حروب عديدة يشهدها العالم، لا سيما منطقة الشرق الأوسط، حيث تتصاعد النزاعات العسكرية لتشكّل مشهدًا متوترًا ينعكس على الأمن الإقليمي برمّته.
واقع الحروب ليس جديدًا؛ فالحرب قائمة مع وجود البشرية، لكن المسألة الأساسية تكمن في اعتماد مصطلح "الأجيال" للتمييز بين أدوات الحروب وإدارتها ومجالاتها وأنواعها.
ومع التطور التكنولوجي يسمع عامة الناس بمصطلحات "الجيل الثالث" (3G) والجيل الرابع (4G) والجيل الخامس (5G) عند الحديث عن شبكات الإنترنت أو عن إصدارات الأجهزة التقنية وأنظمة التشغيل. في المقابل، للحروب أجيال أيضًا؛ فهناك ما يُعرف بحروب "الجيل الأول"، و"الجيل الثاني"، و"الجيل الثالث"، و"الجيل الرابع"، و"الجيل الخامس"، وحتى "الجيل السادس".
تختلف هذه الأجيال الحربية فيما بينها؛ فلكل "جيل" ماهيته وأساليبه وأدواته وواقعه، ويرتبط ذلك بالزمن والسياق الذي نشبت فيه الحرب. لكنّ كثيرين قد لا يعرفون "أجيال الحروب" وصورتها وأدواتها؛ فالتفاصيل عنها كثيرة ومتعدّدة. فماذا تقول المعلومات عنها؟ وماذا تكشف المراجع العلمية عن أدواتها وساحاتها وميادينها؟
الحروب.. من الجيل الأول إلى الثالث
منذ الوجود تعرف البشرية الحروب. وأول ما يتبادر إلى الذهن بشأن الحرب هو الاقتتال والتدمير والقصف والخسائر المادية والبشرية. ويعرّف القانون الدولي العام الحرب على أنها "نزاع مسلّح بين فريقين أو أكثر من دولتين مختلفتين"، وخلالها تدافع كل دولة عن مصالحها وأهدافها وحقوقها. (1)
من جهته، عرّف كارل فون كلاوزفيتز، المؤرخ والفيلسوف البروسِيّ، الحرب بأنها "عمل من أعمال العنف يهدف إلى إجبار خصومنا على تنفيذ إرادتنا". وفي مكان آخر أكد أن "الحرب ليست سوى استمرار للسياسة بوسائل أخرى". كذلك، عرف المؤرخ الفرنسي جورج سوريل الحرب بأنها "عمل سياسي تلجأ إليه الدول غير القادرة على تسوية نزاع يتعلق بالتزاماتها أو حقوقها أو مصالحها، باستخدام القوة المسلحة لإثبات قوتها وفرض إرادتها على الدولة الأخرى".
كما يرى والاس (1968) أن الحرب هي "الاستخدام المصرح به للأسلحة القاتلة من قِبَل أفراد مجتمع ضد أفراد مجتمع آخر، ويُنفَّذ هذا الاستخدام من قِبَل أفراد مُدرَّبين يعملون في فرق تُوجِّهها هيئة منفصلة تُعنى بصنع السياسات، وتدعمها فئات غير مقاتلة بوسائل مختلفة". (2)
وللحروب عدة أنواع:
- الحرب الأهلية أو الطائفية، وهي نزاع مسلّح بين أفراد داخل دولة واحدة؛
- حرب الاستنزاف التي تهدف إلى استنفاد قوى العدو وموارده؛
- الحرب العالمية التي تنخرط فيها عدة دول؛
- الحرب الخاطفة التي تتميز بالسرعة والمفاجأة وتعتمد على الهجوم الصاعق؛
- حرب العصابات التي تقع بين جيش نظامي وطرف غير نظامي يعتمد تكتيكات الإغارة والانسحاب؛
- الحرب الإعلامية والحرب النفسية، التي تمارسها الدول وأحيانًا الجماعات غير النظامية.
ومن تعريف الحروب يمكن الانتقال إلى شرح "أجيالها" والغوص في تفاصيلها، بدءًا من الجيل الأول وصولًا إلى الجيل الرابع.
