الأربعاء 9 تموز / يوليو 2025
Close

سينما خيري بشارة.. واقعية خشنة واندفاعة تجريبية كبرى

سينما خيري بشارة.. واقعية خشنة واندفاعة تجريبية كبرى محدث 28 حزيران 2025

شارك القصة

خيري بشارة احد رموز موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية-فيسبوك
خيري بشارة احد رموز موجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية-فيسبوك
الخط
تعتبر رواية "الطوق والإسورة" ذروة إبداع كاتبها يحيى الطاهر عبد الله، ويحتل الفيلم المأخوذ عنها المرتبة ال 20 في قائمة أفضل مئة فيلم مصري، ويعتبر أفضل أفلام خيري بشارة على الإطلاق

يفتتح يحيى الطاهر عبد الله (1938- 1981) روايته البديعة "الطوق والإسورة" باستذكار مرهف، حزين، لابن يسافر إلى السودان وهو صغير، وتمر الأعوام ولا يعود، تاركًا أمه واسمها في الرواية "حزينة" في انتظار لا ينتهي: 

"عقل حزينة مع ابنها هناك في البلاد البعيدة، وأذنها اليمنى التي تسمع هنا مع الحمام الذي يهدل: المُلك لله.. المُلك لله".

تُعتبر "الطوق والإسورة"، وهي رواية قصيرة (نوفيلا)، عدد صفحاتها نحو خمسين صفحة، العمل الأكثر شهرة لكاتبها، بلغته الشعرية ورموزه الميثولوجية والأنثروبولوجية.

يحيى الطاهر عبد الله شاعر القصة القصيرة المصرية-فيسبوك
يحيى الطاهر عبد الله شاعر القصة القصيرة المصرية-فيسبوك

كتبها عام 1975، وهو في السابعة والثلاثين من عمره، قبل وفاته المأساوية في حادث سير على طريق القاهرة- الواحات عام 1981.

ورغم قِصر مسيرته الأدبية، فقد ترك أثرًا بالغًا في القصة المصرية الحديثة، واعتُبر من أبرز وجوه ما بعد نجيب محفوظ في الرواية، ويوسف إدريس في القصة القصيرة، إلى جانب أسماء مثل جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم وإبراهيم أصلان ويحيى الطاهر عبد الله ويوسف القعيد وسواهم، ممن تسيّدوا فيما بعد صدارة النثر المصري لعقود.

تميّز يحيى الطاهر بلغته الشعرية حتى وُصف بـ"شاعر القصة القصيرة المصرية"، وهو وصف أطلقه عليه الروائي إدوار الخراط.

"الطوق والإسورة" بين الرواية والفيلم

تدور أحداث الطوق والإسورة في ثلاثينيات القرن الماضي بقرية الكرنك في الأقصر، مسقط رأس الكاتب، وتتناول مصائر ثلاث نساء في صعيد مصر، في بيئة يهيمن عليها العجز والتكرار، حيث تتكرر النهايات وتتلاقى المصائر، ضمن رؤية يتداخل فيها ما هو اجتماعي راهن بما هو ميثيولوجي وأنثروبولوجي.

 

يعاين "الطوق والاسورة" المصائر البائسة لثلاث نساء في الصعيد (الصورة لشريهان)-فيسبوك
يعاين "الطوق والاسورة" المصائر البائسة لثلاث نساء في الصعيد (الصورة لشريهان)-فيسبوك

وتحضر الأرانب بقوة في الرواية والفيلم لاحقًا (من إنتاج عام 1986) رمزًا للرغبة الجنسية والتكاثر، في بيئة عاقر يعاني رجالها من العجز الجنسي، ومجتمعها من الانشداد إلى الماضي وتكراره والعجز عن الخروج عليه أو تغييره.

وكما بدأت الرواية باستذكار الغائب، يفعل الفيلم الشيء نفسه. طير أبيض على الحائط وفتاة تغني للغائب الذي لا يعود:

"آه يا لالالي

آه يا لالالي

ع اللي تغرّب بعيد

ولا قال لي"

وكما تعتبر رواية "الطوق والإسورة" ذروة إبداع كاتبها يحيى الطاهر عبد الله، فإن الفيلم الذي احتل المرتبة العشرين في قائمة أفضل مئة فيلم مصري يعتبر أفضل أفلام مخرجه خيري بشارة على الإطلاق، على تميّز أعماله الأخرى، وأهمها "يوم مُرّ.. يوم حلو" الذي أدت دور البطولة فيه فاتن حمامة، و"العوّامة 70" و"رغبة متوحشة".  

