الثلاثاء 18 تشرين الثاني / نوفمبر 2025

سرقة حياة.. "العربي" يكشف خفايا ملف الأطفال المختفين في عهد الأسد

سرقة حياة.. "العربي" يكشف خفايا ملف الأطفال المختفين في عهد الأسد محدث 17 تشرين الأول 2025

شارك القصة

تحوّلت دور رعاية الأطفال في عهد الأسد إلى أدوات لإخفاء أبناء المعتقلين والمشردين
تحوّلت دور رعاية الأطفال في عهد الأسد إلى أدوات لإخفاء أبناء المعتقلين والمشردين- العربي
الخط
تتبّع "التلفزيون العربي" ملف أطفال دور الرعاية في عهد الأسد، ونقل شهادات مروّعة تكشف الوجه الآخر لمؤسسات كان يفترض أن تحمي الأطفال ودور أسماء الأسد في الجريمة

لا يستطيع أحد أن يُنكر حجم المفاجأة من سقوط نظام الأسد في 12 يومًا فقط من المواجهة التي فرضتها عليه قوات المعارضة السورية المسلحة.

ومع انهيار النظام، فُتحت كثير من الملفات التي مُنع الحديث عنها لسنوات طويلة. وكان أحد هذه الملفات دور رعاية الأطفال التي تحوّلت في عهد بشار الأسد إلى أدوات لإخفاء أبناء المعتقلين والمُشرّدين.

فبين ليلة وضحاها، وجد هؤلاء الصغار أنفسهم بهويات جديدة وأسماء لم يعرفوها من قبل. ومع بلوغهم سن الـ18، ألقى النظام السوري بهم في الصفوف الأمامية لمعاركه.

تتبّع "التلفزيون العربي" ملف أطفال دور الرعاية هذه ليكشف كيف بدأت القصة، وما الدور الذي لعبه النظام، وخاصة أسماء الأسد، في هذه الجرائم، وما هي الممارسات التي اتبعتها هذه الدور بحق الأطفال، وما هو دور المؤسسات الدولية في هذه القضية، وهل كان التواطؤ سيد الموقف.

حاول فريق التحقيق تعقّب أثر حالات خرجت من هذه الدور، والتقى عددًا من الضحايا الذين سردوا بداية القصة وحجم الانتهاكات التي تعرّضوا لها خلال السنوات التي قضوها بهويات مختلفة في تلك الدور.

روى علاء الرجوب، وهو أحد المقيمين السابقين في مجمع "لحن الحياة"، لـ"التلفزيون العربي" أنّه عاش مع والدته وجده وجدته بعد طلاقها من والده، لكن عند وفاة جده بيومين حضر أفراد من الأمن وأخذوه هو وخاله إلى مركز أمني. وبينما سُجن خاله، جرى نقله بعد شهر من توقيفه إلى "دار زيد"، حيث احتُفظ باسمه الحقيقي لست سنوات.

وأضاف أنه في سن الرابعة عشرة، جرى تزوير هويته وتغيير اسمه بالكامل. وفي عام 2013، نُقل إلى مجمع "لحن الحياة" في ضاحية قدسيا، حيث شعر بالصدمة والغربة بين أشخاص لا يعرفهم.

"تلاعب بالكنية والنسب وصار كل حدا من عيلة"

قصص ضحايا الاختطاف في دور رعاية نظام الأسد كثيرة، لكن التفاصيل التي حملتها قصة الأخوين عبيدة ومعاوية دفعت فريق التحقيق إلى لقائهما في بيروت.

شقيقان عاشا تجربة مريرة تفوق الخيال، بدأت فصولها في دار "لحن الحياة"، حيث جمعهما سقف واحد ويقين فطري بأنهما من دم واحد. ظل هذا اليقين ملاذهما الوحيد، حتى سُرقت أوراقهما، فضاعت معها هويتهما.

ويروي عبيدة حمدان، أحد المقيمين السابقين في المجمع، أنّ اسمه الحقيقي هو عبادة حسن، وأنّ لديه شقيقة اسمها نغم وشقيقًا يُدعى معاوية. وأضاف أنّه في عام 2015، جرى تزوير هويته من خلال التلاعب بكنيته ونسبه، كما هو الحال مع شقيقه وشقيقته، وأصبح لكل منهم كنية مختلفة عن الآخر.

بدوره، يؤكد معاوية حمدان أنّ عبادة هو شقيقه وأنّ نغم هي شقيقته، مضيفًا أنّه كبر في دار الأيتام، لكن عندما تفقد هويته وهويتي شقيقيه، تفاجأ بأن كنياتهم تغيّرت.

