الثلاثاء 23 أبريل / أبريل 2024

شاهدة على "مأساة" مي زيادة.. "العصفورية" قصة فريدة من تاريخ لبنان

حتى اندلاع الحرب التي هجّرت نزلاءها، شكّلت مستشفى العصفورية قبلة للباحثين عن العلاج من لبنان والعالم
حتى اندلاع الحرب التي هجّرت نزلاءها، شكّلت مستشفى العصفورية قبلة للباحثين عن العلاج من لبنان والعالم
شاهدة على "مأساة" مي زيادة.. "العصفورية" قصة فريدة من تاريخ لبنان
شاهدة على "مأساة" مي زيادة.. "العصفورية" قصة فريدة من تاريخ لبنان
الخميس 2 فبراير 2023

شارك

اتخذت العصافير مقرًا على تلّة بجوار العاصمة بيروت، فعُرفت تلك الرقعة من جبل لبنان بأرض العصفورية. 

المكان نفسه تحوّل نهاية القرن التاسع عشر إلى ملجأ للذين أوقعهم المرض النفسي في حالات عصبية، فحملت المستشفى اسم "العصفورية". 

وحتى اندلاع الحرب التي هجّرت نزلاءها، شكّلت المستشفى قبلة للباحثين عن العلاج من لبنان والعالم. ثم تحوّلت بمرور الأعوام إلى أطلال وصدى أصوات.  

أُسّست "العصفورية" عام 1896 على يد المبشّر المسيحي السويسري فالديماير. وكانت في حينه أول مستشفى للصحة النفسية في الشرق الأوسط. 

وقد استمر عملها حتى النصف الأول من الثمانينيات، بعدما سُجّلت أضرار طالتها نتيجة الحروب التي بدأت العام 1975، وتعذّر على القائمين عليها من لجنة بيروت التنفيذية تغطيتها.

شكّلت "العصفورية" في بيروت ملجأ للذين أوقعهم المرض النفسي في حالات عصبية
شكّلت "العصفورية" في بيروت ملجأ للذين أوقعهم المرض النفسي في حالات عصبية

أمر غير مألوف

يقول عدنان مروة، وهو طبيب نسائي وآخر رئيس للجنة، إن الوالي العثماني الذي حكم لبنان عند بناء المستشفى طلب من مؤسسها تشييد أخرى مماثلة في تركيا.  

ويوضح أن الفكرة عُدّت في ذلك الحين جديدة، من حيث أن يكون للمرضى النفسيين علاج على غرار بقية المرضى.

وفيما يلفت إلى أن الحصول على الكولوكيوم بعد التخرج كان يستوجب التدرّب في العصفورية، يستعيد تلك الأيام التي تعرّف خلالها إلى المرضى وبينهم المصابون بالفصام والهوس الاكتئابي.

ويردف بأن الأمر برمته لم يكن مألوفًا كثيرًا، فالناس لم تكن تعرف المرض العقلي.

ويشرح أن المستشفى جاءها مرضى من الدول العربية، وكانت حديقتها أشبه بالمتنزه، متداركًا بالإشارة إلى ما خربته الحرب، وإلى ما سُرق من المكان.

العصفورية.. مستشفى دولية

بدوره، يلفت مختار منطقة الحازمية إيلي الغاوي إلى أن العصفورية ضمّت مباني بأسماء مختلفة؛ منها فيلادلفيا، والمبنى السويسري، والمبنى الأميركي، ومبنى لبنان.

وفيما يصفها بـ"المستشفى الدولية"، يوضح أن مرضاها كانوا من أنحاء مختلفة من العالم، ومن كل الطوائف والمذاهب.

ويشير إلى أن ما بقي منها هو 3 مبان، ذاك الخاص بمدير المستشفى أنترنيك مانوكيان، والمبنى الذي شغله منزلًا، فضلًا عن بقايا سجن المستشفى اللبناني للأمراض العصبية والعقلية. 

ويردف بأن المرضى الذين لم يشكلوا خطرًا وكانوا بكامل عافيتهم سُمح لهم بالتنزه خارج المستشفى. 

تحولت مستشفى العصفورية بمرور الأعوام إلى أطلال وصدى أصوات
تحولت مستشفى العصفورية بمرور الأعوام إلى أطلال وصدى أصوات

"لم نعرف وجهتهم"

طوني رزق الله، وهو من سكان منطقة الحازمية، يذكر أنه كان يلتقي بنزيل اسمه فريد عند الحلاق، وأن مريضًا اسمه عازار كان يقصد أحد معامل البوظة بصورة يومية لإتمام الحسابات ثم العودة إلى العصفورية.

