لم يكن وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان مجرد دبلوماسي عادي، بل رجل الظلال الذي حمل ملفات الصراع، وعرّاب التحالفات الصامتة.
ففي مذكّراته المعنونة "صبح الشام – رواية عن الأزمة السورية"، دوّن عبد اللهيان حكاية إيران في المشرق، وسجّل أسرار وخفايا سنوات الدم والنار حين كانت بلاده آلة في ترسانة القصف، وشريكًا في السماء بالأسلحة والعمليات، وفاعلًا في دبلوماسية التأثير والإقناع.
يروي الكتاب ما أسماه عبد اللهيان "الحرب الإرهابية على سوريا"، مقدّمًا رواية طهران الرسمية للأحداث، ومبرّرًا تدخلها العسكري والسياسي في الأزمة.
وفي تعريفه للكتاب، كتب عبد اللهيان:
"يعود الفضل في تدوين هذه المذكرات إلى البطل الأممي في مكافحة الإرهاب اللواء العزيز الحاج قاسم سليماني. فقد طلب مني اللواء سليماني، في اجتماع لنا قبل عام من ارتقائه إلى الملكوت شهيدًا، أن أدوّن وأنشر قسمًا من ذكرياتي".
ويقول الباحث في الشأن الإيراني ضياء قدّور، في حديث لبرنامج "مذكّرات" على التلفزيون العربي، إنّ الكتاب "ليس مذكرات شخصية لوزير خارجية، بل يحمل رسائل للسياسة الخارجية الإيرانية، ويقدّم الرواية الرسمية لطهران".
في المقابل، يرى عبد الرحمن الحاج، مؤلف كتاب "البعث الشيعي في سوريا"، أنّ الكتاب "يحاول تقديم التبريرات والمسوّغات للوجود الإيراني في سوريا من دون التطرق إلى نتائجه على المنطقة".
من هو حسين عبد اللهيان؟
في ستينيات القرن الماضي، ومن قلب دامغان شرق العاصمة طهران، وُلد حسين أمير عبد اللهيان ليحفر اسمه لاحقًا في سجل الدبلوماسية الإيرانية.
تلقّى تعليمه الأساسي في مسقط رأسه، قبل أن ينتقل إلى طهران ليلتحق بكلية العلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية، حيث درس العلاقات الدولية حتى نال الدكتوراه بامتياز، مُؤسسًا لفكر استراتيجي يجمع بين العمق الأكاديمي ودهاء السياسة.
تنقّل بين سفارات بغداد والمنامة، وخاض غمار المفاوضات النووية وأزمات الشرق الأوسط بعينٍ لا تُغفل التفاصيل.
وبصلاته الوثيقة مع الحرس الثوري وقائد "فيلق القدس" قاسم سليماني، نسج عبد اللهيان تحالفات أعادت رسم موازين القوى في المنطقة.
لم يكن مجرّد دبلوماسي، بل أشبه بقائد ميداني في ثوب وزير خارجية، يتولّى السياسة في زمن كانت المنطقة تشتعل نارًا، ليترك إرثًا لا يُمحى رغم رحيله المفاجئ.
ويقول الدبلوماسي الإيراني محمد مهدي شريعتمدار في حديث لـ"التلفزيون العربي"، إن عبد اللهيان عمل طوال حياته في وزارة الخارجية، وكان سفيرًا لإيران في كلّ من بغداد والمنامة، كما شغل مناصب عدّة، حيث كان مساعدًا للأمين العام لشؤون الخليج، وأمينًا عامًا لشؤون الشرق الأوسط، ومستشارًا لوزير الخارجية، ولمجلس الشورى، ومديرًا عامًا للشؤون الدولية فيه".
من جهته، أوضح الحاج أنّه بسبب صلته العميقة بالحرس الثوري الإيراني، شهدت وزارة الخارجية في عهد عبد اللهيان أول تدخّل للحرس الثوري في وزارة الخارجية.
كيف غيّرت طهران موقفها من "الربيع العربي"؟
في بدايات الربيع العربي، فتحت إيران ذراعيها لما سمّاه عبد اللهيان "الصحوة الإسلامية"، مرحّبة بالحراك الشعبي في المنطقة.