لم يعتمد فريق التحقيق على رواية الشقيقين فقط، بل حصل على تحليل للحمض النووي لهما، أكد بما لا يدع مجالًا للشك أنهما شقيقان فعلًا، وأنّ التزوير كان متعمّدًا وممنهجًا.

وفي إطار عملنا على هذه القضية، التقينا الصحفية الاستقصائية ميريلا أبو شنب، التي عملت على ملف أطفال دور الرعاية في عهد نظام الأسد، لتكشف لنا جانبًا من مأساة أبناء المعتقلين الذين يرسلون إلى الدور بشهادات أمنية تعبث بمصائرهم.

وقالت أبو شنب: "لم يخطر ببالي أنّ إجرام هذا النظام وصل إلى مرحلة أخذ الأطفال إلى دور الأيتام وتغيير نسبهم".

وشرحت أنّ وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل فتحت تحقيقًا في فروع "لحن الحياة"، حيث أكدت مديرة الدار ميس عجيب أنّ جهات أمنية كانت تأتي بالأطفال، بعضهم من أبناء المعتقلين، ليُصار إلى تغيير نسبهم داخل هذه الدور.

"لحن الحياة" غطاء للتلاعب بمصير الأطفال

ومع تكرّر اسم "لحن الحياة" خلال التحقيق، بحث فريق عمل التلفزيون العربي عن خلفيات الدار، حيث اتّضح أنّه هيئة مستحدثة ترتبط بوزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ومقرها في ريف دمشق، وتتولّى مسؤولية تنظيم قاعدة بيانات وطنية موحّدة لأطفال الدور، وتعمل على التنسيق مع الجهات العامة والخاصة لضمان توفير الرعاية اللازمة.

لكن ما اكتشفناه أنّ هذه البيوت كانت "مجرد غطاءٍ لاستمرار عمليات التلاعب بمصير هؤلاء الأبرياء"، كما يُوضح المحامي محمد ديب في لقاء مع التلفزيون العربي.

وشرح ديب أنّ القانون السوري ينص على أنّه "عند العثور على طفل مجهول الهوية، يجب إيداعه لدى وحدة الشرطة التي تُخاطب النيابة العامة لتقرّر إحالته إلى المستشفى، والتي تُلزم خلال 48 ساعة بإيداعه لدى دار لحن الحياة".

وأضاف أنّ المسؤول في دائرة "لحن الحياة" هو الذي يختار اسم الطفل واسم والده وجده وكنيته، أما مكان القيد فيُحدد وفقًا لمكان العثور عليه.

وأشار إلى أنّ عددًا من الأطفال وصلوا إلى الدور بعمر ست أو سبع سنوات، أي في عمر يدركون فيه أسماءهم الحقيقية وأنسابهم، ما يجعل تغيير الاسم والنسب ومكان الولادة انتهاكًا صارخًا لحقوقهم.

"خط أحمر"

من جهتها،

قالت أبو شنب: "لطالما قيل إنّ بيوت لحن الحياة هي خط أحمر وتابعة للقصر الرئاسي، والسيدة الأولى أسماء الأسد مسؤولة عنها، لذلك مُنعنا من دخولها كزائرين أو صحافيين".

وأضافت أنّ "هذا التحفّظ على دخولنا إلى الدور جعلنا نشكّك في عملها".

ولا يوجد إحصاء دقيق لحجم المأساة، إذ تُقدّر منظمات حقوقية محلية أنّ ما بين 3 و5 آلاف طفل جرى فصلهم عن عائلاتهم، أودع بعضهم في دور الأيتام الحكومية، بينما لا يزال مصير الكثير منهم مجهولًا بعد فقدان أثرهم بشكل تام.

أثناء عملنا على هذا التحقيق، استمع فريق التحقيق إلى شهادات مروعة كشفت فصولًا من الظلم والإهمال والانتهاكات النفسية والجسدية، التي أظهرت الوجه الآخر لمؤسسات كان يُفترض بها أن تحمي الأطفال، لكنها تحولت إلى أدوات لمحو الهويات وتكريس القمع.

سعى فريق التحقيق إلى الحصول على رد من بيوت "لحن الحياة" والتسجيل معهم حول هذه القضية إلا أنّ المؤسسة لم تتجاوب معنا ولم ترد على خطاباتنا حتى موعد بثّ هذا التحقيق.