حروب الجيل الأول
تُعدّ حروب الجيل الأول بداية الشكل المنظّم للصراعات بين الدول، وغالبًا ما يُشار إليها باسم "الحروب النابليونية" نظرًا لطابعها القائم على الحشود العسكرية الضخمة والتنظيم الصارم في صفوف وجبهات مواجهة واضحة.
تميّزت هذه الحروب بتكتيكات تقوم على حشد أكبر قدر ممكن من القوات في خطوط متقابلة، وتبادل النيران بشكل مباشر، حيث كان الهدف الأساسي هو السيطرة الميدانية عبر القوة العددية والانضباط العسكري.
بدأت مرحلة حرب الجيل الأول فعليًا عام 1648، وهو العام الذي وُقّعت فيه معاهدة وستفاليا، التي أنهت حربًا دامت ثلاثين عامًا في أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت، وأسست لمفهوم الدولة القومية الحديثة بحدود معترف بها، ورسّخت مبدأ السيادة الوطنية وحسن الجوار.
ومن أبرز الأمثلة على حروب الجيل الأول الحرب الأهلية الإنكليزية (1642–1651)، التي مثّلت نموذجًا مبكرًا للصراع بين السلطة الملكية من جهة والبرلمان من جهة أخرى. (3)
الحرب الأهلية الإنكليزية
اندلعت هذه الحرب بين الموالين للملك تشارلز الأول، حاكم إنكلترا وإيرلندا واسكتلندا، وبين الموالين للبرلمان الذين رفضوا سياساته المطلقة. وقد قسّمت الحرب المجتمع البريطاني على جميع المستويات السياسية والدينية والاقتصادية، وتمحور الصراع حول مسألة أساسية: من يحكم إنكلترا؟ الملك أم الشعب المُمثّل في البرلمان؟
حين اعتلى تشارلز الأول العرش عام 1625، كانت الجزر البريطانية تغلي بانقسامات دينية وسياسية واجتماعية متراكمة منذ أواخر عهد أسرة تيودور. ومع مرور الوقت، تفاقمت الخلافات بين الملك والبرلمان بسبب رؤيته المطلقة للسلطة، إذ كان يؤمن بمبدأ "الحق الإلهي للملوك" ويعتبر نفسه مفوضًا من الله للحكم بلا قيد أو مساءلة.
في المقابل، كان البرلمان قد بدأ يرسّخ دوره في الحياة السياسية من خلال صلاحيات فرض الضرائب وسنّ القوانين والمصادقة على النفقات العامة. هذا التناقض بين الطرفين فجّر الخلاف، خصوصًا بعد أن لجأ تشارلز إلى فرض ضرائب استثنائية دون موافقة البرلمان، وتمسّكه بخوض حرب خارجية ضد إسبانيا بين عامي 1625 و1629 رغم فشلها المكلِف.
وعلى الصعيد الديني، كانت إنكلترا تعيش انقسامًا بين الأنغليكانيين والبيوريتانيين (المطهّرين) وغيرهم من الطوائف البروتستانتية المعارضة لتوجهات الكنيسة الرسمية. وكان يُعتقد أنّ تشارلز الأول يميل إلى الكاثوليكية، خصوصًا بعد زواجه من الأميرة الكاثوليكية هنريتا ماريا ابنة ملك فرنسا، ما أثار الشكوك حول نواياه الدينية.
اقتصاديًا، شكّلت الضرائب التعسفية عبئًا ثقيلًا على الناس، وزادت النقمة الشعبية ضد النظام الملكي، بينما رفض البرلمان تمويل حروبه، فلجأ إلى القروض الإلزامية وسجن المعارضين.
