لم تكن الموهبة بل الجمال الأخّاذ الذي فتح لسُلاف فواخرجي أبوابًا كان يمكن أن تُغلق لو كانت موهوبة وحسب، وليس ثمة ما يعيب، فاللعبة كلها تقوم على الإيهام، فأنت على المسرح أو الشاشة "آخر"، لا الاسم اسمك ولا الذكريات، كأنك قناع لآخر يستولي عليك ما إن تتقمصه.
هل تستعيد سلاف فواخرجي وجهها، أم كان ذلك الذي قدّمته في عشرات المسلسلات التلفزيونية، حيث الفتاة بالغة الجمال والبراءة معًا، مجرّد قناع ينتقل معها حين يتوقف التصوير، حين تعود إلى البيت، حين تكبر في العمر، وتتزوج وتنجب، وتتجنّب التدخل في مباذل الناس وصراعاتهم مع الفقر والرغيف والشعور بالأمان في منازل بلادها وشوارعها؟

هل كان القناع الذي تلبّس وجهها وأخفاه حتى عنها، يحميها؟ البراءة المتوهمة؟ التعالي الرقيق المكتفي بنفسه، الذي لا ينتظر الإطراء لأن ثمة إشباعًا هنا، يوفّره القناع الذي يدفع الآخرين للتوقف بدهشة، كأنما كريستال يتلوى أمامهم فيُبهر ويسحر لكنه من فرط جماله يقيم الحدود مع الآخرين، يدفعهم خطوة إلى الوراء، فلا أحد يجرؤ على لمسه كي لا يتكسّر ويتشظى ليظهر خلفه ما جهد القناع لإخفائه.
في 29 أبريل/نيسان 2011 كانت سلاف فواخرجي في ذروة صعودها الفني، في الرابعة والثلاثين من عمرها، وكان عليها أن تشدّ القناع على وجهها أكثر، أن تحافظ على تعاليها، انفصالها عن الذبيحة التي تبكي في الجوار.
وهو ما فعلته بمزيد من الهروب، من الأقنعة، فعلى وجه الطفلة البريئة أن يظل كذلك، تلك التي يتودّد إليها ضيوف العائلة، وتفاخر بها الأم التي تطلب من الشقيقة الأخرى إذا وُجدت أن تصنع القهوة للضيوف، فليست هذه مهمة هذا الوجه الجميل الذي نخرج به إلى الناس، ونقول أنظروا ما أجمله، ولدينا أيضًا في الحديقة شجرة تفاح إذا أحببتم وعرّيشة عنب إذا رغبتم بجلسة حميمة في الغروب.
الواقع لم يكن إنشاءً. كان ثقيلًا وقاسيًا، فلا حديقة فيها شجرة تفّاح وعرّيشة تتدلى منها عناقيد العنب، بل ثورة شعبية على الرئيس وأطفال يُقتلون في الشوارع.
نداء الحليب
في 29 أبريل/ نيسان 2011، تجتمع بضعة فنانات ومشتغلات في الدراما السورية ويصدرن بيانًا قصيرًا عن درعا، وهي محافظة في الجنوب السوري كانت مهد الثورة على نظام الرئيس السابق بشّار الأسد، فما كان من الأخير أن عاجلها بالقمع والحصار، وشمل ذلك منع الإمدادات الغذائية عنها، ومنها الحليب.
وجاء البيان ليناشد برفق، بغضب واستهجان لكن برفق، فهؤلاء أهلنا وأطفالهم أطفالنا، وليس أقل من أن ندعو وإذا اقتضى الأمر نتوسل أن يضع رأس السلطات نهاية لهذا اللا معقول الذي انتقل من خشبة المسرح إلى محافظة درعا.

البيان الذي وقّعته منى واصف ويارا صبري ورشا شربتجي وكندا علوش وأخريات يعتبرن من أفضل المواهب التي عرفتها الدراما العربية على الإطلاق، ووجه باستنكار بشع وبذيء ممن يدينون في صعودهم بالكثير للنظام نفسه.
خرج زهير عبد الكريم (ممثل سوري) ليقول إن أي فنان لا يعلن ولاءه للدولة خائن، أما المخرج نجدت أنزور فتقدّم خطوات إلى الأمام في هجومه على الموقعين على البيان المعنون بـ"نداء من أجل أطفال درعا" وعُرف على نطاق واسع ببيان الحليب، داعيًا إلى مقاطعة كل الفنانين الذين وقّعوا عليه، وكانت دعوة أنزور هذه مدعومة بنحو عشرين شركة إنتاج، ما يعني إعدامًا بدم بارد لكل فنان وقّع على البيان.