ويكشف أنه كان يتردد مع أصدقائه بين العامين 1969 و1971 إلى المستشفى. كانت تلك أيام آحاد، واعتاد حينها الدخول إلى المبنى الكبير حيث شغلت الكافيتيريا الطابق الأول.

وبحسب ما يقول، كان المرضى "غير المؤذيين" يتوزعون على الطاولات، يشربون القهوة أو يتناولون الطعام، دون أن يتبادلوا أطراف الحديث.

ويوضح أن السكان لم يشعروا بأي خوف من المكان، بل عدّوا وجوده طبيعيًا، معربًا عن أسفه لما أصابه، مشيرًا إلى أن المرضى أُبعدوا بعد اندلاع الحرب بسبب تساقط القذائف، "ولم نعرف وجهتهم".

كان يُسمَح للمرضى الذين لا يشكلون "خطرًا" بالتنزه خارج المستشفى
كان يُسمَح للمرضى الذين لا يشكلون "خطرًا" بالتنزه خارج المستشفى

مظلمة مي زيادة

من ناحيتها، تشير الكاتبة والروائية ماري القصيفي إلى أن خوفًا رافقها منذ سنوات طفولتها، التي ارتبطت بأقاويل عن العصفورية. 

تشرح أن عمها ونساء قريتها عملوا في المكان، في تشييد البناء أولًا ثم بوصفهم ممرضين وإن كانوا غير متمرّسين، مشيرة إلى ما راودها من أسئلة وما لاحظته من مفارقة أن تُبنى حياة وأسر من مكان يشهد هذا القدر من المعاناة.

جاءت ماري إلى العصفورية للمرة الأولى عند كتابة روايتها الأولى: "كل الحق عَ فرنسا"، ذلك لأن فصلًا منها يتعلق بالمستشفى. 

وتلفت إلى أن علاقتها بالمكان قادتها بطبيعة الحال إلى مي زيادة، التي راحت تهتم بها بوصفها امرأة في مجتمع ذكوري، كان يُعتقد أنه سيكون مثقفًا ومنفتحًا، إلا أنه تخلى عنها بعد إدخالها إلى العصفورية. 

وتؤكد أن الأديبة اللبنانية تعرّصت لظلم لا يوصف، مع طمع أقربائها بنصيبها من الميراث وعدم السؤال عنها بعدما أودعت في هذا المكان. 

"عالم قائم بذاته"

جوزيان سكاف، الاختصاصية في الطب النفسي والأعصاب، أقامت أيضًا داخل العصفورية، التي تصفها بأنها كانت عالمًا قائمًا بذاته. 

وتلفت إلى أن المستشفى كانت أشبه بقرية صغيرة، ننتقل فيها من بيت إلى آخر لمعاينة المرضى، وفق ما يُسمى بـ"العلاج المجتمعي"، الذي بدأ الإنكليز تطبيقه.   

وتشرح أن الأطباء كانوا ينظرون إلى المرضى بوصفهم مسؤولين أيضًا ومشاركين في علاجهم، لذا أمكنهم الخروج والعودة إلى المستشفى.

وبينما تلفت إلى ما انتهى إليه حالهم بعد اندلاع الحرب، تقول إن بعض الأهالي لم يرغب بعودة المريض إلى المنزل أو لم يكن بمقدورهم استقباله مجددًا.

وتقول إن منهم من اضطر لإيجاد تلك المساحة، فيما توجّه مرضى آخرون إلى دير الصليب أو مأوى العجزة أو الشارع.

"الهرب ممنوع" 

ذكريات مغايرة يتحدث عنها د ف، السجين السابق في سجن العصفورية، لم تمحَ من وجدانه بمرور ما يزيد عن 35 عامًا.

يقول إنه أقام في السجن 6 أشهر بعد بضع أسابيع قضاها في سجن رومية. ويستذكر بين الأطلال شهرًا قضاه في غرفة التجارب، وكيف انهال عليه رجال الأمن بالضرب بعد بضع كلمات تفوّه بها.

يردف بأنه وقف وسط الباحة تحت أنظار السجناء، الذين شاهدوا ما تعرّض له، وقال له الدرك: هنا الهرب ممنوع. ويضيف: فقدت وعيي على الأثر، فنقلوني إلى غرفة الاستحمام واستعدت وعيي تحت الماء.  


المزيد عن مستشفى العصفورية، وما قيل عن نزلاء رفض أهاليهم استعادة جثامينهم بعد موتهم، وروايات أخرى في الحلقة المرفقة من برنامج "الجار الغريب".

المصادر:
العربي

شارك

Close