لكن حين وصلت رياح التغيير إلى دمشق، انقلب الخطاب رأسًا على عقب: لم تعد "ثورة"، بل "مؤامرة". فقد رأت طهران في المشهد السوري محاولة منظمة لتفكيك الدولة، ومقدمة لمخطط "صهيو-أميركي" يهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة بأسرها.
أكثر من ذلك، لم تكن سوريا بالنسبة إلى عبد اللهيان "مجرد حليف"، بل "خط الدفاع المتقدّم في معركة بقاء المحور بأكمله"، إذ يُسجّل في مذكراته بالأرقام آثار ما يسميه "الحرب الإرهابية على سوريا":
400 ألف قتيل، و500 ألف جريح، و7 ملايين نازح ولاجئ.
أرقام ثقيلة تختصر المأساة السورية، لكنها تُخفي السؤال الذي لم يُجب عنه عبد اللهيان: من قصف المدن؟ من ألقى البراميل المتفجرة؟ ومن ملأ الزنازين بالمعتقلين؟
"بدأت الأحداث في سوريا بعد ثلاثة أشهر متأخرة عمّا حصل في تونس ومصر واليمن والبحرين، ما يعني أنّ الرأي العام السوري لم يكن مستعدًا بعد للتأثر بالتحولات التي حصلت في شمال إفريقيا وغرب آسيا".
ويرى قدّور أنّ طهران، بخلاف موقفها من ثورات أخرى، صوّرت الثورة السورية كصراع ضد "الإرهاب الصهيو–أميركي"، متجاهلة الأسباب الداخلية من استبداد وفساد ومظالم شعبية.
أما الحاج، فيشير إلى أنّ عبد اللهيان اعتبر أنّ "سوريا لم تكن قابلة للثورة، وأنّ ما جرى فيها فوضى من تدبير أطراف خارجية".
ماهو موقف إيران من الربيع العربي وكيف تغير خطابها مع اندلاع الثورة السورية؟ شاهدوا التفاصيل في حلقة جديدة من برنامج #مذكرات، حصريًا على تطبيق العربي بلس حمل التطبيق الآن: https://t.co/lCQENEyNm3 pic.twitter.com/yxcE8lhrcY
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) September 23, 2025
"استهداف لمحور المقاومة"
يقول شريعتمدار إنّ دور سوريا كبلد يتمثّل في دعمه لمحور المقاومة في المنطقة، ولذلك بغضّ النظر عن الشخص الذي يحكمها، فإنّه يتمتّع بدور مهم في الصراع الفلسطيني العربي الإسلامي مع الكيان الإسرائيلي.
ويشرح الحاج أنّ عبداللهيان كان ينظر إلى استهداف سوريا على أنّه استهداف لإيران، وأنّ المخطط لزعزعة المنطقة يتمثّل في أنّ سوريا تمثل الحلقة التي يمكن أن تؤدي إلى سلسلة من التداعيات في لبنان وفي العراق، وتنتهي إلى إيران".
ويضيف الحاج أنّ إيران تُدرك أنّ سوريا "تُشكّل حلقة رئيسية أو رأس المحور الإيراني، حلقة الوصل، إذ إنّ إمداد "حزب الله" بالسلاح يمرّ من سوريا، والنفوذ الإيراني في فلسطين يمر من خلال سوريا، وجسر العبور إلى البحر المتوسط يمر من خلال سوريا، وبالتالي، فانّ الضغط على الدول العربية بطبيعة الحال يمر من خلال سوريا". ويتابع:
"إيران كانت معنية بالدفاع عن مصالحها في سوريا إلى حدّ أن عبد اللهيان كان يتحدث عن أنّ وجود حليف قوي مثل الأسد يضمن تلك المصالح، فبات الدفاع عن بشار الأسد دفاعًا عن المشروع الإيراني بأكمله".
دعم عسكري واقتصادي لإنقاذ النظام
تنوعت المساعدات الإيرانية لنظام الأسد طيلة الأزمة التي استمرّت سنوات، وفق الحاجة الميدانية. فخلال حصار دمشق الذي استمر أربعين يومًا، وأوشك على إسقاط العاصمة، أرسلت طهران كميات كبيرة من المساعدات.