كل هذه العوامل السياسية والدينية والاقتصادية تفاعلت وأدّت في نهاية المطاف إلى اندلاع الحرب الأهلية التي استمرت قرابة عقد من الزمن، وأسفرت عن مقتل أكثر من 200 ألف شخص، أي نحو 5% من سكان إنكلترا آنذاك. (4)
انتهت الحرب بإعدام الملك تشارلز الأول عام 1649 وإعلان الجمهورية بقيادة أوليفر كرومويل، في سابقة تاريخية أنهت حكمًا مطلقًا دام قرونًا. وبهذا، دشّنت الحرب الأهلية الإنكليزية أول تحول سياسي حقيقي نحو مبدأ سيادة الشعب على الحاكم، ما جعلها نقطة فاصلة في تطور مفهوم الدولة الحديثة.
حروب الجيل الثاني
برزت فكرة حرب الجيل الثاني عقب الثورة الصناعية التي أطلقت مرحلة جديدة في تطوّر أدوات القتال ووسائل التصنيع العسكري. فقد أتاحت تلك الثورة خيارات متنوّعة من القوة النارية، عبر تقنيات البخار والإنتاج الضخم، وتزامنت مع تطورات كبيرة في تصميم الأسلحة والمدافع و"السبطانة المخددة".
اعتمدت حروب الجيل الثاني على القوة النارية الهائلة وحشود الجنود لاحتلال أراضي العدو، إذ كان تحقيق النصر في ذلك العصر مرهونًا بقدرة الجيوش على السيطرة الميدانية الشاملة. في المقابل، بدأ مفهوم الفنّ العملياتي بالظهور في تلك المرحلة، ما أضفى عمقًا على ساحة المعركة ووسّع نطاقها، مع بروز أساليب "الاختراق العميق" التي استهدفت قلب الجبهة. وعلى المستوى التكتيكي، اتكأت حروب الجيل الثاني على مبدأ النيران والحركة، وكان شعارها الأساسي هو الاستنزاف، أي إنهاك العدو حتى ينهار.
وتعدّ الحرب العالمية الأولى أبرز مثال على حروب هذا الجيل، إلى جانب الحرب الأهلية الأميركية.
الحرب الأهلية الأميركية
أما الحرب الأهلية الأميركية، فقد اندلعت عام 1861 واستمرّت حتى عام 1865، ووقعت بين ولايات الشمال التي شكّلت "الاتحاد الفيدرالي" من جهة، وولايات الجنوب التي أطلقت على نفسها اسم "الكونفدرالية" من جهة أخرى. في البداية، ظنّ معظم الأميركيين أنّ الحرب ستكون قصيرة، لكن سرعان ما تحوّلت إلى صراع دامٍ حول قضايا جوهرية تمسّ وحدة البلاد ومستقبلها.
اندلعت الحرب بسبب الخلاف العميق بين الولايات الحرّة في الشمال وولايات الجنوب التي توسّعت فيها العبودية، حول مدى سلطة الحكومة الفيدرالية في حظر الرقّ داخل الأقاليم الجديدة التي لم تتحوّل بعد إلى ولايات. وعندما فاز أبراهام لينكولن في الانتخابات عام 1860 كأول رئيس جمهوري متعهّدًا بمنع انتشار العبودية، انفصلت سبع ولايات جنوبية شكّلت "الولايات الكونفدرالية الأميركية". رفضت إدارة لينكون ومعظم سكان الشمال الاعتراف بالانفصال، معتبرين أنه يقوّض الديمقراطية ويهدد بتفتيت البلاد إلى دويلات متناحرة.
