تصبح كابلات الاتصالات الممتدة في أعماق البحار هدفًا في أوقات التوتر الجيوسياسي، وهي ليست هدفًا مستجدًا، ففي عام 1898 وخلال الحرب الإسبانية الأميركية عمدت الولايات المتحدة لقطع الاتصالات عن كوبا.
وتنقل صحيفة "الغارديان" عن الملازم أول في البحرية الأميركية كاميرون وينسلو الذي نفّذ المهمة آنذاك قوله: "يبدو أن كابل التلغراف المغطى بالرصاص يزن أطنانًا، ولم يساعد الطقس في محاولات رفعه من قاع البحر وقطعه". وكتب وينسلو: "لقد ضربت المياه الهائجة القوارب الثقيلة معًا، مما أدى إلى كسر ألواحها الخشبية وسحقها تقريبًا".
ثم تمكن جنود وينسلو من قطع الكابل بالمناشير وتعطيل اتصالات كوبا عن طريق قطع جزء طوله 46 مترًا من كابل التلغراف. وبحسب موقع "أتلانتك كابل"، كان لقطع الكابلات التي تربط كوبا ببقية العالم في مايو/ أيار 1898 أهمية إستراتيجية في الحرب الإسبانية الأميركية.
"عمل تخريبي" في بحر البلطيق
بعد مرور أكثر من قرن على الحادثة، تتعرض كابلات الاتصالات مجددًا للتهديد، ففي في 17 و18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، تعرض كابلان من الألياف الضوئية الممتدة تحت سطح بحر البلطيق لأضرار في عمل قال وزير الدفاع الألماني، بوريس بيستوريوس، إنه على الأرجح عمل تخريبي. وقالت الشرطة السويدية إن حاملة البضائع الصينية، يي بينغ 3، التي كانت في منطقة الكابلات عندما تم قطعها، "محط اهتمام".
وتتلخص الخلفية الجيوسياسية للتهديد القائم ضد الكابلات البحرية في الهجوم الروسي لأوكرانيا، وسلوك الصين في التعامل مع تايوان، ولكنها كانت منذ فترة طويلة هدفًا واضحًا.
وتحمل الكابلات - التي تكون سميكة مثل خرطوم الحديقة عند وضعها في المياه العميقة - 99% من حركة الاتصالات الدولية للاستخدام الشخصي والتجاري والحكومي. ويوجد 530 نظام كابل بحري في الخدمة حول العالم، تمتد لأكثر من 850 ألف ميل.
وتعد خريطة الكابلات البحرية العالمية النموذجية تمثيلاً مرئيًا صارخًا لاتصال العالم وقابلية تعرضه للاضطراب. تسهل هذه الكابلات معاملات مالية بقيمة تريليونات الدولارات يوميًا، وتحمل اتصالات حكومية حساسة ومكالمات صوتية، وتنقل البيانات عبر الإنترنت.

وبحسب "الغارديان"، يقول الدكتور سيدهارث كوشال، وهو زميل أبحاث كبير في المعهد الملكي للخدمات المتحدة، وهو مركز أبحاث متخصص في الدفاع والأمن: "إن الكابلات البحرية حيوية للاقتصاد العالمي، وبالتالي فهي ذات أهمية واضحة لأي دولة ترغب في إثارة المشاكل"، لافتًا إلى أن كمية البيانات العالمية التي تمر عبر هذه الكابلات، فستجد أن عواقب الأضرار المستمرة كبيرة جدًا".
اهتمام روسي بخارطة الكابلات
ومع ذلك، ونظرًا للكم الهائل من الكابلات حول قاع البحار في العالم، فإن أي هجوم مدمر حقًا سيتطلب إجراءً مستدامًا وعلنيًا للغاية.