ويقول قدّور إنّ الدعم الإيراني لنظام الأسد كان "متعدد المستويات": عسكريًا ولوجيستيًا واقتصاديًا، من شحنات النفط إلى ميناء بانياس، حتى الأيام الأخيرة قبل سقوط النظام في ديسمبر/ كانون الأول 2024.
ويضيف الحاج أن طهران "استعانت بكل أذرعها الإقليمية، من حزب الله والعراقيين إلى الحوثيين، لحماية الحلقة الأضعف في المحور السوري".
وقد حوّلت إيران المطارات السورية، المدنية والعسكرية (دمشق، حلب، تي فور، الشعيرات)، إلى محطات لتهريب الأسلحة ونقل المقاتلين والميليشيات متعددة الجنسيات.
وبحسب الحاج، لم يقتصر تدخل إيران في سوريا على تقديم الدعم العسكري، بل كان هناك حضور إيراني مباشر على الأرض السورية. بخلاف ما تقول الرواية الإيرانية.
تدخّل الميليشيات بذريعة عقائدية
لم يكن التدخل الإيراني، بحسب مذكرات عبد اللهيان، مجرد عمل سياسي أو عسكري، بل امتدادًا عقائديًا ودينيًا. فدمشق، بأحيائها القديمة ومقاماتها المقدسة، كانت في عيون الإيرانيين أرضًا مباركة تمزج بين البعد المذهبي والاستراتيجي وتجعل من سوريا أكثر من مجرد ساحة نفوذ بل امتدادًا للهوية.
وفي هذا الإطار، يقول عبد اللهيان:
"إنّ الدفاع عن حرم أهل البيت أمر ديني عقائدي لا يميّز بين الإيراني والعراقي واللبناني والأفغاني والباكستاني والبحريني واليمني، لذا يندفع الشباب المتحمسون من مختلف الدول نحو هذا العمل".
كانت دماء هؤلاء الشباب تفور وكانوا يرغبون في القيام بعمل ما. في مرحلة زمانية معيّنة كان بعض هؤلاء الأشخاص في سوريا والعراق، قد طلبوا من الحكومات تسهيلات ليتمكّنوا من الدفاع عن الحرم. لذلك جرى إعداد مخطط في سوريا يُمكّن الأفراد من الحضور بهوياتهم الشخصيّة والمنظّمة وبالتالي المساعدة في حفظ أمن هذه المناطق.
ويشرح الحاج أنّ هؤلاء المقاتلين عُرفوا باسم "مدافعي الحرم"، جُنّدوا من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، تحت غطاء حماية المزارات الشيعية في سوريا.
كيف أقنعت طهران موسكو بالتدخّل في سوريا؟
يُبرز عبد اللهيان في مذكراته الدور المركزي لقاسم سليماني في الساحة السورية، واصفًا إياه بـ"الجنرال العالمي"، حيث يقول إنّه كان يجمع بين القيادة الميدانية والتخطيط السياسي، وكان ينسّق العمليات العسكرية والدبلوماسية في آنٍ واحد.
وحول هذه النقطة، يقول شريعتمدار إنّ "سليماني كان يرى أنّ المواجهة مع المشروع الصهيو–أميركي لا تكتمل إلا عبر الدبلوماسية"، لذلك أقام علاقة قوية مع عبد اللهيان ووزراء الخارجية.
في المقابل، يكشف قدّور أن سليماني "كان صاحب مشاريع الحصار والتجويع في المناطق السورية"، وأنه كان صاحب الفضل الأكبر في إقناع روسيا بالتدخل العسكري عام 2015، وهو ما غيّر مجريات الحرب جذريًا.
ويكتب عبد اللهيان في مذكراته:
"الإجراءات التي اتخذها سليماني، ولقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالإمام القائد خامنئي في طهران، كانت من الأسباب الرئيسية وراء تدخل موسكو عسكريًا في سبتمبر/ أيلول 2015".
ويضيف:
"استخدمت روسيا قواتها الجوية لمساندة القوات السورية المسلحة في عمليات تحرير مدينة حلب، وساهم ذلك في تغيير موازين القوى مما أدى لتحرير ثاني أكبر المدن السورية. كما ساعدت إيران الروس في سوريا بناء على رؤيتها الاستراتيجية وجرى هذا الأمر في إطار الاتفاق العسكري بين البلدين".
ويقول شريعتمدار إنّ سليماني هو الذي بادر بالذهاب إلى موسكو والحديث مع الرئيس بوتين، حيث أقنعه بضرورة الحضور الروسي في سوريا، ولو أنه بقي محدودًا بالحدود التي كانت تريدها روسيا".
لكن، بعد هذا التدخل، كما يوضح قدّور، "شهدت المعارضة السورية انتكاسات كبرى، أبرزها سقوط حلب عام 2016، وتثبيت روسيا قواعد عسكرية متعددة في الأراضي السورية".
ما هو الدور الذي لعبه اللواء قاسم سليماني في الساحة السورية؟ شاهدوا التفاصيل في حلقة جديدة من برنامج #مذكرات، حصريًا على تطبيق العربي بلس حمل التطبيق الآن: https://t.co/lCQENEyNm3 pic.twitter.com/vg82rFSGpx
— التلفزيون العربي (@AlarabyTV) September 23, 2025
كيف علّقت طهران على استخدام الأسد للسلاح الكيميائي؟
ينكر عبد اللهيان في مذكراته استخدام النظام السوري للأسلحة الكيميائية، ويتّهم المعارضة بتلفيق هذه التهمة لتبرير التدخل الأميركي في الصراع، عبر توجيه ضربات للنظام السوري.
ويؤكد الحاج أنّ عبد اللهيان "اعترف بامتلاك النظام السوري للسلاح الكيميائي، لكنّه حمّل المعارضة مسؤولية الهجمات في 21 اغسطس/ آب 2013، وهو ما يُناقض الحقائق والتقارير الدولية، "في محاولة لتغطية ارتكاب النظام السوري عمليات إجرامية واسعة النطاق"، وفق قوله.
من جهته، يقول قدّور إنّ "الرواية الإيرانية التي أنكرت المجازر الكيميائية في دوما أضعفت مصداقية طهران، بالمقارنة مع التقارير الدولية التي تستند إلى أدلة ميدانية دقيقة ومستقلة بناء على تحقيقات مستقلة".
رواية تصمت في الظل
تُقدّم مذكرات عبد اللهيان الرواية الرسمية الإيرانية لتدخّلها في سوريا، باعتباره دفاعًا عن محور المقاومة ووحدة الأراضي السورية، في مقابل مؤامرة خارجية لتفكيكها من الداخل.
لكن النتيجة، كما يعلّق قدّور، "أنّ ملايين السوريين اليوم مشرّدون في الخيام وفي المنافي، والسبب المباشر هو التدخل الإيراني العسكري ودعم موسكو للنظام".
ويضيف الحاج أنّ عام 2016 شهد "أكبر نشاط روسي في الحرب عبر حملة استعادة حلب، التي رافقها استخدام متكرّر للأسلحة الكيميائية لأكثر من 27 مرّة".
وفي مايو/ أيار 2024، سقطت مروحية في شمال إيران، أودت بحياة عبد اللهيان والرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، في حادث غامض أنهى حياة أحد أبرز مهندسي المشروع الإيراني في المنطقة.
رحل عبد اللهيان، الرجل الذي بقي حتى لحظاته الأخيرة في قلب الملفات، وعلى رأسها الملف السوري.
يقول قدور إنّه "لو كان عبد اللهيان حيًّا وشهد ما آلت إليه الأمور بعد سقوط النظام السوري وإخراج إيران من سوريا، لكان تبرير الرواية الرسمية التي دافع عنها أصعب عليه من أي وقت مضى".
بيد أنّ اللافت في هذه المذكرات هو الانتقائية الشديدة في عرض الأحداث؛ إذ يختار عبد اللهيان بعناية كل ما يُعزّز روايته ويغفل عمدًا ما يُناقضها، فهو يُفرد صفحاتٍ للحديث عن "الإرهاب" الذي تُتّهم به المعارضة بينما يتجاهل تمامًا مشاهد القصف العشوائي والبراميل المتفجّرة والاعتقالات العشوائية والتعذيب الممنهج في سجون النظام.
باختصار، هي رواية تتكلّم وأخرى تصمت في الظل.