استمرت الحرب أربع سنوات، وانتهت في ربيع عام 1865 عندما استسلمت الجيوش الكونفدرالية الرئيسية، وأُلقي القبض على الرئيس الكونفدرالي الهارب جيفرسون ديفيس في جورجيا. بذلك، انتهت الحرب وبدأت مرحلة إعادة بناء الولايات المتحدة كدولة موحّدة خالية من العبودية. (5)
كانت الحرب الأهلية الأميركية أعظم أزمة في تاريخ الولايات المتحدة، وأفرزت أعظم ثوراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، إذ أدت إلى إلغاء العبودية وترسيخ مفهوم الاتحاد. لكن الثمن كان باهظًا؛ إذ قُتل فيها أكثر من 625 ألف شخص، وكانت أكبر صراع دموي عرفه الغرب منذ نهاية الحروب النابليونية عام 1815 وحتى اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914. (6)
الحرب العالمية الأولى
أما الحرب العالمية الأولى، التي تعدّ ذروة حروب الجيل الثاني، فقد نشبت نتيجة تراكم أزمات سياسية وجغرافية متفجّرة، أبرزها التنافس على منطقة البلقان ومحاولة القوى الأوروبية إقصاء النفوذ العثماني منها. وقد سيطرت النمسا على البوسنة والهرسك عام 1908، مما فاقم التوتر في المنطقة. في المقابل، تنازعت فرنسا وألمانيا وإيطاليا على النفوذ في شمال إفريقيا، ما عمّق الخلافات بين الدول الكبرى. (7)
هذه العوامل شكّلت ما يُعرف بـ"الأسباب غير المباشرة للحرب"، إلى أن جاء الحدث الذي أشعل الفتيل: اغتيال ولي عهد النمسا فرانز فرديناند وزوجته الدوقة صوفي في يونيو/ حزيران 1914 أثناء زيارتهما لمدينة سراييفو على يد الشاب الصربي البوسني القومي غافريلو برينسِب. (8)
في تلك المرحلة، كانت مملكة صربيا تطمح إلى ضمّ البوسنة ذات الأغلبية الصربية، بينما كانت النمسا-المجر تعارض بشدة. وبعد الاغتيال، وجّهت النمسا إنذارًا إلى صربيا في 23 يوليو/ تموز 1914، طالبت فيه بقمع الدعاية المعادية للنمسا والسماح لها بإجراء تحقيق داخل الأراضي الصربية. (9)
رغم قبول صربيا بمعظم المطالب، قطعت النمسا العلاقات الدبلوماسية معها وأعلنت الحرب عليها في 28 يوليو، لتبدأ سلسلة التحالفات: دخلت روسيا الحرب دعمًا لصربيا، فأعلنت ألمانيا الحرب على روسيا ثم على فرنسا، وتبعتها بريطانيا بعد غزو ألمانيا لبلجيكا. وهكذا، انقسم العالم إلى معسكرين كبيرين:
- الأول ضمّ بريطانيا وفرنسا وروسيا وصربيا، ثم الولايات المتحدة ودولًا أخرى؛
- والثاني ضمّ ألمانيا والنمسا والمجر، ثم الدولة العثمانية وبلغاريا.
انتهت الحرب عام 1918 بتوقيع معاهدة فرساي عام 1919، التي كرّست هزيمة ألمانيا وحلفائها ووضعت أسس النظام الدولي الجديد.
حروب الجيل الثالث
تبلور مفهوم حروب الجيل الثالث نتيجة للزيادة الكبيرة في القوة النارية خلال الحرب العالمية الأولى. ففي عام 1918، طوّر الألمان هذا النمط الجديد من القتال حين أدركوا أن ضعف قاعدتهم الصناعية كان أحد أسباب هزيمتهم، فابتكروا تكتيكات تقوم على المرونة والمناورة بدل الاستنزاف، وعلى العمليات النوعية بدل النيران الكمية.
استندت هذه الحروب إلى مبدأ الحرب الخاطفة، حيث يُركّز الهجوم على عنصر المفاجأة والسرعة لاختراق دفاعات العدو وإرباكه قبل أن يتمكن من الرد.
ومن أبرز أمثلتها الحرب العالمية الثانية وحرب العراق.
الحرب العالمية الثانية
اندلعت الحرب العالمية الثانية في سبتمبر/ أيلول 1939 بعد غزو ألمانيا لبولندا بهدف توسيع إمبراطوريتها، لتدخل بريطانيا وفرنسا الحرب دعمًا لبولندا.
كانت تلك الحرب مؤلفة من جبهتين متداخلتين: الأولى في أوروبا وشمال إفريقيا، والثانية في أقصى الشرق، وقد بدأت في ديسمبر/ كانون الأول 1941 حين هاجمت اليابان قاعدة بيرل هاربر العسكرية الأميركية، ما دفع الولايات المتحدة إلى دخول الحرب رسميًا.