كان للبيان وقع الزلزال، حيث جنّدت السلطات السورية كل أدواتها الإعلامية ضد الموقّعين عليه، واستضافت كثيرين لم يتورّعوا عن قذف الموقّعين بأقذع العبارات.
وعندما استضاف التلفزيون الرسمي الفنانة سلاف فواخرجي، وكان ذلك في الرابع من مايو/أيار 2011 لم تتحدث ولو بكلمة واحدة عن أطفال درعا، بل استنكرت ما وصفته بالهجوم عليها كونها مع النظام والرئيس (بشّار الأسد)، وقالت إنها تفتخر بأنها مع بلدها ومع النظام، الذي يعني كما قالت منظومة تشمل الشعب والقيادة، وقالت إنها تخاف على بلدها مثلما تخاف على أطفالها.
لكن ماذا عن أطفال الآخرين؟
لم يسألها مذيعا التلفزيون الرسمي اللذان أجريا معها المقابلة، ولا هي تطوعت وتحدثت.

كانت سلاف فواجرخي تشدّ القناع على وجهها خشية أن يسقط فيظهر وجهها الحقيقي، لا ذلك الذي يُقدّم للآخرين، لكن شدّه المرة تلو الأخرى كان يجعله ينزلق بعض الشيء، فيُظهر جزءًا من وجهها الحقيقي.
وجه امرأة لا تُعنى بشيء سوى نفسها، برغبة جارفة بأن تتعالى وتبتعد، بأن تغمض عينيها فتفتحهما فإذا هي ليست مضطرة لاتخّاذ موقف قد تدفع ثمنه، وهي التي تعوّدت أن تقبض الأثمان، وأن يُباهي بوجهها الجميل عندما تستقبل العائلة ضيوفًا جاؤوها عصرًا: أنظروا ما أجمل هذا الوجه، ولديهم أيضًا شجرة تفّاح في الحديقة، وعرّيشة عنب يشربون تحت ظلها الشاي في المساء.

فرّ الأسد فهربت فواخرجي
في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 استيقظ العالم على دخول قوات المعارضة السورية العاصمة دمسق، وفرار الرئيس السابق بشّار الأسد إلى موسكو، في هذا الوقت كانت فواخرجي تبحث عن سبل الفرار هي أيضًا.
وفي مقابلة صحافية تسرد فواخرجي هروبها من بلاد قالت إنها تخاف عليها مثل أولادها: "كنت بالسيارة مع زوجي وابني الصغير وتوجهنا للمطار لكن بمجرد وصولنا أخبرونا أن الرحلات تم تعليقها"، فماذا تفعل؟ تجيب: "أخذنا الطريق البري باتجاه لبنان، وكانت هناك فوضى عارمة ومسلحون وإطلاق نار، وأيقنت أنني سأموت برفقة عائلتي لأن الرصاص كان كثيفًا، وقُتلت عائلات كانت خلفنا".

إذ ذاك تتذكر ابنها، وهو يعيش في الخارج وليس درعا، وتقول: "تواصلت مع ابني الذي يدرس الطب في الخارج، وأخبرته أننا سنموت وأوصيته على نفسه". وبعدها "توجهنا إلى مصر، وأخذت قراري المؤجل بالاستقرار في مصر في هذه المرحلة".
لماذا هربت فواخرجي تحت جنح الظلام؟ "لأن البرابرة قادمون".
يوميات الذعر من الثورة على الأسد
تكتب فواخرجي في حسابها على موقع إكس ما يصلح أن يكون مذكرات الذعر الذي انتاب مؤيدي الأسد بينما كانت المعارضة تتقدم باتجاه العاصمة.
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 2024 تكتب:
بعد غزة وجنوب لبنان، انتقل الصهاينة إلى حلب العظيمة، وبدأوا قصف المدينة الجامعية في حلب، حيث أطفالنا وأولادنا وطلابنا، حيث استشهد البعض وأصيب البعض. ثورة مباركة باسم إسرائيل المزعومة، ولم ينسوا في خضم معركتهم الفاشلة أن يكتبوا لنا لنجهّز النقاب، أو السبي أو النحر لا محالة.
في 30 نوفمبر تكتب:
"إرهابيون من دول العالم جاؤوا من 14 عامًا وسرقوا حريتنا وأماننا، وعادوا الآن لتطهير بلادنا من المسلمين المخطئين. أتوا لنصرة دينهم الحق، ولفرض إمارتهم الدينية في جلب الحضارة وتقديم الطاعة لخليفتهم، والولاء لشيوخهم الذين حيّوهم على الجهاد، وأفتوا على أرضنا بينما غابت عنهم الفتوى في غزة".
في 1 ديسبمبر/كانون الأول تكتب باختصار:
"بشائر الفتح المبين. في بعض شوارع حلب وبيوتاتها الآمنة، تكسير شجيرات الميلاد ولم تتحضّر بعد، وتحطيم تماثيل السيدة العذراء عليها السلام".
في 6 ديسمبر:
"حماة الديار، ثقتنا فيكم كبيرة. إنتو جيش البلد. إنتو إحنا والكل بالكل. تضحياتكم يلي قدمتوها خلتنا مكملين، حياة وفكر وعمل، والدم يلي راح فدا هالأرض غالي كثير. وحياة هالدم ما رح نسمح سوريا تضيع. إنتو جيشنا ونحنا جيش وراكم، إيمان وعقيدة وثقة".
في 14 ديسمبر:
"دولة الاحتلال الآن على بعد 12 كيلومتر فقط من الطريق الدولي بين دمشق وبيروت، بعد أن توغلت كما يحلو لها في الجولان المحتل وقرى القنيطرة ومناطقها الأثرية ومنابعها المائية، ودخلت بعض قرى درعا وطلبت إلى الأهالي تسليم سلاحهم إن وجد، وإخلاء منازلهم. ولا حياة لمن تنادي".
فواخرجي تمنت "استشهاد" الأسد
ألا يتحمّل الأسد المسؤولية؟ ولماذا هرب ولم يقاتل؟
تجيب فواخرجي التي تقول إنها قابلت الأسد أربع مرات، إنها كانت تتمنى "استشهاده لأن الحياة وقفة عز"، ولكن لو بقي كان سيلاقي نفس مصير معمر القذافي من التنكيل قبل القتل. تقول ذلك فراخرجي رغم أنها لا تعرف كما ترى ما إذا كان قد هرب من تلقاء نفسه أو أُجبر على ذلك.

