب التجارة المصرية إثر اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح، وفقاً لتفسيرات مؤرخين.
وكان الغوري قد أبعد كثيرين من خصومه وتفرّد بالحكم، كما فرض ضرائب باهظة على المواطنين وخفّض الرواتب لامتصاص الآثار السلبية لاكتشاف رأس الرجاء الصالح على الاقتصاد المصري.
ذهب وفضة وأفيون
ومنذ إنشائه، احتل خان الخليلي مكانة متفردة بين الأحياء التجارية الأخرى، كونه كان يضم أعدادًا كبيرة من التجّار من أصول متعددة، إضافة إلى تخصص كثير من حوانيته ووكالاته ببيع سلع معينة عُرفت بها، ما جعل الخان مقصدًا للمشترين أيًا كانت احتياجاتهم، وجعله مزدحمًا دائمًا بالناس وبالبضائع القادمة من أوروبا وأسيا وأفريقيا، وكثيرها لم يكن يُباع إلا في الخان.
كما عرف خان الخليلي الأسواق المتخصصة داخله، ومنها أسواق الأقمشة والنحاس والبُن والحنة والمواد الغذائية والرقيق، والسلاح الذي كان يُباع خلال يومين من كل أسبوع، كما كانت تُباع فيه سلع ثمينة مثل الذهب والفضة والأحجار الكريمة واللؤلؤ والعنبر.

وشهد الخان تجارًا يبيعون الصابون في "سوق النابلسي" داخله، وتجارة "الدُخّان" التي كان يديرها الأتراك، إضافة إلى تجارة الأفيون التي كانت مباحة في ذلك الوقت.
تجارة الرقيق
جاء هدم خان الخليلي على يد السلطان قانصوه الغوري عام 1511 وإعادة بنائه بعد توسيعه، ضمن خطة لتحويل المنطقة إلى مركز تجاري، وأصبح الخان فعليًا في وسط المراكز التجارية الكبرى في القاهرة القديمة، كالصاغة والأزهر والغورية والحمزاوي والموسكي والمرجوشي والجمالية.
وساهم الموقع الجغرافي للخان وقربه من الحي اليهودي الذي تقع فيه حارة اليهودي، والحي الإفرنجي الذي كانت تربطه بالخان طرق عدة، في ربط الخان برؤوس الأموال ومراكز التجارة الخارجية.
ومما يُذكر أنه كان في خان الخليلي سوق للرقيق سُمي سوق الجلّابة، وكانت في السوق وكالتان لتجارة الرقيق القادمين من أفريقيا، إضافة إلى مكان آخر داخله لتجارة الرقيق الأبيض من القوقاز وجورجيا.

وخضعت تجارة الرقيق في الخان لقوانين تنظيمية صارمة فيما يخص فئة الدلّالين، تشترط عددًا محددًا لهم، وتمتّعهم بصفات معينة من بينها الأمانة والاستقامة.
وكانت عملية البيع الرقيق تتم وفق نظم خاصة، بربطهم بسلاسل وعرضهم أمام المتردّدين على السوق، قبل أن يبدأ الدلّالون بعرض صفاتهم. وبينما كان الرقيق السود يُعرضون شبه عراة باستثناء ما يستر عوراتهم، كان الرقيق الأبيض يعرضون وهم بكامل ثيابهم التي غالبُا ما تكون جديدة وزاهية.
ابن الجمالية الذي كتب خان الخليلي
ولم تقتصر أهمية خان الخليلي على السياق التاريخي الذي أنشىء فيه، بل امتدت إلى أيامنا هذه بتحوّله إلى سوق شعبية لبيع مختلف أنواع البضائع، إضافة إلى مقاهيه ومتاجر بيع الأنتيكات والصناعات التذكارية التي تجد رواجًا كبيرًا في صفوف زائري القاهرة من السيّاح العرب والأجانب.
كما حظي الخان بالتفاتة إبداعية مبكرة من أكبر الروائيين العرب الذي كتب رواية تحمل اسم الخان وتدور في أزقته وبين بيوته وفي محيطه، ومن اللافت أن يكون ميلاد محفوظ غير بعيد عن خان الخليلي..
ولد محفوظ (1911 – 2006) الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1988 في حي الجمالية المجاور لخان الخليلي الذي أصبح يتردد إلى مقاهيه عندما أصبح روائيًا.
كتب محفوظ رواية "خان الخليلي" عام 1945، وهي من رواياته الأولى التي أطلقت شهرته في الأوساط الثقافية المصرية والعربية، وفيها تبلور توجهه نحو الواقعية الجديدة في رصد المجتمع المصري وتحوّلاته، ومن هذه الروايات "القاهرة الجديدة" و"خان الخليلي" و"زقاق المدق"، التي كتبها في أربعينيات القرن الماضي.