وفي عام 1945، ألقى الأميركيون قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان، فاستسلمت الأخيرة، لتختتم الحرب بانتصار ما عُرِف بـ"دول الحلفاء" (الولايات المتحدة، الاتحاد السوفياتي، بريطانيا، الصين، وفرنسا) وهزيمة دول "المحور" (ألمانيا، اليابان، وإيطاليا).
حرب العراق
بدأت حرب العراق في 19 مارس/ آذار 2003 عندما قررت الولايات المتحدة مهاجمة نظام صدام حسين، بعد تقارير استخباراتية تحدّثت عن تطوير أسلحة دمار شامل. أدّت الحرب إلى إسقاط النظام واعتقال صدام في أواخر 2003 داخل مخبأ بتكريت، ثم إعدامه عام 2006 بعد محاكمة علنية.
وفي عام 2010، أعلنت الولايات المتحدة انتهاء المهمة القتالية في العراق، لتُعلن في ديسمبر/ كانون الأول 2011 نهاية الحرب رسميًا.
حروب الجيل الرابع
يمثّل الجيل الرابع من الحروب نقطة تحوّل جوهرية في المفهوم العسكري، إذ لم تعد الحرب قائمة على الجيوش النظامية، بل على الصراعات اللامتماثلة التي تخوضها تنظيمات مسلحة أو جماعات غير حكومية ضد دول قائمة.
بدأت ملامح هذا الجيل بالظهور بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2011 على الولايات المتحدة، حين أدرك العالم أنّ الجيوش التقليدية عاجزة عن مواجهة خصم غير مرئي ولا يتقيّد بجغرافيا أو حدود. وبرزت لاحقًا هجمات مشابهة في لندن ومدريد أكّدت تغيّر طبيعة الحروب.
وكان أول استخدام لمصطلح "حروب الجيل الرابع" عام 1989 من قبل بعض القادة العسكريين الأميركيين حينما تحدثوا عن الحروب التي تعتمد على مبدأ "اللامركزية" وتقوم على عدم الحاجة لتحريك الجيوش النظامية لإجبار العدو على الاستسلام. (10)
تُعرَّف هذه الحروب بأنها صراع يهدف إلى إفشال الدولة وزعزعة استقرارها عبر استغلال أدوات غير عسكرية: الإعلام، الاقتصاد، الفساد الداخلي، ومنظمات المجتمع المدني، وشبكات التواصل الاجتماعي، وحرب المعلومات، وهي تسعى إلى تفكيك مؤسسات الدولة من الداخل عبر إنهاكها اقتصاديًا وأمنيًا، وتقويض الثقة بين المواطن والدولة، وإشاعة الفوضى الفكرية والسياسية والاجتماعية، حتى تنهار البلاد ذاتيًا. (11)
وما يجب معرفته هو أن "الحرب بالوكالة" تعتبر من أهم أدوات حروب الجيل الرابع من خلال تجنيد التنظيمات التي تأخذ الطابع المتطرف لتحقيق مخططات داخل الدول المستهدفة. مع هذا، تعتمد حرب الجيل الرابع بشكل أساسي على فكرة السيناريوهات والخطط المعدة مسبقاً لشن حرب نفسية وذهنية من داخل الدول المستهدفة، وذلك من خلال استغلال التطور التكنولوجي المذهل في وسائل الاتصال والإعلام.
وغالبًا ما تنتهي هذه الحروب بظهور جماعات متطرفة تتسلّم زمام السيطرة في مناطق الفوضى، لتتحول الساحة إلى حروب بالوكالة تخدم مصالح القوى الكبرى. وقد شهدت المنطقة العربية خلال العقدين الأخيرين أمثلة صارخة على حروب الجيل الرابع، لا سيما بعد الثورات العربية عام 2010، حين تحوّلت بعض الانتفاضات إلى صراعات مسلحة كما في سوريا وليبيا، وبرزت جماعات كـ"تنظيم الدولة" و"جبهة النصرة" التي استغلت حالة عدم الاستقرار والفوضى في المنطقة لتوسيع نفوذها.