"إيداعات أمنية"

في لبنان، التقى فريق التحقيق خالد مرعشلي، مدير جمعية "ضاحية قدسيا"، الذي أكد صحة ما يُعرف بـ"الإيداعات الأمنية" لأبناء المعتقلين، وهي قضية كان الحديث عنها من المحظورات.

وقال مرعشلي لـ"التلفزيون العربي" إنّ الجمعية حصلت على أدلة تؤكد أنّ الأجهزة الأمنية كانت تُقدّم "إيداعات أمنية" لعدد من الأطفال بشكل سري، بزعم أن والديهم موقوفان بتهم الإرهاب.

وأوضح أنّه بعد سقوط النظام، نشرت الجمعية بيانات كشفت وجود ما بين 400 و600 طفل من أبناء المعتقلين في مراكز الأيتام.

كما حصل فريق التحقيق على مستندات رسمية من بريد إدارة المخابرات الجوية في نظام الأسد منذ 15 يونيو/ حزيران 2012، تُظهر تورط الجهاز في ترحيل أطفال إلى دور الرعاية، ومنها مذكرة رقم 4513 بتاريخ 23 أبريل/ نيسان 2015، أوصى فيها رئيس الفرع بتسليم الطفلتين ريماس (4 سنوات) وروزين ماهر بلال (9 أشهر) إلى "ضاحية قدسيا".

كما ضمت لائحة بتاريخ 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2013 أسماء 32 طفلًا عراقيًا لدى فرع التحقيق، مقترحًا تسليمهم إلى ملجأ بريف دمشق.

وفي 7 نوفمبر 2015، تمّ تسليم الطفل محمد عبد الرحمن غبيس إلى جمعية المبرّة بعد رفض المستشفى إبقاءه، وقد ورد اسمه في بريد سابق بتاريخ 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 يقترح إيداعه بدار رعاية.

وقال ديب إنّ الأطفال بعمر ست سنوات أودعوا في دور الأيتام مع تغيير أسمائهم وكنياتهم، وتعرّضوا لانتهاكات جسدية، قبل أن يُرسلوا لاحقًا إلى القتال في سن الـ18.

"أرقام في جيش الأسد"

لم تكن هذه الانتهاكات سوى جزء من خطة لتجريد الأطفال من هوياتهم تمهيدًا لتجنيدهم إجباريًا. وعلى الرغم من أن القانون يمنع ذلك، فإنّ النظام زجّ بهم في أتون معاركه.

وحصل فريقنا على شهادات حصرية تكشف أنّ الكثير من أطفال دور الرعاية أُلقي بهم في أتون معارك النظام، ليُصبحوا مجرد أرقام في جيش الأسد.

وفي هذا الإطار، قال عبد الله بدرة، أحد الناجين، إنّ سلطات دار "لحن الحياة" غيّرت اسمه في سن الخامسة عشرة إلى "عبد الله العبد الله"، وفي سن التاسعة عشرة طلبوا منه تجهيز أوراق التجنيد، فرفض وهرب. وبعد القبض عليه، أنكرت الدار معرفتها به، فحوّلته الشرطة العسكرية إلى سجن صيدنايا حيث تعرّض للتعذيب ثم جُنّد قسرًا وأُرسل إلى إدلب دون أي أوراق ثبوتية.

كذلك، روى عدنان جاسم أنّه أُجبر على الخدمة الإلزامية رغم حالته الصحية الصعبة، وأُرسل مباشرة إلى جبهات القتال، فيما أكد عباس ياسر أنّ أسماء الرافضين للتجنيد عُمّمت على الحواجز، وأنّ من يُلقى القبض عليه يُرسل فورًا إلى الجبهات.

أما علاء الرجوب، فقال: "جمعت مبلغًا من المال وهربت إلى لبنان، لأنني لا أستطيع أن أقاتل مع جيش يقتل شعبه".

ما هو دور أسماء الأسد؟

أوضح المحامي ديب أنّ المادة 13 من المرسوم التشريعي 30 لعام 2007 تعفي من الخدمة العسكرية مَن هم في دور الأيتام، لأنهم يُعتبرون بمنزلة الشخص الوحيد. كما ينص القانون على إعفاء اللقطاء ومجهولي النسب من التجنيد الإلزامي.

يكشف تحقيقنا أنّ كل هذه الانتهاكات من خطف الأطفال إلى تجويعهم وتجنيدهم، تمت تحت مباركة أسماء الأسد التي لطالما حاولت تلميع صورتها كأمٍ للسوريين.