وربما يعود جزء كبير من تميّز الفيلم بالإضافة إلى موهبة مخرجه المعروف بنزعاته التجريبية وسعيه إلى تجسير الفجوة بين الفنية العالية ومتطلبات التلقي، إلى نص يحيى الطاهر عبد الله، المكثّف، وشعريته العالية، إضافة إلى أنه كُتب على شكل مقاطع جعلته يبدو للوهلة الأولى مفكّكًا، لكنه كُتب بما يشبه تقنية التقطيع في عملية المونتاج السينمائي، أو كتابة المشاهد المنفصلة والمتصلة في الوقت نفسه في سيناريوهات الأفلام السنمائية والدراما التلفزيونية.

أرانب ومقاربة أنثروبولوجية

احتفظ بشارة ببنية الرواية الأصلية وتفاصيلها، وقاربها برهافة سينمائية تتوازى مع رهافة أحداثها ومشاعر شخوصها، بلغة بصرية بديعة، متمهلة، تحفل بأدق التفاصيل، زاوجت ما بين المقاربة الشعرية والواقعية الخشنة.

ويُحسب للمخرج التفاته إلى الرموز الكبرى في الرواية، مثل الأرانب التي ترمز إلى الخصب والتوالد، والتي وظّفها على نحو خلّاق بما يتوازى والأحداث والانتقالات الكبرى في حياة شخوص فيلمه، وخاصة النساء.

الارانب ورموز الخصب والتوالد في الطوق والاسورة-فيسبوك
الارانب ورموز الخصب والتوالد في الطوق والاسورة-فيسبوك

في الفيلم ثمة ثلاث نساء: الجدة "حزينة" والابنة "فهيمة" والحفيدة "فرحانة"، ورجلان: الأب المريض والابن مصطفى، ويؤدي دورهما ممثل واحد (عزت العلايلي) بينما تؤدي دور الابنة والحفيدة ممثلة واحدة أيضًا شيريهان في أفضل أدوار عمرها على الإطلاق.

ويعود ذلك على الأغلب إلى رؤية المخرج ومن قبله كاتب الرواية، فرغم مرور الزمن إلا أن شخوص الرواية والفيلم يكرّرون الفعل نفسه، وهو مرتهن للماضي والتقاليد وأسير خرافات تقذف القرية وسكانها خارج الزمن، فما الضير لو أدى دور الأب والابن ممثل واحد؟!. 

تقارب الرواية والفيلم مفهوم الشهوة البدائية إذ يصطدم بالثقافة الذكورية والخرافة، لذلك نعثر على الأرانب تتقافز في مقاطع كثيرة من الفيلم، فهي ترمز إلى الرغبة والجنس والتكاثر من جهة، وإلى الأنوثة أو المرأة التي ستُذبح كما الأرانب لا إشباعاً للجوع، بل تطهيراً لما يسمى بالشرف، وإشباعاً للنرجسية الذكورية الجريحة.

أما لماذا الطوق والإسورة فلأنهما قيود تكبّل ولا تُجمّل، وهو ما يختصره مصطفى الابن عندما يعود من غربته ويجد القرية كما تركها تمامًا، بقوله:

"الواحد منا يسافر... يسافر... والغربة تفك قيوده، فيتحرّر من الطوق. يكبر ويوعى ويقطع السلاسل، ولما يرجع لداره، لناسه، يكتشف الوهم. الأساور في اليد أقوى من زمان، والطوق على الرقبة أضيق من زمان، والجذور هنا، الجذور قوية ومادّة في الناس".

بشارة.. وصدمة التلقي الفاتر

يقول خيري بشارة في إحدى المقابلات إنه ظن أن "الطوق والإسورة" كان فيلمًا شعبيًا أو جماهيريًا، وإنه "حيكسر الدنيا"، لكن الناس نظرت إليه على أنه فيلم غريب لا أكثر، وهو ما صدمه.

يضيف "كدت أموت، ولم أتوازن إلا عندما ذهبتُ إلى فرنسا، واحتفى بي المخرجون العرب هناك، عندها فقط بدأت استعيد معنوياتي. لا أستطيع أن أحكم على نفسي بأني أجدّد، وأغيّر، وأتمرّد.. وذلك ليس من واجبي". 

محمد منير وسيمون في "يوم مر.. يوم حلو"-فيسبوك
محمد منير وسيمون في "يوم مر.. يوم حلو"-فيسبوك

رد فعل الجمهور دفعه إلى التراجع عن نزعاته التجريبية وسقوفه الفنية العالية، خاصة بعد "يوم مر.. يوم حلو" الذي أخرجه عام 1988، ما أدخل مسيرته السينمائية منذ ذلك الوقت في خانة من التسويات التي لا تنتهي، واضطره إلى تنفيذ أعمال سينمائية أو تلفزيونية محكومة بهواجس الانتشار الجماهيري لا إنتاج ذروات فنية كما فعل في "الطوق والإسورة" و"يوم مر.. يوم حلو" و"العوامة 70" و"رغبة متوحشة".