حروب الجيل الخامس
بعد الجيل الرابع، برز ما يُعرف بـ"الجيل الخامس" من الحروب، وهو جيل يستهدف العقول والسلوكيات بدل الأجساد والجيوش. في هذا النمط، لا حاجة للأسلحة الثقيلة، لأن أساس هذه الحرب هو استخدام التكنولوجيا والدعاية من قبل الحكومات والمنظمات الدولية للتلاعب بعقول الناس.
وتعتبر الحرب النفسية من المكونات الرئيسية لهذا الصراع، في حين أن التطور التكنولوجي يمثل جزءًا لا يتجزأ من "حروب الجيل الخامس". أما الأخطر في هذه الحرب فهو أن ضحاياها غالبًا ما يجهلون أنهم جزءٌ من حرب، فالاستهداف يطال عقولهم. (12)
ويُعدّ الضابط الأميركي روبرت ديفيد ستيل أول من صاغ مصطلح حرب الجيل الخامس عام 2003، معتبرًا أنّ الجيل الخامس هو تطوّر طبيعي لنظرية الجيل الرابع التي طُرحت في ورقة بحثية مؤثرة كتبها ويليام ليند وآخرون، في مجلة مشاة البحرية عام 1989.
تركّز هذه الحروب على الحرب النفسية والمعلوماتية والهيمنة الإعلامية، بحيث يُخضع العدو من دون قتال فعلي، وهو ما وصفه الفيلسوف الصيني صن تزو بأنه "قمة المهارة".
وتتميّز حروب الجيل الخامس بأنها غامضة وغير مُعلَنة، والعنف فيها مشتّت أو مخفي، وتُظهر الأنشطة العدائية على أنها بريئة أو إنسانية، بينما هي تهدف إلى النظام السياسي والاحتماعي القائم ومواءمته مع الأهداف الأيديولوجية أو الدينية للمعتدي. (13)
حروب الجيل السادس
يُعتبر الجيل السادس أحدث مراحل تطور الحروب، وما يزال قيد التبلور، ويتمحور حول الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة لتحقيق التفوق العسكري.
وتستند هذه الحروب إلى مفهوم "الحرب الشبكية"، حيث تُدمج جميع الأنظمة العسكرية والرقمية في منظومة واحدة متكاملة تُدار عن بُعد ومن دون تماس مباشر.
تعتمد هذه الحروب على التقنيات المعاصرة، كالذكاء الاصطناعي، في صناعة أسلحة ذكية موجهة بدقة عالية، بحيث يمكن أن تصيب هدفًا بحجم غرفة صغيرة على بُعد ألف ميل. ومن ميزاتها أيضًا استخدام طائرات المراقبة والمركبات الجوية غير المأهولة في النزاعات بين الدول أو الجهات المسلحة غير الحكومية، مثل الطائرات من دون طيار.
بالإضافة إلى ذلك، تلعب الأقمار الصناعية العسكرية المنتشرة في الفضاء دورًا كبيرًا في حروب الجيل السادس، حيث تُستخدم في الغالب للاتصالات والملاحة وجمع المعلومات الاستخبارية، فيما جرى تطوير بعض الأقمار الصناعية للإنذار المبكر من اقتراب الصواريخ.
كما يتداخل فيها البعدان الاقتصادي والسيبراني، إذ تُستخدم الهجمات الإلكترونية والاختراقات المالية كسلاح استراتيجي لإضعاف الخصم. وتشمل أساليبها مهاجمة الشبكات والأنظمة المالية لتعطيل المعاملات التجارية والخدمات المالية، أو سرقة البيانات المالية أو الصناعية أو الحكومية لخلق أزمات اقتصادية، مما يؤدي إلى خسائر مالية كبيرة نتيجة الإضرار بمصالحها التجارية أو الصناعية.
هكذا، أصبحت حروب الجيل السادس مزيجًا من التكنولوجيا الفائقة والعمليات العسكرية المتقدّمة، لتشكّل نموذجًا جديدًا من الصراعات المعقدة التي تتجاوز حدود الميدان التقليدي. (14)
المراجع: