الخميس 28 مارس / مارس 2024

شريان حياة عمره آلاف السنين.. نهر دجلة التاريخي "يصارع الموت"

شريان حياة عمره آلاف السنين.. نهر دجلة التاريخي "يصارع الموت"

Changed

برنامج "عين المكان" يفتح قضية الجفاف في العراق وأسباب تصحر بلاد الرافدين (الصورة: غيتي)
كان منسوب نهر دجلة منخفضًا هذا الصيف في بغداد لدرجة أن شبانًا كانوا يلعبون الكرة الطائرة في وسط النهر. وكانت المياه تصل بالكاد إلى مستوى خصورهم.

"يصارع" نهر دجلة التاريخي، الذي روى جنة عدن وسومر وبابل عبر التاريخ الموت، حيث يهدّد النشاط البشري الجائر وتغيّر المناخ بمحو شريان حياة عمره آلاف السنين.

ويواجه العراق، الذي يبلغ عدد سكانه 42 مليونًا، ويُعتبر مصدرًا للحضارة وللزراعة، كوارث طبيعية لا تعد ولا تحصى.

بدءًا من إبريل/نيسان الماضي، تجاوزت درجة الحرارة 35 درجة مئوية، وتوالت العواصف الرملية. وفي فصل الصيف، الذي يعتبره العراقيون "موسم الجحيم"، وصلت درجة الحرارة إلى 50 درجة مئوية، وانقطعت الكهرباء بسبب زيادة الضغط على الشبكة.

وأشارت الأمم المتحدة إلى أن العراق أصبح اليوم واحدًا من أكثر خمسة بلدان في العالم عرضة لعواقب تغيّر المناخ: من الجفاف، وانخفاض نسبة الأمطار، وارتفاع درجات الحرارة، والتصحّر المتسارع.

وأثّرت هذه التداعيات المناخية على نهر دجلة مع تراجع الأمطار، ناهيك عن السدود المبنية عند منبع النهر في تركيا.

وأجبرت هذه الكارثة البيئية السكان على ضفاف النهر، من المنبع العراقي في الشمال إلى البحر في الجنوب، على تغيير أسلوب حياتهم.

تناقص المياه

في جبال كردستان عند تقاطع العراق وسوريا وتركيا، يكسب السكان لقمة عيشهم من خلال زراعة البطاطا وتربية الأغنام.

وقال بيبو حسن دولماسا (41 عاما)، المتحدّر من قرية زراعية في منطقة فيشخابور على الحدود السورية- التركية لوكالة فرانس برس: "حياتنا تعتمد على نهر دجلة، وكذلك عملنا وزراعتنا. فإذا انخفض منسوب المياه، ستتأثر زراعتنا ومنطقتنا بالكامل".

وأشار إلى أن مياه النهر تتناقص يومًا بعد يوم، بعد أن كانت تتدفق في سيول".

وتتهم السلطات العراقية والمزارعون الأكراد في العراق تركيا بقطع المياه عن طريق احتجازها في السدود التي أنشأتها على المجرى قبل وصوله الى العراق.

وتؤكد الإحصاءات الرسمية ذلك، إذ لا يتجاوز مستوى نهر دجلة لدى وصوله من تركيا هذا العام، نسبة ال 35% من متوسط الكمية التي تدفقت على العراق خلال الأعوام الـ100 الماضية.

وكلما ازداد احتجاز المياه، قلّ تدفق النهر الذي يمتدّ على 1500 كيلومتر، قبل أن يندمج مع توأمه نهر الفرات ويلتقيا في شط العرب الذي يصب في الخليج.

ويشكّل هذا الملف مصدرًا للتوتر. وتطلب بغداد بانتظام من أنقرة الإفراج عن كميات أكبر من المياه. وردا على ذلك، دعا السفير التركي لدى العراق علي رضا غوني، في يوليو/تموز الماضي، العراقيين إلى "استخدام المياه المتاحة بفعالية أكبر"، مضيفًا في تغريدة أن "المياه مهدورة على نطاق واسع في العراق".

من جهتهم، يتحدث الخبراء عن أساليب ريّ طائشة، مشيرين إلى إنه كما في زمن السومريين، يستمر المزارعون العراقيون في إغراق حقولهم لريّها ما يؤدي إلى هدر هائل في المياه.

الهجرة بسبب المياه

في بعض المناطق، يبدو النهر مثل برك ناتجة عن مياه الأمطار. فالتجمعات الصغيرة للمياه في مجرى نهر ديالى، هي كل ما تبقى من رافد نهر دجلة في وسط العراق الذي بدونه، لا يمكن زراعة أي شيء في المحافظة.

يبدو النهر مثل برك ناتجة عن مياه الأمطار
يبدو النهر مثل برك ناتجة عن مياه الأمطار- غيتي

وبسبب الجفاف، خفّضت السلطات هذا العام المساحات المزروعة في كل أنحاء البلاد إلى النصف. ونظرا لعدم وجود كميات كافية من المياه في ديالى، فلن يكون هناك حصاد.

وشكا المزارع أبو مهدي (42 عاما) من أنه سيضطر إلى التخلي عن الزراعة وبيع ماشيته، والنزوح إلى منطقة أخرى.

وقال في حديث لوكالة فرانس برس: "لقد شردتنا الحرب (إيران والعراق في الثمانينيات). الآن سنهاجر بسبب المياه. من دون الماء سنصبح نازحين، ولا يمكننا مطلقًا العيش في هذه المناطق".

وأضاف: "استدنتُ لحفر بئر عمقه 30 مترًا، لكنه كان فشلًا تامًا"، موضحًا أنه لا يمكن استخدام المياه المالحة في الري أو للحيوانات.

وحذر البنك الدولي من أنه "بحلول عام 2050، سيؤدي ارتفاع الحرارة درجة مئوية واحدة، وانخفاض المتساقطات بنسبة 10%، إلى انخفاض بنسبة 20 % في المياه العذبة المتاحة" في العراق.

كما حذّرت الأمم المتحدة والعديد من المنظمات غير الحكومية في يونيو/ حزيران الماضي، من أن ندرة المياه والتحديات التي تواجه الزراعة المستدامة والأمن الغذائي، هي من "الدوافع الرئيسية للهجرة من الأرياف إلى المناطق الحضرية" في العراق.

وأشارت المنظمة الدولية للهجرة في تقرير أصدرته في أغسطس/ آب الماضي، إلى أنه بحلول نهاية مارس/آذار الماضي، نزحت أكثر من 3300 أسرة بسبب "العوامل المناخية" في عشر مقاطعات من وسط البلاد وجنوبها.

رواسب رملية ونفايات 

هذا الصيف، كان منسوب نهر دجلة منخفضًا في بغداد لدرجة أن وكالة فرانس برس صوّرت شبانًا يلعبون الكرة الطائرة في وسط النهر. وكانت المياه تصل بالكاد إلى مستوى خصورهم.

تحول النهر إلى ملعب للأولاد
تحول النهر إلى ملعب للأولاد - غيتي

وعزت وزارة الموارد المائية ذلك إلى "الرواسب الرملية" التي لم تعد تنصرف باتجاه الجنوب بسبب نقص تدفّق المياه، وبالتالي تراكمت في قاع دجلة واختلطت بالمياه المبتذلة، ما أدى إلى صعوبة تدفق مياه النهر.

وأرسلت الحكومة آلات لشفط الرمال الراكدة في قاع النهر، لكن بسبب نقص الموارد، توقّفت غالبية المضخات عن العمل.

وقالت الناشطة البيئية هاجر هادي (28 عامًا): إن هناك "قلة إدراك" لحجم المشكلة من جانب الحكومة والسكان، علما أن "العراقيين يشعرون بالتغيرات المناخية التي تترجم بارتفاع درجات الحرارة وانخفاض منسوب المياه وتراجع هطول الأمطار والعواصف الترابية".

وأوضحت الشابة، التي تعمل منذ عام 2015 مع منظمة "المناخ الأخضر" العراقية غير الحكومية خصوصًا في الأهوار لحماية البيئة ودعم السكان الأكثر ضعفًا، أن "هذه العواصف الترابية لا تأتي من العدم، بل من زيادة التصحّر وقلة المساحات الخضراء".

وشرحت أن "نقص المياه من الدول المجاورة يزيد الجفاف وبالتالي التصحر".

تربة مالحة 

وفي رأس البيشة، على حدود العراق وإيران والكويت، يتدفق شط العرب إلى الخليج.

وقال الملا عادل الراشد، وهو مزارع نخيل يبلغ 65 عامًا: "انظروا إلى أشجار النخيل هذه، إنها عطشى. تحتاج إلى الماء. هل أرويها بالكوب؟".

وأضاف: "انتهى نهرا دجلة والفرات. لا توجد مياه عذبة، لم تعد هناك حياة. فالمياه مالحة". ومع انخفاض منسوب المياه العذبة، بدأت مياه البحر تغزو شط العرب. وتشير الأمم المتحدة والمزارعون بأصابع الاتهام إلى تداعيات تملّح المياه على التربة وانعكاساته على الزراعة والمحاصيل.

انخفضت مياه دجلة إلى مستويات هائلة
انخفضت مياه دجلة إلى مستويات هائلة- غيتي

ويشتري الملا عادل الراشد المياه العذبة من صهاريج حتى يتمكن من الشرب هو وحيواناته. وقال: إن الحيوانات البرية تغامر بالذهاب إلى المنازل للحصول على مياه الشرب من السكان.

وأضاف بحزن: "حكومتي لا تزودني بالمياه. أريد ماء، أريد أن أعيش، أريد أن أزرع، كما فعل أجدادي الذين زرعوا أشجار النخيل واستفادوا من التمر".

تملّح المياه 

بعد يوم من الصيد في شط العرب، يعود نعيم حداد حافي القدمين بقاربه إلى منزله. وعلى أطراف البصرة في أقصى جنوب العراق، تستقبله إحدى بناته الخمس على الضفة فيما يعرض كيسًا مليئًا بالسمك.

وقال الرجل الأربعيني: "نكرّس حياتنا للصيد بالتوارث"، مشيرا الى أن ذلك هو مصدر رزقه الوحيد الذي يسمح له بإعالة أسرته المكونة من ثمانية أفراد، "فلا راتب حكوميا، ولا علاوات".

وأضاف: "في الصيف، لدينا مياه مالحة، ومياه البحر ترتفع وتصل إلى هنا".

ومطلع أغسطس الماضي، أفادت السلطات المحلية بأن مستوى الملوحة في شط العرب في شمال البصرة بلغ 6800 جزء في المليون.

من حيث المبدأ، لا تتجاوز نسبة الملوحة في المياه العذبة ألف جزء في المليون، وفقا لمعايير المعهد الأميركي للجيوفيزياء الذي يحدّد مستوى المياه "المتوسطة الملوحة" بين ثلاثة و10 آلاف جزء في المليون.

وأدت ملوحة المياه في شط العرب إلى هجرة أنواع معينة من أسماك المياه العذبة التي تحظى بشعبية كبيرة لدى الصيادين، ما أدى إلى ظهور أنواع أخرى تعيش عادة في أعالي البحار.

وقال حداد: "إذا نزلت المياه، انخفض الصيد وقلّت مصادر رزقنا".

المصادر:
العربي - أ ف ب

شارك القصة

تابع القراءة