لكنّ الحقيقة كانت أبعد ما يكون عن ذلك. كانت السيدة الأولى تشرف على هذه الدور، تزورها بابتسامةٍ أمام الكاميرات، بينما الأطفال يُسحقون في الظل.

وفي هذا الإطار، قال مرعشلي: "لم نستطع الدخول إلى دور لحن الحياة، لقد كانت محصّنة ومدعومة من القصر الرئاسي، وكان بشار الأسد وزوجته يزورانها بانتظام".

وأضاف أنّ جمعيته كانت تُساعد الشباب الذين يهربون من هذه الدور بسبب استدعائهم للتجنيد الإجباري.

كيف تحوّلت "SOS" من منظمة إنسانية إلى شريك في مأساة أطفال سوريا؟

توصّل التحقيق إلى أنّ بعض المنظمات الإنسانية كانت شريكًا في الجريمة، أبرزها منظمة "SOS" التي تُقدّم نفسها كملاذ آمن للأطفال فاقدي الرعاية.

تقول المنظمة إنّها تتّبع معايير إنسانية موحّدة في جميع أنحاء العالم، مع مراعاة احتياجات كل مجتمع محلي.

لكن ما كشفه التحقيق أنّ المنظمة تورطت في التستر على جريمة فصل معتقلين عن أطفالهم، وفق اعتراف سابق قبل أن تعلن وقف هذه العمليات عام 2019.

وبذل فريق التحقيق محاولات عدة للتواصل مع مؤسسة "SOS" عبر البريد الالكتروني لمنحهم حقّ الردّ أو تقديم توضيحات حول هذه القضية. ولكن حتى بثّ هذا التحقيق لم يصلنا رد.

وشرحت أبو شنب أنّ "SOS" تُعرف بقرى الأطفال، وهي عبارة عن مجمع كبير يعتني بالأطفال الأيتام ويؤمن لهم الأسر البديلة. وعند انتشار قصة أطفال الدكتور الطبيبة رانيا العباسي الذين اعتقلوا معها ووالدهم عام 2013، وأكدوا أنّهم كانوا موجودين في "SOS"، كرّت المسبحة ووصلت الشكوك إلى "SOS".

من جهته، قال مرعشلي إنّه في كل مرة نقدّم فيها طلبًا رسميًا لوزارة الشؤون من أجل القيام بزيارة مركز الأيتام، كان طلبنا يُقابل بالرفض.

تمكّن فريق التحقيق من الحصول على وثائق تكشف رفض وزارة الشؤون الاجتماعية طلبات جمعية "ضاحية قدسيا" الخيرية لزيارة مراكز الأيتام بهدف تقديم مساعدات إنسانية، وهو ما يؤكد ما قاله مرعشلي.

وأوضح مرعشلي أنّه أصبح يتواصل مع رؤساء المراكز من أجل مدنا بعدد الأطفال الموجودين في دور الأيتام لتقديم المساعدات لهم.

وأشار إلى أنّه زار مركز "SOS" عام 2017  في الصبورة، وقمنا بتصوير الأطفال من أجل غاية إنسانية بحتة، إلا أنّنا وصلنا إلى طفل نُشرت صوره على فيسبوك على أنّه مختفٍ، وتواصلنا مع عائلته عن بعد وأبلغناهم بالأمر، شريطة أن لا يتمّ ذكر اسمنا في القضية".

وأضاف مرعشلي: "حضرت الجدة والخال من السعودية، من دون علم مني أنّ والدته ووالده معتقلين، واستلموه بطريقة صعبة جدًا عبر القضاء".

ويبدو أنّ أحد الموظفين أفصح للسلطات أنّنا المسؤولين عن هذا الأمر، فتعرّضت جمعيتنا "ضاحية قدسيا"  للقمع.

في أعقاب سقوط نظام الأسد، تسارعت وتيرة الكشف عن هذه الجريمة، مع ظهور سيل من الشهادات المؤثرة للضحايا وذوي المختطفين على منصّات التواصل الاجتماعي.

استجابةً لهذه الأصوات، أعلنت السلطات السورية الجديدة في يوليو/ تموز 2025 عن اعتقال الوزيرتين السابقتين للشؤون الاجتماعية والعمل كندة الشماط وريما القادري.

وشملت الاعتقالات عددًا من المسؤولات في دُور الرعاية، ضمن التحقيقات الرسمية التي بدأتها الإدارة الجديدة لكشف جرائم فصل الأطفال قسرًا عن ذويهم.

تابع القراءة

المصادر

التلفزيون العربي
تغطية خاصة