يوم مر.. يوم حلو

أُنتج فيلم "مر.. يوم حلو" عام 1988، بالهواجس نفسها التي حكمت فيلم "الطوق والإسورة"، لكن بواقعية خشنة أكثر، ويتناول حياة عائلة فقيرة جدًا تعيش في أحد أحياء شبرا، وتتكوّن من الأرملة (فاتن حمامة) وبناتها الأربع وابنها الصغير. 

الواقعية الخشنة في "يوم مر.. يوم حلو" لخيري بشارة-فيسبوك
الواقعية الخشنة في "يوم مر.. يوم حلو" لخيري بشارة-فيسبوك

هنا، الفقر طاحن ويكاد لا يُتخيّل، لكنّ ثمة أفراحًا صغيرة وقليلة تلتمع وسط عتمته، وكما في "الطوق والإسورة" حيث ثمة أب عاجز وابن غائب فإن الأب غائب في "يوم مر.. يوم حلو" إضافة إلى انشغال خيري بشارة في الفيلمين بالمصائر البائسة للنساء في بيئات ذكورية تدفع النساء إلى الانتحار (لمياء في "يوم مر.. يوم حلو" وتؤدي دورها سيمون) أو التعرّض للقتل بدواعي الدفاع عن الشرف (فرحانة وتؤدي دورها شريهان في الطوق والإسورة).

شكّل الفيلم انعطافة حاسمة في مسيرة بشارة، ويروي في إحدى الحوارات التي أجريت معه أنه صادف أحد المشاهدين الذي أخبره أنه تعرّض لذبحة صدرية بعد مشاهدة فيلمه وفيلم "احلام هند وكاميليا" لمحمد خان، ما جعله يفكر في تغيير مساره السينمائي، والتخلي عن واقعيته الخشنة أحيانًا، خاصة أنه كان يرغب أن تدفع أفلامه "لتغيير الناس لا دفعهم للمرض أو الصدمة"، وهو ما فعله في أفلامه اللاحقة مثل "كابوريا" و"حرب الفراولة" و"أمريكا شيكا بيكا" و"إشارة مرور". 

خيري بشارة مع محمد خان-فيسبوك
خيري بشارة مع محمد خان-فيسبوك

كما شهدت هذه المرحلة توجّه بشارة إلى الدراما التلفزيونية، حيث أخرج عدة مسلسلات لم تُضف إلى رصيده الفني الكثير، بل بدت استمرارًا باهتًا لما أنجزه سينمائيًا.

ومن هذه المسلسلات "مسألة مبدأ" و"ملح الأرض" و"قلب حبيبة" و"ريش نعام" و"الفريسة والصياد"، وأحد أجزاء مسلسل "بنت اسمها ذات"، إضافة إلى "الزوجة الثانية" و"لعنة كارما". 

بولندا.. والواقعية الجديدة 

ولد خيري بشارة في عام 1947، ونشأ في أحد أحياء شبرا في القاهرة، وكان يحلم في مراهقته بأن يصبح ممثلًا لكن سخرية أحد اقربائه من حلمه جعلته يصرف النظر عن حلمه هذا، إلى أن قرأ كتابًا مترجمًا عن أهم شخصية في السينما، وهي صانعها (المخرج) فعاد إليه حلمه مجدّدًا، والتحق بالمعهد العالي للسينما بالقاهرة، وتخرّج منه عام 1967.

وتوجّه عام 1968 إلى بولندا في بعثة دراسية، حيث تتلمذ على أيدي كبار السينمائيين البولنديين، ومنهم المخرج أندريه مونك الذي كان عميدًا لمعهد لودز السينمائي، وهناك عمل مساعداً للمخرج البولندي الكبير كافاليروفيتش، كما تابع أعمال أبرز السينمائيين البولنديين مثل أندريه فايدا، ومن تلك التجربة اكتسب ميله إلى التجريب واهتمامه بالواقعية الجديدة. 

خيري بشارة خلال اخراج "كابوريا"-فيسبوك
خيري بشارة خلال اخراج "كابوريا"-فيسبوك

وكانت أولى تجارب بشارة في السينما التسجيلية، حيث أخرج فيلم "صائد الدبابات"، وهو عن أحد أبطال حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973، الذي قام بتدمير 23 دبابة للجيش الإسرائيلي خلال الحرب.

وأخرج بعده أكثر من 10 أفلام تسجيلية ووثائقية أخرى، إلى أن بدأ مغامرته في الأفلام الروائية بفيلم "الأقدار الدامية" الذي عُرض عام 1982، ثم "العوامة 70" من بطولة أحمد زكي.

ومن أفلامه الأخرى "الطوق والإسورة" - 1986، "يوم مر ويوم حلو" - 1988، "كابوريا" - 1990، "رغبة متوحشة" -1991، "آيس كريم في جليم" - 1992، "أمريكا شيكا بيكا" - 1993، "إشارة مرور" - 1995، قشر البندق - 1995. 

تابع القراءة

المصادر

خاص موقع التلفزيون العربي