وتعاين الرواية التحوّلات في حياة موظف يدعى أحمد عاكف منذ انتقاله وأسرته من حي السكاكيني إلى خان الخليلي هربًا من قصف ألماني طاول الحي الأول.
وفي الصفحات الأولى من الرواية يصف محفوظ أول رحلة لبطله من وزارة الأشغال حيث يعمل، إلى بيته الجديد في خان الخليلي قائلًا :" انتهى إلى ميدان الأزهر، واتجه إلى خان الخليلي، فعبر عطفة ضيقة إلى الحي المنشود، حيث رأى عن كثب العمارات الجديدة تمتد ذات اليمين وذات الشمال، تفصل بينها طرقات وممرات لا تحصى، فكأنها ثكنات هائلة يضل فيها البصر. وشاهد فيما حوله مقاهي عامرة ودكاكين متباينة، ما بين دكان طعمية ودكان تحف وجواهر، ورأى تيارات من الخلق لا تنقطع، ما بين مُعمّم ومُطربش ومُقبّع، وملأت أذنيه أصوات وهتافات ونداءات حقيقة بأن تثير أعصابًا قلقة كأعصابه، فتولاه الارتباك واضطربت حواسه".
أحياء تحولّت إلى مزارات
في ذلك الحي الذي أنس إليه بطل الرواية لاحقًا بعد أن اضطربت حواسه وتولاه الارتباك، أكل عاكف ما اعتبرها "ألذ طعمية ذاقها في حياته"، وأرجع والده ذلك إلى أن الحي "في حمى الحسين رضوان الله عليه"، ما يلخّص عمليًا جزءًا كبيرًا من صفات وخصائص ما توصف بالشخصية المصرية التي ظل محفوظ يرصد أعماقها وتحوّلاتها في رواياته اللاحقة، وخاصة في الحقبة التي أعقبت سقوط الملكية وزخرت بتحوّلات عاصفة ومتسارعة ومؤلمة.

وكانت تداعيات تلك التحوّلات كبيرة على المواطن المصري الذي كان يمكنه أن يصادف محفوظ في أحد مقاهي خان الخليلي، ومنها "الفيشاوي"، وهو يدخّن أرجيلته أو يسامر أصدقاءه أو يستقبل دراسيه أو صحافيين أجانب قصدوا بلاده ليجروا حوارات معه.
في تلك البقعة الصغيرة من القاهرة، ما بين الجمالية وخان الخليلي والسكرية وسواها من أحياء القاهرة القديمة، كان أبطال الروائي الكبير يتحركون: ينامون ويصحون، يولدون ويموتون، ويعانون أزمات وجودية أو يغرقون في بحور من العبث واللاجدوى.
وتلك كانت مصر التي أصبحت العالم كله لذلك الروائي الذي وصل إلى أرفع جائزة أدبية في العالم، قادمًا من تلك الأحياء الصغيرة التي أصبحت مزارات للسيّاح الأجانب والقادمين من الجوار العربي والأرياف والأطراف.