لكنه "شريف"، وفق فواخرجي في مقابلة صحافية، وكان يجب أن يُحاكم "إن كان يستحق ذلك لكن بشرط وجود قضاء وقانون وعدالة"، فقد قدّم في رأيها ما يستحق الشكر "على الكثير من الأشياء المهمة التي فعلها للبلد على مدى سنوات طويلة، وما قدّمه من إصلاحات اقتصادية وفنية، والكثير من الإنجازات على صعيد الدولة والبناء".
هل ارتكب مجازر في موازاة إنجازاته؟ لا، تؤكد فواخرجي فـ"بشار الأسد لم يقم بذلك بشكل شخصي"، وهو "لا يعرف ما يفعله الرجالات في محيطه"، وفق قولها.
الأسد "شديد الاحترام والتهذيب"
هو أيضًا، في رأي سلاف فواخرجي، غير مسؤول عن التحقيق مع الفنانين المعارضين أو تعذيبهم واعتقال عائلاتهم، بل إن ذلك لم يحدث أصلًا فـ"الدولة أذكى من التعامل مع فنان معارض بشكل انتقامي فردي".
كما أنه غير مسؤول عن قصف المدن والبلدات السورية بالسلاح الكيميائي والبراميل المتفجرة، وهو أيضًا لا يقف خلف مجازر الحولة والغوطة وخان شيخون وموت الآلاف تحت التعذيب، "فليس كل ما قيل صحيحًا، وهناك مشاهد مفبركة نسبت للنظام السوري لكنها كانت من صنيع داعش".

إنه "رجل شديد الاحترام وشديد التهذيب وبسيط". تقول فواخرجي جازمة، إذ لا يمكن لمن (الأسد) سمح لها بالدخول إلى قاعة الاجتماعات قبله عندما قابلته، أن يفعل كل ما سبق ذكره.
من هي سلاف فواخرجي؟
فنانة سورية ولدت في مدينة اللاذقية على الساحل السوري عام 1977، لأب من مؤسسي حزب البعث في سوريا وأم كاتبة (ابتسام أديب).
درست الآثار في كلية الآداب قسم الآثار في جامعة دمشق عام 1998، كما درست الفنون التشكيلية والنحت الضوئي، والتحقت بالجامعة عام 2017 لدراسة اللغة "الآرامية"، وتعيش حاليًا في القاهرة، حيث وجدت الأمان والدعم ومحبة الناس، كما كتبت في حسابها على منصة إكس.
أي وجه وأي قناع ستضعُ في القاهرة؟ هناك ليس ثمة حديقة في البيت، فيها شجرة تفّاح وعريشة عنب، حيث كان يحلو للعائلة أن تستقبل ضيوفها تحت ظلالها عصرًا. عندما يأتون كانوا ينظرون إلى الفتاة ذات الوجه الجميل، بملامحها البريئة، فيتسمّرون قليلًا وهم يُطرون جمالها.
الأم كانت تنظر بسعادة إلى الفتاة التي عليها أن تشدّ القناع على وجهها كثيرًا ومرارًا عندما تكبر.