وقد تورط الغرب في التنصت على الكابلات لأغراض المراقبة بعد أن أظهرت الوثائق التي سربها المخبر المتعاقد السابق مع وكالة الأمن القومي الأميركي إدوارد سنودن أن شركات الاتصالات الرائدة منحت وكالة التجسس البريطانية GCHQ إمكانية الوصول إلى الكابلات البحرية.
وقالت شركة "ريكورديد فيوتشير" الأميركية للأمن السيبراني في تقرير لها العام الماضي إن روسيا تراقب أنظمة الكابلات البحرية عن كثب. وأضافت: "لقد أظهرت روسيا، الحريصة على إلحاق الألم بالغرب بسبب دعمها لأوكرانيا، نية متزايدة لرسم خريطة لنظام الكابلات البحرية، الذي من المحتمل جدًا أن يؤدي إلى تخريب أو تعطيل محتمل".
وفي عام 2015، ذكرت صحيفة "نيويورك تايمز" أن الغواصات وسفن التجسس الروسية كانت تعمل "بعدوانية" بالقرب من الكابلات البحرية الممتدة من بحر الشمال إلى شمال شرق آسيا.
100 حادث سنوي في الكابلات البحرية
كذلك، ذكر تقرير صادر عن مكتب التدقيق الوطني التايواني أن السفن الأجنبية دمرت الكابلات التي تربط البلاد بجزرها الخارجية 36 مرة منذ عام 2019، حيث سُجلت 12 حادثة العام الماضي. وقامت مجموعة متنوعة من السفن بما في ذلك قوارب صيد وقوارب شحن وجرافات رمال في تدمير الكابلات.
في فبراير/ شباط 2023، تعرض كابلان يربطان تايوان بجزر ماتسو النائية للتلف في غضون أيام بسبب قارب صيد صيني وسفينة شحن صينية، مما تسبب في تباطؤ اتصالات الإنترنت وانقطاع المكالمات الهاتفية، فيما وصفه أحد المحللين بأنه محاولة "تجريبية" لفرض "حصار غير مرئي" على تايوان.
ويسجّل أكثر من 100 خطأ في الكابلات البحرية كل عام، وفقًا لشركة "ريكوردد فيوتشير"، والتي يتم تعريفها على أنها حوادث تتلف فيها الكابلات أو تنقطع بالكامل، مما يعطل قدرتها على نقل البيانات. وتعد معظم الأضرار عرضية، وغالبًا ما تكون ناجمة عن شباك سفن الصيد أو السفن التي تسحب مراسيها. وفي إحدى الحالات في عام 2022، تضررت الكابلات بسبب ثوران بركاني قبالة سواحل تونغا.
يقول هوارد كيدورف، الشريك الإداري في شركة "بايونير" للاستشارات، التي تقدم المشورة للشركات بشأن شبكات الكابلات البحرية، إن الخطوط المغلفة بالفولاذ يمكن قطعها "بسهولة إلى حد ما". ويقول: "لقطع كابل عمدًا، تستخدم وسائل الكسر العرضي كمرساة أو أي خطاف آخر في نهاية حبل من السلسلة".
وحتى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، كانت لدغات أسماك القرش تمثل أيضًا مشكلة بالنسبة لكابلات التلغراف، على الرغم من عدم حدوث مثل هذه الهجمات في العقود الأخيرة، وفقًا للجنة الدولية لحماية الكابلات، التي تقول إن غالبية أعطال الكابلات منذ عام 1959 كانت ناجمة عن الصيد والمراسي.
وتكلف أعمال إصلاح الكابلا أثمانًا باهظة وتستغرق وقتًا طويلاً لإنجازها، حيث تصل الكابلات عبر المحيط الأطلسي إلى حوالي 4000 متر في أعمق نقطة لها.
وتبلغ تكلفة إصلاح الكابل البحري حوالي 40 ألف دولار للميل، بينما يتكلف الكابل الجديد عبر المحيط الأطلسي ما بين 200 مليون و250 مليون دولار، وفقا لمجموعة الأبحاث "دي جي تي أل إنفرا".